سواء قدمت إليها من جهة «رياض الزيتون» القريب من «كافي كلاصيي» أومن جهة حي «القنارية» المحاذي «لكافي فرانس» أو اتجهت إليها من ممر «البرانس»، ستجد نفسك في ساحة عبارة عن مسرح مفتوح لا يعرف التوقف أو العطلة، في الشتاء كما في الصيف، في الصباح والمساء، في تعاقب الفصول والأزمنة، وهي حاضنة ومستقبلة لزوارها من المقيمين والوافدين من المغاربة والأجانب، الكل قادم بحثا عن فرجة جميلة وهادفة. بعدما كانت ساحة الفنا يؤثثها رواد كبارللفرجة من أمثال «فليفلة» و«الصاروخ» و«الشرقاوي مول لحمام» و«عمر ميخي» والحاج «السكوري» والفنان عمر واهروش و سي عمر «مول العود» وغيرهم كثير، عندها كانت للفرجة أصولها وضوابطها، لكن عندما توارى كل هولاء عن الأنظار تحولت الفرجة في الساحة إلى مجرد فلكلور باهت هدفه الاستهلاك السياحي وإرضاء السياح ومد الأيدي بعدها استجداء ولاشيء غير ذلك. بوجه شاحب تعلوه الصفرة وتجاعيد رسمت على ملامحه بخطوط قاسية سنوات من المعاناة وجسمه النحيل الذي أنهكه المرض، جلس تائها يفترش الأرض ينتظر امتلاء الساحة ليبدأ جولاته الفرجوية كرائد من رواد الحلقة في الساحة. محمد إزعاق البالغ 53 سنة من أشهرالحلايقية في جامع الفنا، وهو الآن ممن بقي من بضعة رموز للفرجة الحقيقية في الساحة بعدما توارت الوجوه الكبيرة وحلت محلها الوجوه المصطنعة والباهتة. عمر الفرجة في ساحة جامع الفنا كبير وطويل، فعلى عكس باقي المدن المغربية التاريخية التي لها ساحات شبيهة، ففرجة جامع الفنا لها جذور في التراث الشفوي المغربي الممتد في التاريخ وهو ما أعطاها الصيت والاستمرار والتجذر في التربة، ولتصبح بذلك الساحة العجيبة في المدينة الحمراء. يهرع إليها من كل فج أناس من حاضرة المدينة أو خارجها ومن سياح من أقطار مختلفة يطلون برؤوسهم على هذه الحلقة أوتلك وكل واحد يبحث عما يلبي شغفه. الكثير ممن عايشوا ساحة جامع الفنا، يتذكرون ماضي الساحة بحنين كبير، بعدما كانت على مرالسنين مادة ملهمة للشعراء والأدباء والمؤرخين والمبدعين من خلال بعدها الثقافي الرمزي إلى جانب كونها فهرسا طويلا لمختلف التراث الشفوي والفلكلوري. من هذا الفضاء مر «الشرقاوي مول الحمام» و«باقشيش» و«الصاروخ» و«الملك جالوق» و«فليفلة» و«طبيب الحشرات» و«عمر ميخي» والحاج «السكوري» شيخ المداحين والفنان «عمر واهروش»، وقبلهم بكثير «برغوت» وآخرون وتتجلى أهمية الساحة في كونها لم توجد بقرار من حاكم أومسؤول، ولم يهندسها مهندس ولم يؤثث فضاءاتها خبير ديكور، بل هي ساحة للفرجة وتراث شفوي خلقها الناس البسطاء وانبثقت للتعبير عن همومهم ومعاناتهم مما ساهم في تأطيرهم وتوعيتهم دون إهمال جانب الفرجة والترفيه الجامع بين الجد والهزل. هل الفرجة في ساحة جامع الفنا تعيش احتضارا اليوم في ظل غياب الوجوه الكبيرة لهذا الفن؟ سؤال طرحه كثيرون وأجاب عنه كثيرون أيضا، والأغلبية من هؤلاء تؤكد الجواب بالإيجاب ومن هؤلاء مسؤولي جمعية «شيوخ الحلقة» الذين يسعون إلى رد الاعتبار إلى فن الحلقة والحكي في الساحة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى لاتتحول الساحة إلى مجرد مطعم مفتوح للأكل والتفاهة بدل ساحة للفرجة. عمر واهروش ولحسن جمحي والبرغوت يتذكر أحمد إزعاق تاريخ الساحة ورموزها بكثير من الحنين، بعدما عاش فيها مدة ثلاثين سنة يؤثث فضاءاتها ويقول عن الساحة التي يفضل أن يسميها بساحة «الربح» بدل ساحة «جامع الفنا» إنها خصبت بآلام ومعاناة روادها وهي ساحة قبل أن تكون فضاء للمتعة والفرجة والأكل، هي رمز وصفحات وعناوين لتاريخ طويل من التراث الإنساني والأسماء التي بصمتها بكثير من الممانعة والاستعصاء عن الوصف. وتاريخ الساحة، يمكن القبض على بعض رموزه بأسماء رافقت الساحة لعشرات السنين لكن ماتم توثيقه لايعود إلا لعقود. من هي الأسماء والوجوه الفنية الشعبية التي مرت من ساحة جامع الفنا؟ كانت البدايات على درب الفرجة الجميلة خلال سنوات الأربعينيات والخمسينيات، أثناءها لم تكن تؤثث الساحة إلا فرق الغناء الشعبي بموسيقاها وأهازيجها، حيث تمتزج دقات البندير الأمازيغي بالصوت العربي بالقرقبات الكناوية لتعطينا سمفونية جميلة تطرب الزائر والمقيم وتنقله إلى عالم ألف ليلة وليلة. كان من رواد هذه الفنون على مستوى الأغنية الأمازيغية الفنان «عمر واهروش» الذي كان يؤثث بمقطوعاته الغنائية فضاء ساحة جامع الفنا، هذه الأخيرة التي شكلت أولى انطلاقته قبل أن يحلق في سماء الفن عبرالأثير والتلفزة، بعدها تجاوز صيته وفنه المغرب إلى أقطار أخرى، وخاصة فرنسا وبلجيكا التي كان ينظم فيهما حفلاته من حين لآخر للجالية المغربية ذات الأصول الأمازيغية. وكانت فرقة عمر واهروش مكونة من شباب وصبيان يلبسون جبات طويلة بأكمام واسعة مفتوحة وعليها أقمصة بيضاء شفافة والكل كان يرقص على نغمات الرباب في حركة دائرية تلعب فيها الأقدام والأرداف دورا جذابا وتحركهم من مكان إلى آخر بطريقة تشبه رقصات «البالي» الأوروبية. وسار على منوال «عمر واهروش» الفنان لحسن جمحي رئيس «جمعية أصالة شيوخ الحلقة الأمازيغية» وأحد رواد الفن الأمازيغي بساحة جامع الفنا «بجبته الطويلة ذات الأكمام الواسعة المفتوحة وخنجره المتدلي والمجدول البراق الملفوف حول الكتف وربابته التي لاتبارح يديه، يضبط كل صغيرة وكبيرة في حلقة «الشلوح» في حركة دائرية تقدم فيها الأٍقدام عرضا جذابا وتلٍقى إقبالا ليس فقط من الشلوح عشاق الفن الأمازيغي المترددين على الساحة ولكن من الجميع عربا وأجانب». أما في الفكاهة فكانت حلقة «برغوت» هي الأولى والأخيرة ذلك الوقت، و«برغوت» رائد الفكاهة والفرجة في ساحة جامع الفنا في الأربعينيات ومابعدها بصم بشهرته الآفاق، ولقب «برغوت» الذي حمله يعبر حقا عن كل مايتصف به «البرغوت» من حركة وسرعة، ولسع وصعوبة الإمساك. هزلي لايضاهى، ببطن بارز يضع تبانا ضيقا ملونا وقصيرا لايتجاوز ركبتيه! وساقاه مكشوفان، وتعلو رأسه شاشية حمراء دقيقة الرأس، كل حركاته وملامحه تبعث على الضحك، إذا لم يضحك فالناس يبتسمون، وإذا ابتسم يضحكون وإذا ضحك يقهقهون، وإذا بكى فالهيجان! محمد السكوري شيخ المداحين وعمر مول العود لم تكن ساحة جامع الفنا تقتصر على فرجة الفكاهة والضحك، بل كانت كذلك مكانا للذكر والأمداح من رواد هذا الفن كان الحاج «محمد السكوري» شيخ المداحين في الساحة، رجل أسمر تجاوز السبعين سنة، ينحدر من بلدة «سكورة» في الجنوب المغربي. يصل كل مساء بجلبابه الأبيض الناصع وسجادته من حي القصبة الواقعة خارج الأسوار بجنوب المدينة متكئا على عكازه، وقبالة «كافي فرانس» يعقد حلقته كل مساء، يجلس مستمعوه جامدين ينصتون إلى مايلقيه