لم يكن من باب الصدفة أن تصنف اليونسكو ساحة جامع الفنا، أو جامع الربح كمادرج الحلايقيون على تسميتها، لأنها باب أرزاقهم، كتراث شفوي للإنسانية. على مر العصور شكل هذا الفضاء الفرجوي مادة دسمة وملهمة في الآن ذاته للكثير من الشعراء ومن على شاكلتهم من الأدباء والحكواتيين، بل تفتن كل من يعرفها عبرالمقالات التي كتبت حولها في الدوريات الأوروبية والأمريكية والعربية، أو رواد الأنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي. الحديث عن جامع الفنا حديث شيق وذو رموز عجائبية، وحدهم ساكنوها الذين توحدت ذواتهم بالمكان، يحترقون كالشمعة من أجل إضاءة أفواه زائريها، ورسم الابتسامة على الشفاه والوجوه معا، وحدهم يملكون أسرارها. ودعنا أخيرا آخر حلايقي من الجيل القديم، والأمر يتعلق بصاحب الشكارة التقليدية التي يمتشقها في الشتاء والصيف، وفي كل الفصول، ولا يمارس نشاطه إلا بلباس تقليدي مكون من البلغة والجلباب، والطاقية المراكشية، رغم أنه بعين واحدة، فإنه يرى مثل النسر. إنه الراحل عبد الحكيم الخبزاوي المعروف ب"كيلي جولي" نسبة إلى عنوان أغنية اشتهر بها بساحة جامع الفنا مطلعها"كلي جولي كاع البنات تايعجبوني"، أحد رواد الحلقة القدماء ب"جامع الفنا"، الذي كان يمسك البندير ويقرعه بخفة ونشاط وهو يرقص على نغمات الدقة المراكشية بجلبابه الفضفاض ومحفظته الجلدية التقليدية التي تتدلى على صدره، ورقصاته الفريدة ذات الطابع المراكشي القح الممزوج بحس فكاهي ينتزع الضحكة منك ولو كان مزاجك ضيقا. في حلقته تمتزج المعاني وفنون القول بالأغاني الخالدة، في صنف المجموعات مثل جيل جيلالة، والغيوان، والسهام ولمشاهب، مات وترك أسراه الصغيرة والكبيرة لمجموعته التي بدت بوجوه جديدة، كأن الزمن توقف ولم تعد عقارب الساعة تدور كما ألفناها في ساحة لا تسمح إلا بالفكاهي القوي الذي ينتزع الضحكات انتزاعا من أفواه الزائرين. كم هو عجيب حال هذا الفضاء، بالأمس البعيد ودعنا باقشيش، وطبيب الحشرات والصاروخ، وغيرهم من رواد الساحة، إنهم أيقونات جامع الفنا، كما غاب عنا لاراف جامع الفنا، أو صاحب "الكطاية". في حلقة صاحب الكطاية، الرجل العريض المنكبين يحول المكان إلى غابة فيها كأصناف الحشرات والزواحف من العظايات إلى السحالي إلى الفئران، كان الحلايقي يضع على وجهه الكبير، وذراعيه عقارب كثيرة، تتجول بكل اطمئنان في تضاريس وجهه التي ترك مرض الجذري نذوبا زادها الزمن خشونة ووحشية. ولأنه يبدأ طقسه بلازمة، "ها هو بغا يتوضى"، ويقصد بذلك تعبانا أملس يهديه قربانا لكل هذه الزواحف التي تتسكع في فضاء حلقته، بصوته الخشن كأنه ينطلق من قاع بئر يطلب الصدقات، ويقدم هذه الفرجة الملونة بالدماء، حيث يعمد إلى ذبح الثعبان وشرب دمه. إنها غرائب هذا المكان، الذي يختلف عن كل أمكنة الدنيا. ذات حلقة جلب معه ثعلبا صغيرا، يظهره ويخفيه في كيس كبير من القنب، الخنشة القديمة، يحكي أنه اصطاده من الغابة المجاورة لسيدي بوعثمان في صباح من صباحات يناير الباردة، يظهره لزبناء حلقته ثم فجأة يدسه في الكيس خوفا من العيون المتلصصة، الداعية إلى احترام الحيوان. كان بوكطاية يزرع في حلقته مجموعات كثيرة من العقارب، ويلتقط بعضها ويضعها على وجهه، كل هذه العقارب منزوعة السم، ولجأ احد منافسيه إلى تسريب أحد العقارب خامة بسمها وسط المجموعة، ولم تقع عينه إلا عليها ووضعها على جبهته ضمانا أنها من قطيعه المألوف، إلا ان العقرب نالت منه، ولذغته وصار يهيم على وجهه ويقول "هذي ما شي اديالي". العديد من رموز ساحة جامع الفنا الذين خلقوا الفرجة فيما مضى، انتهى بهم الأمر إلى النسيان والإهمال، فلم يعد يتذكرهم أحد باستثناء بعض أصدقائهم في الحرفة ،رغم أن مسيرتهم المهنية مليئة بالعديد من التجارب الفريدة التي يجب الاستفادة منها وتوثيقها كما أن مجموعة من الحلايقية يعانون من الفقر المدقع والعوز