في إطار تفعيل الإصلاح البيداغوجي لسلكي الإجازة والدكتوراه ابتداء من السنة الجامعية 2023-2024، وتماشيا مع توجهات المخطط الوطني لتسريع تحول منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار (PACT SERI 2030)، تقرر حذف مادة ما يسمى "بحث نهاية التخرج Projet de Fin des Etudes (PFE)" وتعويضها بوحدة جديدة تسمى مادة اللغات والمهارات. وبناء على هذا القرار، فان بحث نهاية التخرج سيعوض بمادة المهارات التي سيتم تدريسها باللغة الإنجليزية، وأيضا مادة اللغات حيث ستتاح، حسب التخصص، اللغات الفرنسية والإنجليزية والإسبانية. لا أدري كيف تم التوصل إلى هذا القرار، ولكن كأستاذ باحث أكاد أجزم أن القرار اتُّخِذَ بدون أخذ رأي الأساتذة الباحثين، ويمكنني أن أذهب إلى أبعد من ذلك لأقول إن المسؤولين الذين اتخذوا هذا القرار ليس لديهم أدنى فكرة عن أهمية البحث العلمي لتنمية وتقدم المجتمعات، ولا يعرفون أصلا ما هو البحث العلمي. وبصراحة فإن أكثر ما فاجئني هو موافقة وزير التعليم العالي والبحث العلمي على هذا القرار لأنني أعرف أنه يملك خبرة طويلة في البحث العلمي، ويدرك جيدا أن جودة البحث العلمي لا علاقة لها بلغة التدريس. لقد سمعت السيد عبد اللطيف ميراوي عدة مرات وهو يتكلم عن أهمية البحث العلمي وضرورة تجويده في الجامعة المغربية، وبصراحة لا أستوعب كيف تم تمرير هذا القرار. إن إلغاء بحث نهاية التخرج يعتبر في نظري، وفي نظر كثير من الباحثين والأساتذة في الجامعات المغربية، وكذا نقابات التعليم العالي، قرارا مجانبا للصواب لأنه يضرب في الصميم الجهود الحثيثة لتطوير البحث العلمي في المغرب. لا يمكن إنكار أن إتقان اللغات الأجنبية، وخاصة الإنجليزية في هذا العصر، جانب مهم للباحثين والعلماء. لكن هذا لا يعني أن إلغاء مشاريع التخرج واستبدالها بدورات لغوية ومهارات سيكون مفيدًا للطلبة وللنهوض بالبحث العلمي بصفة عامة. يجب أن يدرك المسؤولون عن التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار في المغرب أن مشاريع أبحاث التخرج تلعب دورًا حيويًا في تطوير مهارات البحث لدى الطلاب. لقد تم تصميم مشاريع التخرج للسماح للطلاب بتطبيق المعرفة المكتسبة أثناء تدريبهم الأكاديمي على المشكلات العملية في الحياة الواقعية. لذلك، فهي ضرورية لتطوير المهارات التقنية ومهارات حل المشكلات، والتي تعتبر ضرورية للبحث العلمي. إن من اشتغل في البحث العلمي وأطر الطلبة يدرك جيدا أن مشاريع أبحاث تخرج الطلاب تمكن هؤلاء من اكتساب خبرة عملية في طرق وتقنيات البحث. في مشروع بحثي، يُطلب من الطلاب تصميم دراسة وإجرائها، وجمع البيانات وتحليلها، وتفسير واستخلاص النتائج التي توصلوا إليها، وربما كتابة، كليا أو جزئيا، مقالات علمية. من خلال القيام بذلك، يطور الطلاب فهمًا أعمق لمنهجية البحث والتحليل الإحصائي وتفسير البيانات. علاوة على ذلك، تعد هذه التجربة العملية في منهجية البحث ضرورية للطلاب الذين يعتزمون ممارسة مهنة في مجال البحث، لأنها توفر أساسًا متينًا للمساعي البحثية المستقبلية. بالإضافة، تسمح مشاريع أبحاث التخرج للطلاب بتطبيق معرفتهم النظرية على مشاكل العالم الحقيقي. المعرفة النظرية المكتسبة في الفصول الدراسية ضرورية، ولكن تطبيقها على القدر نفسه من الأهمية. من خلال المشاريع البحثية، يتعلم الطلاب تطبيق النظريات التي تعلموها في الفصول الدراسية على مواقف العالم الحقيقي. هذا لا يساعد الطلاب على رؤية القيمة العملية للنظريات فحسب، بل يزودهم أيضًا بمهارات حل المشكلات. علاوة على ذلك، يساهم تطبيق المعرفة النظرية في تنمية مهارات التفكير النقدي من خلال تحليل البيانات وتفسير النتائج واستخلاص النتائج. زيادة على اكتساب المهارات السالفة الذكر، توفر مشاريع أبحاث