الخميس 23 يناير 2014م منذ أن بزغ نور الإسلام للوجود وهناك أعداء يتربصون له ويمكرون به بالليل والنهار، فمن مشركي قريش في مكة والطائف، إلى المنافقين واليهود في المدينةالمنورة، إلى الروم والفرس بعد ذلك، وصولا إلى الفرق والمذاهب الباطلة، وليس انتهاء بالتيارات الفكرية الإلحادية المعاصرة التي تعج بها الساحة الفكرية في العصر الحديث. ولعل من أخطر وأشد ما يواجهه المجتمع الإسلامي المعاصر من تيارات فكرية معاصرة (العلمانية)، تلك التي ظهرت نتيجة طغيان الكنيسة وسيطرتها على حياة الناس في أوربا، بعد أن تحالفت مع الوثنية الملكية وحرفت الدين النصراني، فسفكت دماء كل من خالفها في عقيدة التثليث التي تبنتها، كما ناصرت الخرافة والأوهام وحاربت العلم والعلماء، وكانت أولى مواجهات الكنيسة مع العلم حين صاغ كوبرنيكوس في عام 1543م نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرما يدور حولها، والذي يخالف نظرية بطليموس التي تعتنقها الكنيسة وتجعل من الأرض مركزا للكون، مما جعل الصراع يحتدم بين الكنيسة والعلم، وكان لا بد للعلم أن ينتصر في النهاية، فوضع الدين المسيحي في المعبد وعزله عن الحياة تماما، لتكون المادية واللادينية (العلمانية) بديلا لها. ومع أن الدين الإسلامي يختلف عن النصرانية من حيث حفظ الله تعالى له من التحريف والتبديل الذي حل بالنصرانية، كما أن البيئة التي نشأت فيها العلمانية مختلفة تماما عن البيئة الإسلامية التي لا تعارض فيها بين العلم والدين، بل على العكس تماما هناك توافق وتطابق منقطع النظير، فالإسلام يجل العلماء ويأمر أتباعه بالعلم والتعلم ولا أدل على ذلك من كون أولى كلمات القرآن (إقرأ)، إلا أن تآمر الغرب الصليبي المدعوم من اليهودية العالمية على الإسلام والمسلمين، وخضوع كثير من الدول الإسلامية للاحتلال الغربي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أدى إلى تسلل العلمانية إليها بشكل بات يؤرق الباحثين والمفكرين المسلمين. ومع كون انتشار العلمانية بين عامة المسلمين كان عفويا وغير إرادي ولا مقصود في الغالب، ولا يوحي انتشارها بتبني منهج التفكير العلماني، نظرا لكون المجتمع الإسلامي ما يزال محافظا على سمته المتدين وإن كان ظاهريا، إلا أنها على كل حال تنذر بخطر عظيم وكبير. وإذا كان البعض يظن أن العلمانية تقتصر على مبدأ فصل الدين عن الدولة كما هو ظاهر ومعلن، فإن الحقيقة أوسع من ذلك بكثير، حيث تهدف العلمانية إلى فصل الدين تماما عن حياة الناس بشكل عام، ولعل بروز مظاهر هذا الفصل في حياة المسلمين في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية خير دليل على ذلك. مظاهر علمنة المجتمع المسلم إن أول ما يلفت نظر المسلم في المجتمع الإسلامي هو انفصال كثير من جوانب الدين عن حياة الناس ومعاشهم، وهو تماما ما تصبو إليه العلمانية وتعمل من أجله طوال العقود بل القرون الماضية. ففي المجال السياسي لم تعد النخبة العلمانية التي تربت في أحضان الغرب وحدها من ينادي بفصل الدين عن السياسة والحكم، بل إن بعض المثقفين المسلمين من جهة وبعض عامة الناس من جهة أخرى بدأوا يتقبلون ذلك ويستسيغونه، خاصة بعد الضربات العلمانية القاسية لتجربة حكم التيار الإسلامي الذي حصل في بعض البلاد العربية الإسلامية مؤخرا، من خلال محاولة تشويهها وإظهارها بمظهر العاجز عن إدارة البلاد في العصر الحديث من جهة، ناهيك عن التكلفة الباهظة من الدماء والأرواح ومستقبل الأوطان التي رافقت تلك التجربة من جهة أخرى، والتي كانت بفعل وتدبير العلمانية العالمية طبعا، مما جعل من فكرة فصل الدين عن السياسة والحكم مقبولة عند قطاع لا بأس به من المسلمين. ومع تعقيدات المفردات والمصطلحات السياسية وأدواتها العلمانية الغربية بامتياز، من حيث كون الديمقراطية والانتخابات وحكم الأغلبية ومنظومة العلاقات الدولية كلها غربية علمانية، ومع انقسام المسلمين بين مؤيد لدخول معترك