لقد خصصنا حلقة اليوم من حديث الجمعة للحديث عن حدث عظيم في تاريخ المغرب ألا وهو حدث مرور ألف ومائة وخمسين سنة على تأسيس جامعة القرويين بمدينة فاس، ونرجئ الحديث عن بقية الكلام عن الجامعة الإسلامية إلى حديث مقبل إن شاء الله وفيه سنشير إلى دور علماء هذه الجامعة في العمل من أجل الجامعة الإسلامية. ومع حلول عيد الأضحى المبارك يسعد هذا الركن وكاتبه ان يهنئ قراءه وقراء جريدة «العلم» الغراء وكل المسلمين بعيد الأضحى المبارك وكل عام والمسلمون بخير. في يوم 30 نونبر تحل ذكرى من أهم ذكريات التاريخ التي يعتز بها الإنسان المغربي، لأنها ذكرى وجود أهم معلمة علمية دينية حضارية عرفها العالم الإسلامي، انها منارة الإشعاع العلمي والفكري على مدار ألف ومائة وخمسين عاما، لم يصبها فيها كلل ولا ملل، بل انها طيلة هذه الأعوام بأيامها ولياليها وقفت شامخة معطاء، ما أصابها من كثرة المد والعطاء فقر ولا اقتار، بل انها مع كثرة الإنفاق والعطاء تزداد غنى وثراء، ويتسع مدى العطاء أمامها، وهي على امتداد هذا التاريخ تواجه الأزمات والأعاصير، ولكنها في صمودها وثباتها أقوى من الجبال الشامخة التي تطل عليها، وهي تبادلها الشموخ، بل ترى نفسها أعلى وأقوى وأعز، وهي تتلألأ وترسل إشعاعها عاليا في عنان السماء، وهي رابضة أسفل ذلك الجبل الشامخ، بل انها لقوة اعتزازها بنفسها وإيمانها بعطائها لم تبالغ في رفع بناء المئذنة أكثر من العادي، ولكنها دائما قوية عزيزة منيعة لا تبالي ولا تشعر بكيد الكائدين، ولا بتآمر المتآمرين، فلها القدرة على استيعاب كل ذلك، واحتواء أصحابه، فكم من مغير أرادها بسوء فَرُدَّ خاسئا منهزما، وكم من عدو ناصبها العداء فطأطأ الرأس أمام إيمانها بنفسها وسعة صدرها، وسماحة قلبها، وقدرتها على الإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن، فإذا بالعدو وكأنه ولي حميم، فهي قد استوعبت درس التسامح ووعته وهي قد آمنت ان الكل ينفق مما عنده، وان الإناء بما فيه ينضح وهي ليس عندها الا الإيمان بالقيم الإنسانية العليا، والقيم الأخلاقية المثلى، فهي منذ الوهلة الأولى نشأت على تقوى من الله ورضوان. وهي لا تريد لنفسها ولا لأهلها علوا في الأرض ولا فساد، وهي تومن باستمرار ان العاقبة للمتقين، ولذلك دأبت باستمرار على إنشاء هؤلاء المتقين، وتلقين الناس أساليب التقوى، وتوجيههم الوجهة التي يشعرون فيها بأنهم إخوة، وان أحسن ما يتمتع به الإنسان من سلوك هو محبة الغير، وان يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه. تلك هي قيم إنسانية رفيعة، وهي جزء مما نشأت عليه من قيم. فهي ام رءوم، تحن وترحم، وتعلم وتربى وتوجه، ولا يمكن ان تخرج في كل هذا عن المنهج الذي انطلقت على أساسه من أول يوم، أليس اليوم الذي وضع فيه الأساس لهذه المعلمة هو اليوم الذي يلتقي فيه الناس بربهم وهم صائمون؟ لقد كان الكل صائما في شهر رمضان عندما رُفع أول فأس ليضرب الضربة الأولى باسم الله وعلى بركة الله، في ذلك الشهر المبارك من سنة 245 ه نونبر 859 م في تلك اللحظات الربانية غاص الفأس الأول في الأرض لحفر أساس هذا البيت الذي سيكون بيتا من بيوت الله التي أذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه، ويسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، انها لحظة عظيمة ان تنشئ امرأة تقية طاهرة صائمة هذا البيت التي يسبح فيها الرجال والنساء لله سبحانه، ولذلك فإن هذه الجامعة المعلمة التي أنشئت في شهر التقوى الذي يقطع فيه الصوم والتوجه إلى الله دابر كل شيء وكل أمر ينال من الصفاء بين الناس، ففيه تصفد الشياطين وتمنع الألسنة على قول الفحش أو الرد عليه فالصائم جوابه في كل الأحوال اني صائم. ان هذه المؤسسة المعلمة التي أنشئت في هذه الأجواء الروحانية ما كان لها ولم يكن، الا أن تكون سلاما على الناس في كل الظروف والأحوال ولذلك فلا نستغرب ان تكون هذه المؤسسة محج كل الناس وكل الأقوام من أصدقاء ومن نصبوا أنفسهم خصوما إذ هي لا خصوم لها. واليوم وبعد كل هذه السنين والأعوام وكل المعارك التي تصدت لها هذه المعلمة وخرجت منها قوية شامخة، هذه المعلمة التي كانت الأفواج من العلماء والطلاب تقصدها من كل الأنحاء، وكانت تبعث أفواجا كذلك ليحملوا راية العقيدة الصحيحة، والموعظة الحسنة، والرسالة الحضارية المبنية على الأيمان بالله وبرسله الذين جاءوا يحملون الهداية للناس، انها الجامعة التي تنطق أساطينها وجدرانها شاهدة بما عرفته ومن قصدها من العلماء والمفكرين والصالحين والقادة والزعماء انها الجامعة التي يشهد منبرها بمن علاه وألقى فوقه كلمة الله في المحبة والأخوة بين الناس. فإذا كانت مدينة فاس كما وصفها المؤرخون وتحدث عنها به الباحثون والمصنفون وعبر عن ذلك تعبيرا جامعا وجميلا (المراكشي) في كتابه: «المعجب من تلخيص أخبار تاريخ المغرب» حيث قال: »اجتمع فيها علمُ القيروان وعلمُ قرطبة؛ إذ كانت قرطبة حاضرة الأندلس، كما كانت القيروان حاضرة المغرب؛ فلما اضطرب أمر القيروان كما ذكرنا بِعَيْثِ العرب فيها، واضطرب أمرُ قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت أبي عامر محمد بن أبي عامر وابنه، رحل من هذه وهذه من كان فيهما من العلماء والفضلاء من كل طبقة؛ فراراً من الفتنة؛ فنزل أكثرهم مدينة فاس؛ فهي اليوم على غاية الحضارة، وأهلها في غاية الكيس ونهاية الظرف، ولغتهم أفصح اللغات في ذلك الإقليم؛ وما زلت أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب، وبحق ما قالوا ذلك؛ فإنه ليس بالمغرب شيء من أنواع الظرف واللباقة في كل معنى إلا وهو منسوب إليها وموجود فيها ومأخوذ منها، لا يدفع هذا القول أحد من أهل المغرب« (ص: 357). وقد كانت الجامعة في كل هذا بؤرة الحركة والنشاط لذلك: ترى لو استطاع الناس اليوم بما أوتوا من قوة العلم والتكنولوجية ان يستخرجوا لنا اصواتا فطاحل وجهابذة العلماء الذين درسوا في هذه الجامعة وقصدوها للأخذ والعطاء وتبادل المعرفة لأتاحت لنا الظروف ان نسمع أصواتا من أغلى الأصوات وأغناها فسنسمع أصوات محي الدين بن عربي والشيخ زروق وسنسمع أصوات ابن خلدون ابن الخطيب وسنسمع غيرهم من الفقهاء والزهاد ممن تملأ تراجمهم وآثارهم مجلدات ومجلدات بل مكتبات ومكتبات فلو اقتصرنا فقط على من ذكر صاحب السلوة أنهم كتبوا عن أعيان فاس وعلمائها وصلحائها رغم أنهم قليلون في نظره لكان ذلك شيئا كبيرا وعظيما. ان هذه الجامعة الجامع أو الجامع الجامعة سَمِّهِ كما شئت هو أول جامعة عرفها الناس في التاريخ وبقيت قائمة حاضرة على مدار السنوات والأعوام وهي تملك من عوامل الصمود ما يكفي، معززة ذلك بالمرونة والصبر والاحتساب. ان هذه الجامعة التي لعبت