في ظل الأجواء المحيطة بالشعوب العربية في الوقت الراهن، وما تُعانيه هذه الشعوب من ظلم وقهر قامت ضده ثورات عديدة، يأتي كتاب "مفهوم الاستبداد في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر" ليلقي الضوء على أهم ظاهرة شملت شعوبًا كثيرة على مر التاريخ، وهي ظاهرة الاستبداد. -الكتاب: مفهوم الاستبداد في الفكر السياسي الإسلامي الحديث والمعاصر.. دراسة مقارنة -المؤلف: د. هناء البيضاني -تقديم: د. علي جمعة -عدد الصفحات: 550 -النَّاشر: الدار المصرية اللبنانية – القاهرة -الطبعة: الأولى 2012م يتناول الكتاب الاستبداد في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر من خلال تحليل رؤى أربعة من أهم المفكرين الذين اهتموا بهذه القضية، وهم: الشيخ محمد الغزالي (1917-1996م)، والمفكر عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902م)، ممثلان للفكر السُّنِّي، والإمام محمد حسين النائيني (1856-1936م) والرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي (ولد عام 1943)، ممثلان للفكر السياسي الشيعي. والكتاب في الأصل رسالة دكتوراه قدمتها الباحثة اليمنية الدكتورة هناء البيضاني، وهي ابنة الدكتور عبد الرحمن البيضاني نائب رئيس الجمهورية اليمني الأسبق، لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، قبل أن تقوم بإعدادها في صورة كتاب يتكون من أربعة فصول، يضم كل فصل منها أربعة مباحث. يتناول الفصل الأول مفهوم الاستبداد في المدارس الفكرية والسياسية المختلفة، والتطور التاريخي للمصطلح، والأسباب التي تدفع إلى ظهور الأنظمة المستبدة، بينما يؤصل الفصل الثاني لمفهوم الاستبداد من حيث المقومات الفكرية للمصطلح، والآليات التي يتحرك من خلالها، وكيفية علاج هذه الظاهرة. أما الفصل الثالث من الكتاب فهو عبارة عن قراءات في الكيفية التي تناول بها الفكر السياسي مفهوم الاستبداد من حيث جذوره وأسبابه وكيفية مواجهته، في حين يعالج الفصل الرابع الفكرة لدى مفكري وعلماء السنة من خلال نموذجيْ حالة في كل منهما. إعادة إنتاج الخطاب الإسلامي وفي مقدمة الكتاب، يقول الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية: إن الفكر السياسي الإسلامي بوجه عام، والحديث والمعاصر منه على وجه الخصوص، يحتاج إلى قراءات جديدة والمزيد من إعادة النظر فيه من أجل استنباط النظريات العامة والمفاهيم الأساسية لفكرنا السياسي، والوقوف على التوجهات السياسية لمفكري العالم الإسلامي. ويضيف أنه من الأهمية بمكان أن تتم تلك العملية من خلال مراعاة الموضوعية وعدم التحيز مع تجنب استعارة المفاهيم الجاهزة للفكر السياسي الغربي عند قراءة وتحليل تراثنا السياسي، إذ إن أي فكر لا يمكن أن ينفصل عن البيئة التي نشأ فيها. ويزيد د. جمعة، في مقدمته للكتاب، قائلاً: إن الفكر السياسي في التراث الإسلامي عُني بالأساس بقضايا تخص بروتوكولات دار السلطنة، أما ما يخص شؤون المواطنة وحقوق الرعية ونصيحة الحكام وأحكام المعارضة السياسية فلا نعثر عليه إلا نادرًا في تراثنا السياسي. وذات المعنى تؤكده المؤلفة، وهي تفسر غياب نظرية عامة لمصادر مفهوم الاستبداد في الفكر السياسي الإسلامي الحديث والمعاصر، فتقول: "إن هناك إرادة من جهات عديدة إسلامية أو عربية لإدخال بعض مصادر الفكر السياسي الإسلامي بصفة عامة ضمن المحظورات أو الممنوعات من التداول". كما تؤكد المؤلفة، في مستهل كتابها، حقيقة تعتبرها بديهية سياسية واجتماعية، وهي أن معظم الأنظمة السياسيّة في العالم العربي والإسلامي أنظمة استبدادية، وتطلق مصطلح "الاستبداد الديني" على الواقع السياسي القائم في العالم العربي والإسلامي، وتقول: إن الاستبداد في بلداننا العربية والإسلامية نشأ نتيجة تزاوج هذا الاستبداد الديني مع الاستبداد السياسي، وإن هذا التزاوج هو السبب الرئيسي في واقع الوهن والضعف الذي تحياه الأمة في الوقت الراهن. إشكالية التعريف في الفصل الأول من الكتاب، تشير هناء البيضاني إلى وجود عدد من الإشكاليات المفاهيمية والتاريخية التي تمنع وضع تعريف دقيق للاستبداد، مع عدم وجود تعريف جامع مانع للاستبداد، ولذلك تحاول تحديد تعريفه إجرائيًّا، فتشير إلى أن الاستبداد هو صنو الفساد، كما أنه يعني الطغيان، والطغيان هو التجاوز والعدوان والظلم. وهذا المفهوم في الاستبداد، الظلم والطغيان، هو التصور الإسلامي الأصيل للاستبداد كما ورد في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة، والطغيان وفق النص الإسلامي هو الظلم والابتعاد عن شرع الله تعالى. ومن بين التعريفات التي تعتمدها المؤلفة للاستبداد، تعريف الكواكبي له في مؤلفه "طبائع الاستبداد"، حيث يقول: إن الاستبداد لغةً هو "غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة"، ويضيف أنه يُراد بالاستبداد عند إطلاقه "استبداد الحكومات خاصةً، لأنها أعظم مظاهر أضراره التي جعلت الإنسان أشقى ذوي الحياة". "الكواكبي:الاستبداد هو تصرف فرد أو جمع في حقوق القوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة، وهو صفة الحكومة المطلقة العنان، فعلاً وحكمًا، والتي تتصرف في شؤون الرعية بلا خشية حساب، ولا عقاب" ويستطرد الكواكبي في وصف الاستبداد في اصطلاح السياسيين بأنه تصرف فرد أو جمع في حقوق القوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة، ويزيد أن "الاستبداد هو صفة الحكومة المطلقة العنان، فعلاً وحكمًا، والتي تتصرف في شؤون الرعية بلا خشية حساب، ولا عقاب محققين". ويرتبط بذلك -انفراد فرد أو مجموعة من الأفراد بالحكم أو بالسلطة المطلقة- عدم الخضوع لأية قاعدة أخلاقية، وكذلك تجاوز رأي المحكومين ومصالحهم، إذ تمارس السلطة المستبدة الحكم من دون أن تكون خاضعة للقانون الذي تفرضه فقط على الشعب. أما في التعريف الغربي فكلمة المستبد، أو "despot"، مشتقة من الكلمة اليونانية "ديسبوتيس" التي تعني رب الأسرة، أو سيد المنزل، متجاوزة هذا النطاق الأسري، إلى عالم السياسة لكي تطلق مصطلح الاستبداد على نمط من أنماط الحكم الملكي المطلق الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه ممثلة لسلطة الأب على أبنائه في الأسرة. وتشير المؤلفة في هذا الإطار إلى أن مصطلح "الاستبداد" ارتبط بالنظام الإمبراطوري البيزنطي في القرن الأول قبل الميلاد، إذ كان أباطرة الإمبراطورية البيزنطية يطلقون لقب "المستبد" كشرف يمنحه الإمبراطور لابنه أو زوج ابنته عند تعيينه