قبل خمسين سنة فقط، كانت جامعة ابن يوسف بمراكش تخرج العلماء والفقهاء والفلاسفة والشعراء ونوابغ العلوم الإنسانية كما تخرج مراكش اليوم «الكرواصة» الفرنسية التي تناثرت أفرانها بين أرقى أحيائها عبر مخابز وحلويات كلها تابعة لفرنسيين ومغاربة متشبهين بهم يفاخرون بعضهم البعض كل صباح بانتفاخ ولذة «الكرواصون» و«الشنيك» و»البان سويس»، وأصبحت تباع عند أكثرهم بعشرة دراهم للقطعة الواحدة. مراكش حيث كانت تكفيك «بيصارة» ساخنة بزيت زيتون طبيعية بحومة «الطالعة» أو»الرحبة القديمة» أو«باب دكالة» مع خبز «المحراش» التقليدي الخارج للتو من الفرن، في أيام الخريف والشتاء القارس، وحيث الفطور المراكشي يمكن أن يصير بيضا بلديا ب«الخليع» أو«آكًريش» أو حتى «كرعين الغنمي»، كل بحسب شهيته،... أصبح الإفطار في مقاهيها أغلى من وجبات الغداء والعشاء بمطاعمها المصنفة، تكفيك في هذا الصدد زيارة مقهى شهير وفاخر بجانب «بوسطة» كًيليز حيث يبيعونَك عصيرَ البرتقال ب50 درهما... لا غير. المدينة الحمراء انفلتت من جلباب ماضيها، وأناسها الحاليون أغمضوا العين والذاكرة على ما كانت عليه مدينتهم، وتناسوا أن الأجانب الذين يعمرون الشقق المفروشة والمملوكة والفيلات والقصور والفنادق لم يفتتنوا بحداثة مراكش بل إنهم تركوا ما عندهم من حداثة وجاؤوا بحثا وانجذابا وتطلعا إلى تراث مراكش وأصالتها وعمرانها الهندسي الإسلامي وأدبها وخزانات شعرائها وفلكييها ومتصوفتها وطبخ بيوتها ومزاج أهلها وهوائها. هناك اليوم بمراكش فئة متحكمة في صناعة القرار متطرفة في تطبيق خطة تحديث المدينة وعصرنتها بشكل مجاني، ما يهمها هو توفير بنية استهلاكية لا تختلف عن البنى الاستهلاكية الجديدة المعروفة والمتداولة في السوق التجارية الأوربية، متناسية أن فرنسا التي تنظر (تلك الفئة) دوما إليها بعين الانبطاح لما وصلت إليه كانت قد عارضت، بتدخل مباشر من الرئيس السابق جاك شيراك، الترخيص بإنشاء مطعم «ماكدونالدز» داخل مبنى برج «إيفل» الشهير، فقط لأن ذلك سيقتل الهوية الفرنسية الحضارية والتاريخية للمعلمة، وستصبح واجهة حديثة لترويج السلع الأمريكية في مفهومها ورمزيتها الثقافية. بمراكش... اليوم، لو طلب أحد من أصحاب العيون الزرق الترخيص بفتح متجر لعلامة فرنسية شهيرة في صنع «الكرواصة» لوافقوا على ذلك حتى لو استعملوا قبة ضريح يوسف بن تاشفين كفرن أو ضريح سيدي بن سليمان الجزولي كقاعة للعجن ومدرسة ابن يوسف كنقطة للبيع،... حتى إنه صارت مدهشة هذه الرغبة والإرادة لدى بعض دوائر صنع القرار بمراكش ولدى نافذين ومستثمرين في التخلص من تراث المدينة وتاريخها وتحويلهما إلى سندات بيع وشراء باسم التحديث وجلب الاستثمار، لكن بخلفية هدم أسس المدينة وثوابتها وهويتها. المدينة، التي غنى عنها الراحل إسماعيل أحمد، ذات يوم، بصوته الدافئ والأليف واصفا إياها بكونها «وريدة بين النخيل»، لم تعد سوى عمارة وسط العمارات ومقهى بجانب آخر، مع نوع بشري متحكم لا يفتخر بالعلوم والثقافة والآداب ويورثها لأبنائه، بل يفاخر فقط باللباس والمطاعم وماركات المجوهرات والعطور والسيارات... هؤلاء عمروا مراكش وأفرغوها من نفيسها الذي ورثته عبر التاريخ، غير عابئين بأن البذخ والغنى والتفاخر كالطير المهاجر... يرحل دوما وبسرعة إذا ساء الجو.