دورا في تحضير الناس وإخراجهم من غياهب البداوة والجهل إلى أنوار الحضارة والعلم، لم يتردد أحد دهاقنة الاستعمار بوصفها بالبيت المظلم، وكان خوفه الأكبر من هذا البيت المظلم ولم يكن خوف «اليوطي» منبعثا من فراغ، ولا كان منطلقا من خيال، بل كان خوفه منبعثا من استقراء التاريخ وتتبع أحداثه، وأخذ العبرة من كل ذلك، الم يكن أبناء هذا البيت المتلألئين نورا بما قبسوه من هذا البيت المضيء هم الذين فضحوا مؤامرات ومناورات الأعداء وهم يستعدون للانقضاض على الوطن، ألم يكونوا هم الذين حركوا الجماهير وقادوها في مختلف القبائل والمدن للتصدي للظلام الزاحف؟ ألم يكن أبناؤها هم الذين ألفوا الكتب ودونوا الرسائل، ووضحوا معالم النهضة والتقدم قبل السقوط في براكين الاستعمار وبين مخالبه؟ ان هذا الدور الذي لعبه علماء وطلبة الجامعة وهو جزء من كل هو ما دفع المستعمر الصليبي إلى أن يقول قولته هذه، لقد كان يعرف أن أحلامه في إحلال الصليب محل الهلال في هذه الديار دونه بقاء هذه الجامعة تؤدي واجبها في النصح والهداية، وفي تنوير العقول والأذهان، لذلك كان له العذر كل العذر -ان صح التماس العذر للمستعمر- في نصح قومه والدفع بهم لإغلاق هذا البيت ووضع كل العراقيل في طريق نهوضه وتجديد أساليبه ضمن رسالته وأهدافه. الخيال الاستعماري العظيم بمغرب فرنساوي ان المستعمرين كانوا قد وضعوا مخططا صليبيا لتحويل المغاربة عن دينهم واستعادة المغرب إلى حظيرة الصليب، تلك كانت أهدافهم وهي ما سعوا إليه من دون مواربة أو خجل فهم يكتبون ذلك في الصحف وفي الكتب وهذا احدهم يوضح: ذلك توضيحا كاملا في النص أدناه الذي أورده شكيب ارسلان في تعاليقه على كتاب حاضر العالم الإسلامي وليس هذا النص منعزلا عما كتبه غيره من المستعمرين. قال شكيب: قال »فيكتور بيكه« الفرنساوي في كتابه المسمى (مراكش) ما يأتي تعريبه: ...... Le Maroc, par Victor Piquet »إن البربر كان منهم مجوس ووثنيون ويهود، وفي صدر النصرانية قبلوا الدين المسيحي لكنهم نسوه عندما تمكنوا من الاستقلال. ثم دانوا بالإسلام الذي ببساطة قواعده يستميل العقل ويرسخ في جميع الأمم التي تدين به«. ثم يقول: »ان البربر اسلموا إسلاما لا يزال مشوبا بأحوال وأوضاع خاصة بهم« ثم يقول: » ان العالم الأخصائي في أمور البربر المسيو (دوته) الذي جال بين قبائل البربر نوه بمحاسن سجايا هذا الشعب البربري. وقال ان به مناط الآمال في شمال افريقية«. ثم يقول: » انه شعب يظهر عليه الميل من نفسه إلى المدنية الفرنسية. لذلك يجب علينا قبل كل شيء ان لا نعرّبه أكثر مما هو. ولأجل بلوغ هذه الغاية يجب أن يحمل البربر على الثقافة الفرنسوية، وان يتكلموا بالفرنساوي قبل وصول الثقافة العربية واللسان العربي إليهم. وعلى هذا الشكل يتحقق بلا ريب أكثر مما هو مظنون خيالنا العظيم بمراكش فرنسوية«. ثم يقول في صفحة 302 من كتابه: »وفي النية تأسيس مكاتب فرنسوية بربرية في الجهات التي لم تستعرب من بلاده البربر. وهذا تصور حسن جدا لكننا لسوء الحظ قد تأخرنا في إنفاذه. فإذا كانت بلاد القبائل من الجزائر ليس فيها إلا بعض أقوام من البربر: فإن قسما عظيما من أهل المغرب الأقصى لا يعرفون العربية أو يتكلموا باللغتين البربرية والعربية، وليس لنا أدنى مصلحة أن ننشر بينهم اللغة العربية لغة الجامعة الإسلامية بل بالعكس«. لعل