مراكش، هذه الأيام .. سيارات ودراجات نارية وهوائية وراجلون لا يقلون هوائية، تتقاذفهم الأرصفة والطرقات. مراكش، هذه الأيام .. حاضر يقتلُ ماضيه .. يتعاون عليه بالإسمنت وجشع البعض. مراكش، هذه الأيام .. مدينة تغيرت جغرافيتها وتبدلت ملامحها بسرعة قياسية : عماراتٌ تسابق بعضها، فيما تعاند بساطة الماضي لتخفي جمال النخيل وهيبة الكتبية. مراكش، هذه الأيام .. فنادق ومطاعم راقية، ومحلاتٌ باذخة تعرض عطورها وملابسها وأحذيتها، و«شاطئ أحمر» في مدينة لا تطل على البحر الأبيض المتوسط ولا على البحر الأحمر. في مراكش، يتقوى الاقتناع، هذه الأيام، لدى معظم المراكشيين، بحقيقة أن العيش في مدينتهم لم يعد سهلاً، وأنه لم يعد كافياً أن تكون مراكشياً، في مراكش، لكي تضمن راحة البال وهناء الحال. في مراكش، هذه الأيام .. الحاضر يقتل الماضي، في سعي حثيث لمسحه وطمسه، حتى أن زيارة المدينة الحمراء صارت تعني، بالنسبة للكثيرين، «دخان» جامع الفنا، و«عصير» مقاهي شارع فرنسا، و«رغوة» ليل المدينة. المراكشيون، هذه الأيام .. حائرون، يتساءلون .. منهم من يقول «إن الأمور قد تغيرت كثيراً بين الأمس واليوم، والمراحل الانتقالية بمراكش، ربما، تطول أكثر من اللازم، ولا أحد سيعرف، غداً، كيف ولمن ستؤول هذه المدينة ؟ ومم ستتشكل ساكنتها ؟ وكيف ستكون ثقافتها ؟ وما الغرض منها أصلاً : هل هي مدينة للتاريخ ؟ للاقتصاد ؟ للسياحة الثقافية ؟ للسياحة الجنسية ؟ للفولكلور ؟ للسينما ؟ أم لأشياء أخرى؟». ومنهم من يقول إنه، «في الماضي، كان المراكشي يظل مراكشياً من صباحه إلى مسائه، ومن يقظته إلى نومه، بل حتى في أحلامه. أما اليوم، فقد شتّتت تحولات المدينة تفكيره، فهو قد يصبح مراكشياً، لكنه يعبُر، في يوم واحد، أساليب مختلفة في العيش، وأشكال متنوعة في ابتكار الذات. في دماغه تتزاحم أسواق لغوية متنافرة، وفي إحساسه تكتظ أنماط متناقضة. إنه مراكشي الآن، وأميركي أو فرنسي، بعد حين، محافظ في البيت، وليبرالي في السوق والعمل!». والمفارق أنه، بعد ألف عام من تأسيس مراكش، اكتشف البعض أن المدينة في حاجة إلى إعادة ترتيب وبناء، ولذلك «قشروا» الأرصفة و«حفروا» الأزقة، ثم تركوا السياح القادمين من برشلونة وبروكسيل وميلانو وسيدني وطوكيو يغرسون أحذيتهم في «فراغات» شوارعها ودروبها. وعلى عكس المراكشيين، يبدو «السكان الجدد»، كما لو أنهم «شمتوا» باختيار السكن في المدينة الحمراء. الكاتب الإسباني خوان غويتصولو مثلا، الذي استقر بمراكش، منذ سنوات طويلة، ومنحته اليونسكو شرف كتابة نص إعلان اعتبار ساحة جامع الفنا ضمن التراث الشفوي الإنساني، اعترافاً منها بجهوده في الدفاع عن حق الساحة في إعمال الخيال والتحلي بكثير من الحس الجمالي عند كل محاولة لتوسيعها أو التغيير في ملامحها، لا يخفي تعبه من تنكر بعض المراكشيين لهذا «الحق». هذا الصباح، أقرأ أن غويتصولو غادر مراكش «مرغما» إلى إسبانيا، «هرباً من استمرار الأشغال التي يشهدها حي «القنارية»، الذي يسكن به، والتي تستهدف إعادة هيكلة الواد الحار في هذه المنطقة»، وأنه «أكد أن الورش، الذي بدأ ولم ينته، منذ أمد بعيد، في الطريق المؤدية بين منزله وساحة جامع، والمخاطر التي يطرحها المرور على خشب ومعابر خاصة، جعلته يغير وجهته عبر طريق آخر، غير أن بُعدَه والتعب الذي يحس به عندها، دفعه إلى التفكير في التخلي «المؤقت» عن المدينة الحمراء والهرب إلى إسبانيا، إلى حين الانتهاء من الأشغال المذكورة». في المساء، أزور مقهى «فرنسا» لأتأكد من حكاية «هرب» غويتصولو. وجدت أن أرضية ممر «البرانس» لم تعد تختلف كثيراً عن أزقة وشوارع أي قرية هامشية، وأن جبلا ترابيا قد نبت مابين مقهى «فرنسا» ومقهى «الحمراء». لم أجد غويتصولو، لكني جالست بعض المراكشيين، ممن اعتاد مجالستهم بالمقهى، فأكدوا لي تضايق خوان من الأشغال المفتوحة ب«القنارية»، دون آجال محددة لانتهائها. أغوص في دخان الساحة .. عربات عصير.. مشويات.. رؤوس مبخرة .. وأصوات مبحوحة تردد «فين غادي بيا آخويا»، قبل أن أتعثر في تراب ممر «البرانس»،. مجدداً. لم أملك إلا أن أتذكر الشاعر السوري أدونيس، الذي ترك لقصيدته أن تلبس قفطانها وأن تطرح أسئلتها، بقوله : «وماذا يقول ماسحُ الأحذية لهذا القفطان المذهب ؟ وماذا يوسوس بائع اللبن لتلك الناطحة من الإسمنت ؟ وما لهذه الأرصفة كأنها خيول أرهقت، تنكس البيارق ؟».