لم تأخذنا المفاجأة، ولم نقع على ظهورنا لهول ما جاء في وثائق ويكيليكس المسرّبة، فكل ما فيها معروف، باستثناء بعض المعلومات الإضافية عن "شقراء ليبيا" ومشاعر بعض القادة العرب الشخصية حيال إيران وسوريا وحماس، أما مواقفهم، وسياسات دولهم وأجهزتها، فنحن نعرفها وقد تتبعاناها عن كثب، طوال السنوات الخمس أو الست الماضية بشكل خاص، حتى لا أقول أكتوينا واكتوت الأمة بنيرانها. لكن "القيمة المضافة" التي جاء بها "ويكيليكس" تتجلى في تحويل ما كان مندرجاً في السابق، في عداد التكهنات والتخرصات والأقاويل والتسريبات، إلى حقائق ووثائق، ممهورة بخاتم "سري ومكتوم"، ولم يعد بمقدور كثيرين من القادة والساسة والزعماء والمستشارين، أن يتهربوا من أقوالهم، أو يزعموا بأنهم كانوا مدافعين لا تشق لهم غبار عن الحقوق المصالح العربية والإسلامية، في كل اجتماع ولقاء ومحفل دولي، هم اليوم باتوا مكشوفين على حقيقتهم، أنهم يحملون خطابين، واحد لنا والآخر لهم، للآخر عبر المتوسط والأطلسي، إنهم يتبنون سياستين، واحدة للاستهلاك المحلي والأخرى للتساوق مع الاستراتيجيات الأمريكية في المنطقة وخدمتها. كذب المهرّجون و"السحّيجة"، وكذبت ماكينة "التزييف والتزويق" الإعلامي، وصدق "ويكيليكس"، الذي أصاب ألسنة السلطة السليطة بالتلعثم، ولوّن الوجوه الصفراء بحمرة الخجل والإحراج، وألزم الإعلام الملوث بغبار النفط والملح والرمال بالخرس، وألقم "الدعاة" المدججين بالكراهية والتحريض والنفاق، بحجر. ليس ما يقلقنا في وثائق ويكيليكس أن قادة عرباً، هبّوا زرفات ووحدانا للتحريض على إيران وسوريا وحزب الله وحماس، وصولا لقطر، فهذا أمر نعرفه منذ جولات "كوندي رايس"، واجتماعاتها بنظرائها من سياسيين وأمنيين عرب، وقد سبق لبعضهم أن مارس التحريض ضد النظام العراقي و"أسلحتة البيولوجية"، ومهّد لسقوط بغداد وشرعنة الاحتلال...ما يقلقنا أننا لم نقرأ كلمة واحدة، كلمة واحدة فقط، تطلب حلاً للقضية الفلسطينية كشرط للانسياق وراء واشنطن واتباع مشاريعها في المنطقة. لا أحد يكتربث بفلسطين أو الأراضي العربية المحتلة، الكل يريد "قطع رأس الأفعى الإيرانية"، ويستعجل الحسم العسكري مع طهران، ويتقدم بأفضل التوصيات لعزل سوريا وإسقاط نظامها، وخنق حماس في غزة، أو تدمير غزة على رأس حماس، وتصفية حزب الله، وإخراس قناة الجزيرة، ودفع قطر للالتحاق بركب محاربة الإرهاب بعد أن تخلفت عنه، ولم يعد أداؤها في هذا المجال مقنعاً...الجميع يحذر من "القنبلة النووية الشيعية"، "الضربة الآن أو العيش تحت ظلالها"، "الضربة الآن خير من العيش تحت ظلال التهديد النووي"، كلفة الحرب أقل من كلفة امتلاك طهران للقنبلة، وهكذا...تتعدد التعبيرات والمفردات والهدف واحد: رأس إيران ورؤوس حلفائها جميعاً. لا أحد أتى ذكر البرنامج النووي الإسرائيلي، ولو من باب المقايضة، لم يُذكر قط كتهديد استراتيجي ووجودي، لم يُذكر في سياق "شرق أوسط خالٍ من أسلحة الدمار الشامل" حتى من قبل صانعي هذا الشعار و"أصحاب حقوق الملكية الفكرية" فيه، ولو لمرة واحدة، وإن من باب رفع الحرج، لم يؤت على ذكر برنامج إسرائيل النووي، ولو من "مدخل تاريخي" كونه البرنامج المؤسس لسباق التسلح النووي في المنطقة، لا شيء من هذا وذاك، الكل مهموم ببرنامج طهران النووي وطموحاتها الإقليمية. كنا نظّن أن واشنطن تضغط على العرب، بعض العرب، من أجل تصعيد خطابهم ضد إيران...بعد ويكيليكس، وجدنا أن العرب، معظم العرب، يضغط على واشنطن مستعجلاً الحرب "الآن الآن وليس غدٍ...مع الاعتذار من فيروز"، ولا يمانع الائتلاف مع إسرائيل ضد إيران وبرنامجها وطموحاتها. كنا نظن، أن بعض العرب يضع طهران وتل أبيب في سلة "التهديدات الماثلة أمام الأمن القومي العربي"، وكنا نأخذ عليهم أنهم يضعون إيران الجارة التاريخية مع إسرائيل الاحتلالية الاستيطانية التوسعية في سلة واحدة، فإذا بنا مخطئين، فهؤلاء أخرجوا إسرائيل من هذه السلة، وأبقوا على إيران فيها، ليس من اليوم، بل ومنذ "السلام خيار استراتيجي وحيد". ويكيليكس نجح في نشر غسيلنا الوسخ على حباله الافتراضية (كدوائرنا الافتراضية) الممتدة عبر العالم، ونحن مدينون له في حسم الكثير من القضايا موضع الجدل والاجتهاد، وفي كشف ألغاز محطات وأحداث ومنعطفات، وفي تفسير وقائع السنوات الخمس أو الست الحاسمة الفائتة، منذ "مغامرة حزب الله غير المحسوبة" إلى "المحفل الدولي" في شرم الشيخ ضد حماس في غزة، إلى صفقات السلاح والتسلح الفلكية، إلى الائتلافات والتحالفات المريبة، إلى النزاعات العربية – القطرية، والتحرشات الخليجية (بعض الخليج) بعُمان، إلى استدعاء تركيا لمعادلة ثقل إيران الإقليمي الصاعد، ومن ثم الضيق بها وبخطابها وبرئيس وزرائها، وبداية الهجوم عليها والطعن في صدقيتها في صحف القاهرة القومية وصحف لندن الخضراء والصفراء على حد سواء.