هذا الاستعماري الصليبي العنصري يجهل أو يتجاهل الدور الذي لعبه الأمازيغ في نشر الإسلام وحضارته وثقافته وأنهم على امتداد تاريخ المغرب المسلم كانوا هم قادة في السياسة والعلم والحرب والسلم وعلى أي حال فإن هذه الفقرة توضح لماذا استهداف جامعة القرويين والكيد لها والتآمر ضدها فهي حارسة للغة العربية لغة القرآن ولغة الجامعة الإسلامية والمدافعة عن قيم الإسلام ومبادئه والحاملة للواء الدفاع عن وحدة المغرب الدينية والوطنية، وقد قامت الجامعة بالفعل بإيجاد الأطر المناضلة المجاهدة التي قادت المعارك الفكرية والسياسية والعلمية المباشرة ضد الاستعمار حتى قهرته وإذا كنا في حديث سابق عن الجامعة أوردنا نصا من خطاب محمد الخامس طيب الله ثراه ألقاه في خطبة الجمعة بالجامعة في سنة 1956 فإننا اليوم سنذكر بنص من خطبة له في ذكرى ألف ومائة سنة على تأسيس الجامعة قال رحمه الله: ولقد أُثر عن المغاربة في ماضيهم ومنذ خروجهم إلى الوجود كشعب ذي كيان ممتاز تشبثهم بالدين الحنيف وهيامهم بكل فضيلة وتقديسهم للعلم وتقديرهم للعلماء، ويرجع الفضل في اصطباغهم بهذه الصبغة إلى جامعة القرويين التي كانت لها آثار بعيدة المدى في تكييف الحياة المغربية وتوجيهها باستمرار إذ هي التي مكنت للإسلام في نفوس المغاربة وأطلقت ألسنتهم بالعربية وخطت لهم النهج الذي ساروا فيه زهاء ألف عام كما يتبين ذلك من الأبحاث والدراسات التي أعدت بهذه المناسبة، فمنذ تأسيسها سنة 245 هجرية أصبحت المهد الذي تدرج فيه الحضارة الإسلامية والمنبع الذي تتفجر منه الثقافة العربية في غرب العالم الإسلامي. وصارت لها رسالة سامية وقفت نفسها على أدائها في المغرب وما وراءه من أقطار وأمصار فلا عجب إن صارت مهوى الأفئدة وقبلة الأنظار، واستأثرت بعطف جميع الملوك الذين تعاقبوا على حكم المغرب ورعايتهم وتأييدهم، حتى رجعت مدرسة شهيرة ذات أنصار ومريدين ومذهب معروف ومنهج واضح في البحث والتحليل والاجتهاد والإفتاء تسارع إلى التدريس بها علماء الأقطار المغربية والأندلسية، وتسابق الطلبة من الأقطار الإفريقية ومن أوروبا لطلب العلوم التي كانت تقرأ بها، والتي كانت تعدو علوم الشريعة واللغة إلى العلوم المشاعة بين البشر من فلسفة ومنطق وحساب وهندسة وأدب وتاريخ وطب وموسيقى وتنجيم. ولئن أتت على الجامعة القروية فترة من الزمان تخلفت فيها عن مماشاة التطور العلمي فإنها لم تتخلف في وقت من الأوقات عن أداء رسالتها الأصلية اذ انقلبت إلى حصن تلوذ به حضارة الإسلام وتعتصم به ثقافة العروبة في هذا الجانب الغربي من بلادهما وصارت تقف موقف الذائذ عن حماهما الحافظ لكيانهما. ا. ه ان الجامعة التي هذا دورها ومكانتها العلمية والتاريخية والدينية لا تزال تعاني الأمرين في عهد الاستقلال لقد تقلص دورها وتراجع نتيجة لسياسة الإقصاء الممنهجة ضد الجامعة وضد اللغة العربية ويحز في النفس أن يلحظ الإنسان أن عهد الاستقلال نال من الجامعة ومن اللغة العربية أكثر مما نال منهما عهد الاستعمار البغيض، كما يحز في النفس أن تكون السياسة الاستعمارية قد نجحت إلى هذا الحد في إبعاد المغاربة أو أغلبية المسؤولين منهم على الأقل عن اللغة العربية وعن العناية بالجامعة ومع هذه المرارة التي يشعر بها الغيورون على الجامعة وعلى اللغة العربية فإن الأمل لا يزال قائما لأن للبيت ربا يحميه.