الذهاب إلى مراكش يوقظ الحواس و يستدعي الذكريات، خصوصا إذا سلخ المرء ردحا من حياته في مدينة سبعة رجال، الولوج إليها ليس كالخروج منها ، تدخلها مبتهجا و تتركها و في النفس غصة الرحيل، ما بين زمن و زمن تغيرت أشياء كثيرة و ساح الإسمنت على واحات النخيل المفترضة التي كانت تشد و تحيط بخصر المدينة ، و لم تعد العين ترى سوى القناطر المقنطرة من البنايات و الإقامات، و هذا أمر مشترك بين كل المداخل، سواء من طريق البيضاء أو أكادير و ورزازات أو طريق الصويرة و آسفي و الجديدة. لكن حرائق زبالة مراكش القديمة و روائح الواد الحار التي تزكم أنوف الضيوف أكبر صورة للرداءة يمكن أن يستقبلها القادم إليها، يبدو أن المجالس المتعاقبة التي سيرها «اليمين المفترض» لم تعبأ بحل هذه النقطة السوداء و لم تفكر في «تلك الرائحة »! إنه سوء التدبير الذي لاحق مدينة يوسف بن تاشفين، حيث أصبح البعض يحتمي بالجنسيات للإفلات من العقاب! تبدو المدينة كورش مفتوح على الدوام ، أشغال كبرى تجتاح الطول و العرض، في كل الأماكن رائحة البناء و الإسمنت، جيليز ، الحي التاريخي الذي احتضن أجمل الأيام تراصت فيه الماركات العالمية المعروفة و المفارقة العجيبة أنك تجد تعايشا بين تلك الماركات الباذخة و محلات العدس و اللوبيا و الكرعين .. «بَجْكَنّي» مازال في مكانه، الكثير من المثقفين و الإعلاميين و الفنانين مروا من موائده و «سرطوا» ما تيسر من كفتة و هريسة .. بالأمس القريب كان يشتغل لوحده ، اليوم اصطف العديد من مستنسخي حرفته بجانبه و كثر الزبناء و السيارات الفارهة و نون النسوة المرتبة و الموضبة على آخر صيحة ..يكرعون الكؤوس و يتبضعون من أرقى المحلات و يأخذون الصف و النوبة عند «بَجْكنّي»..! ليلة مجنونة .. تركنا «خرشش» يدافع عن استقلال القضاء و عن ضرورة حضور الشعب في معادلة الإصلاح، و «جعفر» يبحث عن البدائل بعد أن أعياه التشخيص، و هما القاضيان الوحيدان بصحبة المرحوم الرافعي الذين كانوا يرفعون أصواتهم مطالبين بالإصلاح في عهد الحسن الثاني و ما أدراك ما ذلك العهد حيث أسسوا الجمعية المغربية للدفاع عن استقلال القضاء التي نبعت فكرتها ذات مقهى بآسفي .. تسلل من تبقى من فوروم (منتدى) أزريع و كمال و اجتمعت الشلة، لابد من اكتشاف ليل مراكش و فضاءات الانتشاء فيه، فالليل في هذه المدينة له سحر خاص و سطوة عجيبة، و الليليون في تناسل مستمر. جامع الفنا كما العادة يتحول إلى مطبخ في الهواء الطلق ، الأدخنة المتصاعدة و الأفواه الجائعة و اللصوص و «اللواطيون» و المتسولون و «الداعرون» يشكلون تفاصيل الصورة بعد انسدال الظلام . لا أحد ينتبه لأحد . الكل منخرط في التفرج على الحلقة أو الموسيقى الشعبية أو المعالجة البطنية. و الويل لمن «سها» عن جيبه أو جنبه، رياضة الأصابع فارضة نفسها ! و الويل لأنثى غفلت عن ترسيم «الحدود الخلفية» ! في جيليز .. الممتلئ حد الانفجار بسلالات و أجيال مختلفة ، هناك أمور أخرى تقع، الناس يستمتعون ، يتحركون ، ما يميزه أن الحناجر ترفع أصواتها بالدردشة و الصياح و الضحك المفتوح على السماء . مراهق فغر فاه في هندسة جسدية مغرية ، عثر و سقط في بالوعة مكسورة ، سقطة لا تتمناها لعدوك ، وقف .. شتم بشكل داعر و انطلق لا يلوي على شيء ( ما رضاش قدام الدريات ) .. مراهقات بتنانير قصيرة يمشين بغنج .. الصدر الناتئ و العجيزة المرتبكة و الأرداف الثقيلة و العيون العسلية .. لم يبق إلا المُدام .. و هكذا كان ... داخل «الطويجين» .. كان حسن و سعيد و يوسف يضحكون على الأيام الخوالي، و عبد الله الذي انهرق كله بعدما أكثر من «دم العود».. أفلتت أصابعه أكثر من دَنّ كثر من دم لالاللل.. إنه نموذج لخابية روسية .. بدأت مصارين الجميع تزغرد .. لم نجد في ذلك الوقت المتأخر سوى تطبيق «الديمقراطية التشاركية» على مائدة العدس و التقلية و اللوبية و البيصارة و زيت العود .. حسن ينادي النادل بتمكينه من كيلوات محترمة من الملح و ما فتئ يسألني عن محاضرات راس اللفعة و سيدي بوزيد و سوسيولوجيا التنظيمات السياسية !!، فعبد الله رسم سرواله «بأحمر الشفاه» و غرق في ضحكة عميقة . الليلة لم تنته بعد، مكان يطلق عليه بهجاوة «الطويجين» ، هم المعروفون بالنكتة و خفة الدم ، ما إن حاولنا الدخول إليه حتى فاجأنا شابان . اللباس ذكوري .. المشية و الحركات تدلان على «إنسانية مفرطة»، توأمان في الغنج و مصمصة اللسان . الأحسن هو الدخول و إلا سنقع في ورطة غير لذيذة ، فليل مراكش أصبح كنهارها.. لا نوم على الإطلاق .. الصخب و الحانات و المراقص و الأكل حتى الصباح .. كن غا راجل ! الطويجين فيه ما يريد المرء خاصة إذا أراد أن «يكحلها» ، الأجساد المتناثرة ، فائض حقيقي من اللحوم و العري ، يبدو أن العرض أكثر من الطلب ، شتائم و قبلات، ضحك و احتكاكات، بيع و شراء ، غزل بالأعين ، مقايضات في المراحيض، ليست هناك مائدة فارغة أو مكان شاغر. أنثى تضرب رجلا بقرعة نبيذ بعد أن استفز مؤخرتها ، امرأة أربعينية استهلكت مدة «صلاحيتها» بفعل السهر و العمل «العميق» لمدة سنوات في إطار الخدمات الشعبية تستجدي بيرة و تغمز بوركها ! عبد الله مرفوع ، تحدث بعض السياسة و دافع عن «رداءة بعضهم» ، لم يكن الوقت و لا المكان يسمحان بالتحليل و رصد إعاقات المشهد السياسي و الحزبي ، فالفجر على الأبواب و العياء استهلك طاقة المجموعة . منذ عشر سنوات لم تكن مراكش على هذه الشاكلة ، لقد تحولت كثيرا ، لكن يبدو أن التحديث الذي مس هياكلها ، لم يمس البشر، لأن جيليز و الحي الشتوي و شارع فرنسا (محمد السادس حاليا ) و ما جاوره، ليس كل مراكش . مراكش الأخرى .. مراكش الأخرى هي الحقيقة و الواقع، ثمة البؤس و الأوساخ و الجدران المهدومة و المنازل الآيلة للسقوط ، و الرياضات المكتسحة لعبق التاريخ وسط دروب المدينة العتيقة ، هي إحدى الصور المنتفشة التي لا يميزها سوى من يعرف سراديب المدينة ، هناك في درب دباشي و القنارية و المواسين و رياض العروس و باب دكالة و ديور المساكين و دوار العسكر و سيدي يوسف بن علي ... التاريخ لا قيمة له عند بعض المغاربة ، السور التاريخي مكان مفضل لبعض البوالة و المتغوطين. لماذا يصر هؤلاء على التبول على التاريخ .. أهي غباوة أم بداوة أم تفاهة ؟ مراكش اليوم توسعت و كبرت ، الترهل أصاب بعض نسيجها المجتمعي ، تهتك كبير ضرب العقل الأخلاقي و القيمي، داخ المراكشي ، كما أسر لنا صديقنا الإعلامي العارف بخبايا الأمور و دواخلها ، تبدو في الظاهر مشتغلة على السؤال السياحي و تقوية البنية الاستقبالية. لكن بجانب هذا هناك الفقر الذي يمشي على رجليه في الهوامش و هناك هجرة مستمرة للضواحي رغم تمنصورت و غيرها . مراكش اليوم في حاجة إلى سوسيولوجييها ليقرأوا تحولاتها و يرصدوا ثقوبها الاجتماعية و اعتواراتها البشرية . مؤشرات البطالة و الفساد و المخدرات مقلقة ، يردف مخاطبنا. في مقهى مقابل لجامع «بريمة» ، جلس فرنسي و صديقته ، وقف صبي يعرض تجارته التي هي عبارة عن حنش خشبي ، سألت الجميلة الفرنسية عن الثمن، قال الصبي «سينك أورو» بلكنته المراكشية ، بهت ، نطق أحد الجلوس شاتما صاحب البضاعة و مطالبا إياه باحترام النصارى ، رمقه الصبي بعين حاقدة و قال قبل أن ينصرف «دعيناكم الله آ كحل الراس ..» ! من يشاهد هذا الصغير و هيئته لا يمكن أن يصدق ما يخرج من بين أسنانه المهدومة و المسوسة ، ذكرني في شخصيات محمد شكري رحمه الله و وجوهه و خبزه الحافي !. ساحة جامع الفنا تكون فارغة في النهار إلا من مروضي الأفاعي و كوبراتهم و سيدات الورق، أي الراي و السوطة و الكابال و اللاص و نشوف زهرك آش فيه ، و المنقبات الثخينات المبلحات صاحبات نقش الحناء ، بعضهن في عيونهن شبق ، الحناء و أشياء أخرى إن أردت ، هكذا تمشي الأمور ، البحث عن الدرهم كيفما اتفق ، و«اخا نخلي فيها لحمي» تقول إحداهن ، نقدتها بما تيسر و انسحبت ، حرفة الكتبيين مازالت حية عادت إلى الالتصاق بسور باب دكالة .. هناك ستجد الجابري و العروي و سمير أمين و فوكوياما و منيف يتشمسون ، أكوام من الكتب على امتداد صف طويل و لا أحد يقبل عليها ، سألناهم واتروبوري و كتاب النخبة السياسية .. لا أحد سمع به ! نوستالجيا .. كل الأمكنة التي تمرق منها تذكر بعقد و نصف من الزمن ، حين يقودك القدر و القلم إلى مراكش ، فضاءات عزيزة على القلب لا تنسى ، جامعة القاضي عياض ، و سخونية الراس ، الحب ثم الحب ، ناس الغيوان ، الطوبيس النمرة ربعة (4) الذي يعرفه الطلبة و يعرفهم هو أيضا ، الطحال المحشو و كؤوس الشاي ، الصقيع و الجمال ، صودا المطعم الجامعي، غرفة ديور المساكين و سلامة المراة القادمة من صخور الرحامنة ، مدن ملح منيف و الأشجار و اغتيال مرزوق ، حوار المشرق و المغرب بين حنفي و الجابري ، عود الريح و الطريق إلى مكتب الجريدة ، الأمطار و الغيس و الصابات و عذريات الطلبة ، قفشات بن اسماعيل الفوتوغرافي الرائع ذي العين اللاقطة . بكل الصدق الإنساني الممكن.. من سكن مراكش سكنته طيلة عمره، و من أحب مراكش لن يخرج من سرادقها العاطفي أبد الآبدين .. اسألوا سي محمد باريز و عبد الرفيع و عندليب .. حتما ، الجواب اليقين عندهم ، و السلام على حاضرة سبعة رجال التي شط ببعضهم خيال الانبطاح ذات مرحلة حتى أصبحوا ينادونها بمدينة ثمانية رجال !. التاريخ منصف و عميق ...