تلك العملية بأدواتها ومصطلحاتها الحالية وبين معارض لها، خاصة بعد انقلاب الغرب على تلك الأدوات حين يراد تطبيقها في الدول الإسلامية، زاد من واقع فصل الدين عن السياسة عمليا عند المسلمين رغم سلبيات ذلك وآثاره. وإذا أضفنا إلى كل ما سبق مكر اليهود والنصارى بالمسلمين لفصل الدين عن حياة الناس، من خلال ما تقدمه مؤسسة راند البحثية الأمريكية، والتي تبلغ ميزانيتها 150 مليون دولار سنويا، وقد جاء تقريرها الأخير عام 2007م في 217 صفحة بعنوان: (بناء شبكات مسلمة معتدلة)، ليكون انقلابا في السياسة الأمريكية من مساندة إسلاميين معتدلين (الإسلام المدني) في مواجهة المتطرفين منهم، والذي قرره تقرير مؤسسة راند لعام 2004م في عهد بوش الابن، إلى وضع المسلمين جميعا هذه المرة في سلة واحدة. وقد جاء في التقرير الأخير وجوب اعتماد تيارين دينين فقط هما: التيار الديني التقليدي، الذي يصلي بصورة معتادة وليس له اهتمامات أخرى -وهو قصر الإسلام على العبادات فقط أثي فصل الدين عن الحياة- والتيار الديني الصوفي، كما دعا التقرير إلى ضبط (الإسلام) نفسه وليس (الإسلاميين) ليكون متمشيا مع الواقع المعاصر العلماني الأمريكي. وأما في الجانب الاقتصادي والتعامل المادي فنرى فصل الدين عن الحياة واضحا وظاهرا لدى قطاع كبير من المسلمين، فبينما ترى الرجل المسلم يصلي ويصوم ويقوم بالعبادات الشعائرية كاملة، تراه في جانب المعاملات المادية والمالية يفصل بين أحكام الشريعة في الحلال والحرام وبين حياته التعاملية. فتراه مثلا يتعامل مع البنوك الربوية مع علمه بحرمة ذلك في الإسلام، إضافة إلى أكله المال الحرام والمشبوه، ناهيك عن غشه في تجارته، وإخلافه في موعده، وتعديه على أموالهم الناس وحقوقهم، وتجارته بالمحرمات والممنوعات شرعا، وكأن الإسلام مقتصر على الصلاة والصيام والحج فحسب. وإذا تكلمنا عن الجانب الاجتماعي فالحديث فيه لا يقل أهمية عن الجانب السياسي والاقتصادي، فالفتاة المسلمة أصبحت تخرج إلى الشارع بلباس أقل ما يقال فيه أنه غير شرعي ولا إسلامي، مع أن أم الفتاة قد تكون محجبة ومنقبة، ناهيك عن الاختلاط بين الرجال والنساء الذي أصبح أمرا عاديا وطبيعيا في المجتمع الإسلامي، فالأفراح والأعراس مختلطة، وأماكن العمل والتعليم مختلطة، في مشهد يسير تدريجيا -بحسن نية أو بسوء نية- نحو فصل الدين وأحكامه عن حياة الناس. كما أن حرمان المرأة من ميراثها أصبح أمرا منتشرا بين كثير من المصلين من المسلمين، ناهيك عن سيطرة المادية على علاقاتهم الاجتماعية بشكل عام، مما يظهر فصلا واضحا بين الصلاة والعبادة وبين الأوامر الإسلامية التي تحكم الحياة الاجتماعية للمسلمين. الأسباب والحلول المقترحة مع الاعتراف بصعوبة تجنيب المجتمع الإسلامي بشكل كامل من تأثير التيارات الفكرية المعاصرة وأشدها خطرا (العلمانية)، حيث أصبح الكون قرية صغيرة بوجود وسائل الاتصال الحديثة، وأصبح من الصعب أو شبه المستحل انعزال المسلم عن تطورات العصر الحديث، إلا أن ذلك لا يعني ترك سرطان العلمانية يأكل في جسد الأمة حتى يقضي عليها، بل لا بد من الحد من تأثيرها من خلال معرفة أسباب انتشارها، ومواجهة تلك الأسباب بالطرق والأساليب المناسبة. ولعل من أهم أسباب انتشار العلمانية في مجتمعاتنا الإسلامية ثلاثة: 1- ضعف التمسك بالدين الإسلامي الشامل -دون تمييز بين عبادات ومعاملات- عند قطاع كبير من المسلمين، واقتصار اسم المتدين على المقيم للعبادات الشعائرية فحسب، وذلك بسبب الجهل وقلة العلم بأحكام الإسلام ومبادئه. 