قبل أربعة عقود من الزمن ونحن طلبة في الدراسات العليا بشعبة التاريخ (سلك تكوين المكونين) في حامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، استقدم مستشرق فرنسي من جامعة (إكس أون بروفانس- Aix en provence) لإلقاء محاضرات كانت إحداها عن ظاهرة الحاكم المستبد المستنير في التاريخ الحديث والمعاصر. وذكر نماذج من أوربا الشرقية على الخصوص ونموذج محمد علي في مصر . ويطلق المستبد المستنير على الحاكم الذي لا يفتح لرعيته مجالا واسعا للحقوق والحريات، ولكنه في الوقت نفسه يهتم باتخاذ الطرق وسن الإجراءات الكفيلة بتقدم دولته وانخراطها في سياق التحديث المعاصر، من شق الطرق السالكة، وتنظيم الجيوش القوية، وإصلاح نظم التعليم، والاهتمام بالتنمية الفلاحية واستصلا الأراضي الزراعية، وتطوير الصناعات الانتاجية. وقد تذكرت هذه الظاهرة، وتلك المحاضرة، وأنا أتأمل في مسار الإجراءات الوزارية الجديدة التي يتم بها تنزيل تعديلات وإصلاحات في مناهج التكوين والبحث العلمي بعيدا عن إشراك الفاعلين الأساسيين في الشأن الجامعي من أساتذة منضوين في شعب ومسالك وفرق ومختبرات ومراكز ومجالس تدبير ولجان متخصصة في الشؤون البيداغوجية والعلمية. مع إعطاء كل الثقل والاهتمام لهيئة مبتكرة ومبتدعة – قد تكون ربما المنجز الوحيد الذي يصدق عليه مصطلح الابتكار الحاضر في التسمية الجديدة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار. وعلى فرض أن هذه الشبكة تحتوي على أجود الكفاءات الجامعية بيداغوجيا وعلميا وتدبيريا- وهو أمر افتراضي فحسب- لأن المعايير الدقيقة لاختيار الأصلح ، والأمثل فالأمثل عند غياب الأصلح، مازالت محتشمة في ما نفاجأ به من حين لاخر من إقصاء الكفاءات الوازنة وتقريب ذوي السوابق المشبوهة. ومع الاحترام لكل الفاعلين، فإن افتراض الكفاءة اللازمة والخبرة الضرورية في الشبكة المذكورة، وتفردها بالحسم في مشاريع التعديل والإصلاح، دون اعتبار آراء ومقترحات الفاعلين المباشرين في الشأن الجامعي – الذين تم أحيانا الطلب الخادع لآرائهم ومفترحاتهم- يعد نوعا من الاستبداد المستنير. ولكن خطورة هذا الاستبداد أقل ضررا في المجالات التقنية والعلمية البحثة ، وإن كانت هذه الجوانب بدورها تحتاج إلى رؤى راجحة ونظرات عميقة، لأن التكنولوجيا لا تنقل من المجتمعات المتطورة بعيدة عن قيم وثقافات هذه المجتمعات، (يمكن الرجوع إلى الإيديولوجية العربية المعاصرة لعبد الله العروي.) ولكن الأمر أكثر ضررا في ما سوى العلوم البحتة والتقنية من آداب ولغات وعلوم اجتماعية وشرعية وقانونية واقتصادية، للحاجة في هذه العلوم إلى آفاق أوسع وخبرات أكثر ورؤى أعمق. وإلا ستظل الجامعة أداة للاستلاب الفكري وفقدان الهوية الحضارية وعدم النجاعة في جعل التعلبيم قاطرة للتنمية والفاعلية الاجتماعية والاستقرار السياسي والإشعاع الدولي. وبعيدا عن التجاذبات السياسية والتوافقات الاضطرارية، التي أسهمت في إفساد كثير من حوافز الفاعلية لدى النخب الحيوية في بلادنا، وضيعت كثيرا من فرص الإقلاع الاقتصادي والنهضة الحضارية، فإن أي أمة تستطيع أن تعرف أجود ما لديها من كفاءات وطاقات فكرية وخبرات مهنية وعقول راسخة بطرق علمية متأصلة في قيمها وأعرافها، ومستنيرة بما راكمته التجارب البشرية الحديثة في نظم الحكم ومناهج التدبير وإجراءات التسيير. ولكن هذه الخبرات والكفاءات لن تعطي أجود ما لديها إذا لم تلق في المحيط الاجتماعي والفضاء الفكري آذانا صاغية وإرادات سياسية واعية بالسياق ومقدرة للرؤى والأفكار والنظريات والمقترحات. وكثيرة هي الأمثال المغربية المعبرة – وأحيانا بشكل ساخر- عن هذه الظاهرة التي سجلتها عبقرية هذه الأمة باستفادتها من التجارب المتراكمة واكتسابها الحصانة من تكرار الأخطاء في إدراك هذه الحقيقة التي لعلنا لا نقدرها حق قدرها إلا عندما نكتوي من حين لآخر بنتائج سوء التدبير والخلل في الاختيار. ولا يعني هذا أننا نغفل التعامل مع القدرات الشخصية بما ينبغي من اعتبار لاختلاف مستوياتها وتقدير ما ينتاب الانسان من ضعف بشري وجهد نسبي، لأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير،كما ورد في الحديث. ولكن عندما يتعلق الأمر بالشؤون العامة للأمة، ووضع استراتيجيات واختيارات تحدد مصير الأجيال المتعاقبة، نجاحا وفشلا، قوة وضعفا، فإن الأمر له فقهه الراسخ من التجارب الأصيلة في حضارتنا، والمتفقة في كثير من عناصرها مع ما جربت المجتمعات الحداثية المعاصرة جدواه وصلاحيته، وأدرجته في نظمها وقوانينها. وكل تجاهل وتعسف وتناور وإقصاء وأمتنا بخير ومصابرة، مع أوسع الآمال وأرحب الآفاق.