الشديد وهم في أرذل العمر، فلم تشفع لهم سنوات الفرجة والعمل بساحة جامع الفنا عيشا كريما ولا استقرارا معيشيا، وغالبية هؤلاء أجبرهم المرض وكبر السن على التقاعد، وبعضهم فارق الحياة وفي حلقهم غصة الإهمال والنسيان. وحسب عبد المنعم أبو الهدى المحافظ الجهوي للتراث الثقافي فإن ذاكرة ساحة جامع الفنا لم تحتفظ ، بأسماء لصناع الفرجة الذين ضخوا فيها الحياة على امتداد وجودها،مشيرا الى أنه إذا كان بعض الأفراد المزاولون في الساحة، يعترف بهم اليوم ككنوز بشرية حية وجب الاعتناء بها و مساعدتها على تمرير وتلقين معارفها و مهاراتها للخلف، لان السلف لم يحظ بشيء من الاعتراف و التقدير، بل إن نظرة ازدراء و دونية طالتهم من طرف النخبة الوطنية المثقفة لما بعد الاستقلال، التي كانت ترى فيما يقدمونم مظهرا من مظاهر تردي الذوق و تدني الحس الفني. وأضاف أبو الهدى في تصريح ل" كش 24″ أن بعض الشخصيات تمكنت بالرغم من ذلك بفضل تميزها من شد انتباه المهتمين وحفر أسمائها في ذاكرة الساحة، من قبيل الصاروخ، المعروف بسرده لمغامرات جحا، طبيب الحشرات، المتمتع بملكة مدهشة في فن الكلام، فليفلة المهرج الذي يلازمه عود لم يعزف عليه قط، بقشيش و مول الحمار، بالاضافة الى الشرقاوي الصوفي، الملقب بمول الحمام و الذي كان يؤدي فن الحلقة ببراعة إلى جانب رفيقه بن فيدا، حيث يقدمان عروضا بوجود حمام مدجن، يتبادلانفيها الأسئلة و الأجوبة حول أصول الطيور و طبائعها، بشكل مشوق و لافت. زائر جامع الفنا يتذكر رجل في مقتبل العمر، تبدو من ملامحه انه ذكر، لكن الأمريختلف كثيرا. إنها عاشقة جيل جيلالة والمشاهب وناس الغيوان مريم أمال، أو"السواعد" كما يلقبها الحلايقية ورواد الساحة. تقول مريم التي التقتها "كش 24″ إن ساكني جامع الفنا، الذين ارتبطوا وجدانيا بالساحة هم الحلقة الضعيفة في الساحة العالمية، غالبيتهم لا يجدون ما يسد الرمق في ظل غلاء الأسعار فيضطرون الى إيقاف أنشطتهم الفرجوية ومغادرة الساحة إلىمناطق أخرى، جريا وراء لقمة العيش وأضافت السواعد وهي امرأة تختفي في هيكل رجل يفرض هيبته على مجموعة ناسغيوان جامع الفنا، بصوت شجي يصدح بالأغاني الخالدة لبوجميع والعربي باطما ،أن ساحة جامع الفنا فقدت الكثير من خصائصها الفرجوية والحكائية وتراجع اشعاعها الابداعي فلم تعد كما كانت في السابق، مشيرة الى أن دخلها اليومي لايتجاوز 40 أو 70 درهما، و100 درهم في الحالات الاستثنائية التي تتزامن مع أيام العطل. بدوره، بدأ طاطا محمد الذي يتقاسم رفقة السواعد نفس المعاناة والاكراهات، حديثه عن واقع ساحة جامع الفنا اليوم بقولة مأثورة " جامع الفنا شبعات وفنات وعطات الحساب وبعتات ولاشتيها من البعد غير سوق في الواد الكراسا والمظلات، كتروا فيهاالجمعيات شي يقول فن وشي يقول حلقة وشي يقول ثراث، وبلاصة الحكواتي اصبحت براكة لبيع السيديات". وأوضح طاطا أن جمهور الحلقة لم يعد كما كان في السابق بسبب الاشاعة التي تم تداولها بين الزوار وسكان مدينة مراكش، مفادها أن الحلايقية بساحة جامع الفنا يتقاضون 3000 درهم شهريا من طرف منظمة اليونسكو، وهذا الامر غير صحيح بالإطلاق، لان حرفيي الساحة لايتلقون أدنى دعم أو مساعدة من طرف أي جهة باستثناء بعض المساعدات الموسمية للمجلس الجماعي لمراكش في عهد عمر الجزولي العمدة السابق، بحيث كانت تقدم لهم أضاحي "العيد الكبير" ومبلغ 700 درهم شهريا بين الفينة والاخرى وهذه المساعدات لم تدم طويلا ، إذ سرعان ما توقفت هي الاخرىوتركت الحلايقية بدون أدنى التفاتة. هذه عينة فقط من واقع مر، يزداد قتامة مع كل أزمة اقتصادية تشهدها أوروبا. فالسائحون الذين كانوا يجدون على الحلايقية، تناقص عددهم، والقليل منهم من يرخييجه بالصدقات رغم الفرجة المتنوعة التي تقدمها الساحة، فالأزمة طالت الجميع، والسخاء السابق تحول إلى تقتير، وحدهم الحلايقية يصارعو من أجل البقاء.