2- وسائل الإعلام التي هيمنت عليها القوى العلمانية المتمثلة بالدولة حينا وبرجال الأعمال الموالين لها في مرحلة لاحقة، والتي سوقت للعلمانية في البلاد العربية والإسلامية، وكان لها تأثير قوي كالسحر على عقول وقلوب المسلمين، فغسلت أدمغة واستبدلت أفكارا بأخرى وحرفت الكثير من المفاهيم الإسلامية لتنسجم مع العلمانية الوافدة، وكان له من القوة والتأثير ما جعله يوازي قوة المسلمين العددية والتنظيمية التي يتفوق بها. وكيف لا والإعلام في العصر الحاضر هو السلطة الرابعة في الدول كما يسمونه، والسلاح الفاعل الذي استخدمته القوى العلمانية لفصل الدين عن حياة المسلمين، وهو الذي يقول عنه وزير الإعلام الألماني جوزيف غولبز وزير الدعاية في عهد هتلر: (لكي تكون لك دولة جيدة لا بد أن يكون لك إعلام جيد فلا دولة بدون إعلام جيد) وهو القائل أيضا: (أعطني إعلاميين بلا ضمير أعطيك شعبا بلا وعي). 3- فرض الأنظمة الحاكمة للعلمانية الغربية على معظم البلدان العربية والإسلامية بعد استقلالها من المحتل، والتي عملت على ترسيخ مبدأ فصل الدين عن حياة الناس، ومحاربة أي فكر يدعو إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في الحياة العامة. وإذا كان علاج السبب الأخير لانتشار العلمانية قد بدأ من خلال ثورة الشعوب العربية على فصل الدين عن حياتهم طوال الفترة الماضية، واستشعارهم بفشل العلمانية بحل مشكلاتهم وأزماتهم، ومطالبتهم بعودة الشريعة الإسلامية لتحكم حياة الناس وشؤونهم كافة، بدءا من الطهارة والوضوء وانتهاء بعلاقة الحاكم بالمحكوم، والذي كان لا بد له من إرهاصات وكبوات في ظل صراع مرير مع قوى الغرب، الذي تغول عبر سنوات ضعف المسلمين الطويلة، فإن علاج السببين الأول والثاني لفصل الدين عن حياة المسلمين هما الأخطر والأهم. إن الجهل أعدى عدو للإنسان كما يقال، وهو آفة الآفات وسبب كل المصائب والعلات، فإذا ما استطاع علماء الإسلام ودعاته ومفكروه، إيجاد برنامج تعليمي وتثقيفي لعامة المسلمين، يتناول شمول الإسلام لأمور الدين والدنيا معا، من خلال عرض آيات القرآن الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، التي تناولت أمور الحياة كاملة من الألف إلى الياء، والتأكيد على عدم اقتصار الإسلام على أمور العبادات الشعائرية فحسب كما يظن بعض الناس، بأسلوب سهل ويسير ومبسط، مستخدمين في ذلك وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، فإن النتائج ستكون طيبة ومرضية. وعلى الرغم من تسرب العلمانية إلى جسد الأمة الإسلامية، إلا أن فطرة المسلم السليمة لم تتقبل تلك الجرثومة رغم تعايشه معها، وجهاز المناعة فيه والممثل بفطرته السليمة يعارك ويقاوم ذلك الجرثوم ليقضي عليه، كما أن المجتمع الإسلامي ليس بحاجة لاستيراد ثقافة الغرب العلمانية، فهو يمتلك أعظم نظام حياة في تاريخ البشرية، ورغم محاولات الغرب الحثيثة في فرض العلمانية عليه، إلا أن النتائج لم تكن في يوم من الأيام مرضية لهم. يقول الكاتب رفيق عبد السلام: ما من منطقة في العالم تعرضت فيها التنبؤات العلمانية لامتحان قاس وتمحيص عسير مثل المنطقة العربية الإسلامية، ولعل هذا ما حدا بالكثير من الأكاديميين والسياسيين والإعلاميين الغربيين للحديث عما أسموه الاستثناء الإسلامي، والفشل الإسلامي، والممانعة الإسلامية، وما شابه ذلك من أوصاف تدل على عسر هضم هذه المنطقة لتلك التنبؤات. (التراجع العلماني في العالم الإسلامي) رفيق عبد السلام- مركز الجزيرة للدراسات. وأما علاج موضوع وسائل الإعلام فيكمن بإيجاد محطات وقنوات فضائية إسلامية حرفية ومهنية، ينتقى أفرادها من المختصين والأكفاء ليكتب لها التميز والنجاح، تعرف كيف تدعو للإسلام بمنهجه الوسطي المحبب، وكيف تقربه من عقول وقلوب المسلمين بأسلوب مبسط، ليس من خلال الدروس والخطب والمواعظ فحسب، بل من خلال جميع الوسائل والأساليب التي لا تتعارض مع أحكام الإسلام وضوابطه، مع التنسيق بين القنوات الإعلامية الإسلامية للوصل إلى الهدف المنشود. إن الاعتراف بالحقيقة وإن كانت مرة وقاسية أهون ألف مرة من الوهم وإن كان مريحا، واعترافنا بوجود خطر اسمه مظاهر علمنة حياة المسلمين، والعمل على معرفة أسباب ذلك ومعالجته، أهون ألف مرة من الوهم المريح بأن المسلمين بأحسن حال رغم حالهم وواقعهم الذي ينطق بغير ذلك. (مركز التأصيل)