عليهم من أمداح نبوية بصوت رتيب مثل حروف الهجاء. وعندما ينهي أمداحه لم يكن يمد يده مستجديا مالا، بل كان يقول قولته الشهيرة «الأمداح لله ومن عطا شي لله»، فيتقدم المتفرجون لحظتها من الحاج السكوري يضعون كل حسب طاقته «البركة» تحت السجادة التي يجلس عليها. ومن رواد الحلقة كذلك الذين أعطوا الشيء الكثير للفرجة في الساحة الفنان عمر «مول العود» ببذلته الأنيقة ونظارته الطبية. كان دائم الحضور في الساحة لايتحلق حوله إلا متذوقو الفن الرفيع من الغناء الكلاسيكي العربي والمغربي. يعزف ويغني روائع عبده الحمولي، فريدالأطرش وأم كلثوم وسيد مكاوي، ومن الطرب المغربي الجميل أغاني إبراهيم العلمي، أحمد البيضاوي، المعطي بنقاسم، محمد فويتح والمزكلدي. في الفكاهة مرة أخرى، كان «فليفلة» الرجل السبعيني الذي لاتفارق آلة الكمان يده وهو يرتجل نكتا مراكشية من «قاع الخابية» كما يقال، ومن حين لآخر يرتجل كلاما منمقا وتلقائيا يترك المتفرجين مندهشين وأفواههم فاغرة وهم يطالبون بالمزيد». ماذا تبقى من جامع الربح أما الآن، وبعدما توارى عن الأنظار كل هؤلاء العباقرة في فن الحلقة والفرجة، إما بسبب الموت أو المرض، صار المكان فارغا للمتطفلين ممن لايفقهون شيئا في فن الفرجة وأصولها، وبعدما كانت الساحة ملاذا للباحثين عن فرجة جميلة أصبحوا لايلاقون إلا الفرجة الباهتة من بعض أدعياء الفكاهة الذين لاهدف لهم إلا جيوب الزوار. ولولا بعض الاستثناءات من قبيل الحكواتي «محمد باريز» الذي لم يعد يؤثث فضاءات ساحة جامع الفنا إلا من حين لآخر بروايته لقصص ألف ليلة وليلة والأزلية وقصص الأميرة شميشة بنت الملك حيطان وغيرها. زيادة على حلقة فرقة أمال مريم الخاصة بأغاني «الغيوان» و«جيلالة» و«لمشاهب» و«لرصاد»، وحلقة «عبدالحكيم الخبيزي» الغنائية التي تؤدي أغاني حميد الزاهير ومن حين لآخر بعض «الطقيطيقات» المراكشية التي تلاقي إقبالا جماهيريا كبيرا... لولا هؤلاء لأصبحت الفرجة في ساحة جامع الفنا في خبر كان. ومع ذلك مازال «الصناطحية» يؤثثون الساحة في حلقات ميزتها الرداءة. من هؤلاء مروضو الأفاعي والقردة وفرق كناوة التي نبتت كالفطر في الساحة ولاعلاقة لها بالفن الكناوي الراقي الذي يستمد أصوله من التراث الإفريقي، يؤدون نغمات ورقصات لاهي بكناوية ولاغيوانية ولكن حركات مستمرة مقنعة للتسول لاغير، وحلاقي قراءة الكف والطالع الذين يؤكدون على القدرة على قراءة حياة الناس ومآلهم في الماضي والحاضر والمستقبل! وفي الجانب الأيمن للساحة قبالة «كافي فرانس»، في هذا المكان تثير الانتباه مجموعة من حلاقي باعة العقاقير الجالسين أمام أنواع من جلود الحيوانات والطيور من بوم ونسور وبقايا زواحف يابسة! يبيعون أدوية صالحة لشفاء كل الأمراض والعاهات! ومن هؤلاء بائعو عقاقير الفحولة وتكبير الذكر وتضخيمه! يبيعون مراهم وأعشاب يدعون أنها قادرة على الزيادة في حجم العضو الذكري وإعادة الشيخ إلى صباه، مستعملين كلمات تدغدغ مشاعر المتحلقين وتخاطب جيوبهم قبل عقولهم. ومن الأمثلة الأخرى التي لاتقدم إلا «الصنطيحة» بدل الفرجة حلقة «مول الحمار» الذي يصطحب حماره إلى الحلقة وكل ما يقدمه من فرجة هو أن يطلب من الحمار أن ينام فينام ثم يمده بسيجارة ويطلب منه التدخين فيدخن، وبعد ضحك بعض من الجمهور يمد يده استجداء.