التخرج للطلاب فرصة للعمل بشكل وثيق مع أعضاء هيئة التدريس الذين يعملون كموجهين. يقدم أعضاء هيئة التدريس التوجيه والملاحظات طوال عملية البحث، من تصميم الدراسة إلى تحليل البيانات. يعد هذا التعاون مع أعضاء هيئة التدريس أمرًا بالغ الأهمية لأنه يمكّن الطلاب من التعلم من الباحثين ذوي الخبرة، الذين يمكنهم تزويدهم برؤى وتعليقات قيّمة حول مشاريعهم البحثية. يعزز هذا التعاون الإحساس بالانتماء للمجتمع ويشجع الطلاب على مواصلة البحث. كما أن مشاريع أبحاث التخرج تعزز مهارات الاتصال لدى الطلاب. في مشروع بحثي، يُطلب من الطلاب تقديم نتائجهم كتابةً، وكذلك في العروض التقديمية الشفوية. يمكّنهم ذلك من تطوير مهارات الاتصال الكتابية والشفوية، والتي تعتبر ضرورية لكل من الإعدادات الأكاديمية والمهنية. بالإضافة إلى ذلك، فإن تقديم نتائج البحث إلى جمهور أوسع يساعد الطلاب على تنمية الثقة في قدراتهم وتلقي التعليقات على عملهم. أخيرًا، وليس آخرا، تساهم مشاريع أبحاث التخرج في تطوير المهارات القابلة للنقل. المهارات القابلة للتحويل هي مهارات يمكن تطبيقها على مواقف وسياقات مختلفة. المهارات التي يطورها الطلاب في المشاريع البحثية، مثل حل المشكلات والتفكير النقدي والتواصل، هي مهارات قابلة للتحويل تحظى بتقدير كبير من قبل أصحاب العمل. بالإضافة إلى ذلك، فإن القدرة على العمل بشكل مستقل، وإدارة الوقت بشكل فعال، والوفاء بالمواعيد النهائية، وكلها مهارات أساسية في المشاريع البحثية، هي مهارات قابلة للتحويل يمكن تطبيقها على مجموعة من السياقات. على الرغم من أن إتقان اللغة عنصر مهم للباحثين، فإن إلغاء مشاريع التخرج لصالح دورات اللغة والمهارات الشخصية ليس قرارًا حكيمًا في رأيي المتواضع. من المهم الحفاظ على مشاريع التخرج كعنصر أساسي في التدريب الجامعي لتعزيز تنمية المهارات التقنية والبحث العلمي وتكوين جيل المستقبل الذي يعول عليه المغرب للنهوض بالبحث العلمي والابتكار. إن البحث العلمي هو قاطرة تنمية الأمم، إذ يعد الأساس الذي يحقق التقدم والابتكار. فهو يوفر نهجا منهجيا لفهم العالم من حولنا، وكشف أسرار الطبيعة، ومعالجة التحديات المجتمعية المعقدة. من خلال البحث الدقيق والتجارب، تولد الأبحاث العلمية المعرفة التي تمهد الطريق للتقدم في مجالات مختلفة، بما في ذلك الطب، والتكنولوجيا، والزراعة، والطاقة. فهي توفر الأساس لاتخاذ القرارات القائمة على الأدلة، وتؤدي إلى تخصيص الموارد بشكل أكثر كفاءة واتخاذ القرارات المستنيرة. من خلال تعزيز ثقافة البحث العلمي، يمكن للأمم استغلال قوة الابتكار، وجذب الكفاءات العلمية البارزة، وخلق بيئة ملائمة للنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة. بالإضافة إلى ذلك، تعزز البحوث العلمية التعاون الدولي وتبادل المعرفة، مما يعزز الشراكات العالمية التي تتجاوز الحدود وتدفع بالتقدم على نطاق عالمي. إن الاستثمار في البحث العلمي أمر ضروري للأمم من أجل البقاء في طليعة الاكتشافات، وتحسين جودة حياة مواطنيها، وضمان مستقبل مزدهر للأجيال القادمة. ختاما، أرى أنه بدلا من استبدال مشاريع التخرج بدورات اللغة والمهارات الشخصية، سيكون من الحكمة دمجها في التدريب الجامعي كمكون أساسي للبحث العلمي. وبالتالي يمكن للطلاب اكتساب المهارات اللغوية اللازمة مع تطوير مهاراتهم التقنية والمساهمة في تطوير البحث العلمي في الدولة. أتمنى أن يلغى قرار إلغاء مادة "بحث نهاية التخرج" قبل فوات الأوان. إن الطلبة المغاربة في أمس الحاجة إلى مادة "بحث نهاية التخرج"، ويجب على المسؤولين عن البحث العلمي والتعليم العالي تشجيع المادة وتوفير الإمكانيات اللازمة لها من أجل زرع حب البحث العلمي في الأجيال القادمة والسير نحو التقدم والرقي.