حاكما لإحدى المقاطعات. وفي الإطار نفسه، تشير الكاتبة إلى بعض قواعد الممارسة الاستبدادية في الجانب السياسي، والتي وردت في أدبيات رموز من مفكري السياسة عبر التاريخ، مثل ماكيافيلي، الذي يفصل تمامًا بين الممارسة السياسية والأخلاق. وتقول المؤلفة: إن الاستبداد السياسي جزء من نظرية الاستبداد وطغيان السلطة في المجال الاجتماعي والإنساني بشكل عام، فهو، كما قال الكواكبي، يبدأ من سلطة الأب، حتى يصل إلى مستوى الحاكم والممارسة السياسية، كما يشتمل على مجموعة من الظواهر السياسية، فإنه يشتمل على ظواهر اجتماعية أيضًا، مثل استبداد الرجل ضد المرأة، والاستبداد في التربية والتعليم، والاستبداد الثقافي والفكري. آليات الاستبداد يعتمد الاستبداد والأنظمة المستبدة على أربعة مفاصل أساسية لممارسة السلطة المطلقة، أو -بمعنى آخر- أربعة أشكال للفساد، وهي: - الفساد السياسي، ومن بين صوره القفز إلى سدة الحكم قهرًا، وزوال سيادة القانون، والحؤول دون المشاركة السياسية، ومركزة القرار والحكم، والقضاء على ذوي الحيثية داخل الدولة، وسيطرة بطانة السوء، وتبني آليات الدولة البوليسية، وقمع حرية الرأي. - الفساد الاقتصادي، ومن بين صوره الإسراف والبذخ، والإنفاق المبالغ فيه على المؤسسة العسكرية من أجل ضمان ولائها، والجبايات غير الشرعية. "الفساد السياسي هو القفز إلى سدة الحكم قهرًا، وزوال سيادة القانون، والحؤول دون المشاركة السياسية، ومركزة القرار والحكم، والقضاء على ذوي الحيثية داخل الدولة" - الفساد القضائي، ومن بين أبرز أدواته: تعطيل العدالة، وحرص الحاكم على التقرب من العلماء والقضاة من أجل كسب ودهم وتأييدهم، مع المحاباة في تطبيق القانون. - الفساد الإداري، ومن بين مظاهره فساد الشرطة، والمحسوبية في التعيين في الوظائف العامة، وشخصنة السلطات، وعدم الترشيد في الإنفاق العام، ومركزية اتخاذ القرار. وتقول المؤلفة: إن هناك شكلاً آخر من أشكال الممارسة الدكتاتورية المستبدة، وتتمثل في الأنظمة شبه الاستبدادية، وهي تشبه الأنظمة المستبدة في آليات عملها لكنها قد تلجأ إلى بعض الممارسات التجميلية، مثل إقامة الانتخابات، وتشجيع الممارسة الديمقراطية بشكل من الأشكال، ولكن كل هذه الممارسات لا تؤدي إلى تداول حقيقي للسلطة، ولكنها تتداولها فقط في إطار دائرة الحكم والطبقات المحيطة بها. الاستبداد الديني النماذج التي تسوقها الكاتبة لتوضيح هذه المسارات الأربعة للاستبداد، والاتجاه العام للكتاب، كانت في إطار الحديث عن دولة الخلافة، ولم تلتفت الكاتبة لأية عوامل أو اعتبارات سياسية واجتماعية تاريخية أخرى كانت قائمة في دولة الخلافة الإسلامية طيلة 14 قرنًا. فهي تشير إلى أن صورة الاستبداد الرئيسية في العالم العربي والإسلامي عبر التاريخ هي ما يطلق عليه مصطلح الاستبداد الديني، أي الاستبداد الذي تتم ممارسته باسم الدين، وتكون الممارسة الاستبدادية فيه مستندة إلى أصول وقواعد مرتبطة بالنص المقدس. الإشكالية هنا هي أن العالم العربي والإسلامي لم يعرف وحده هذه الظاهرة، التي نشأت بالأساس مع نشوء سلطة الكنيسة في أوروبا بعد دخولها إلى المسيحية، ولكن المؤلفة تتجاهل الإطار الجغرافي، وتركز على العالم العربي والإسلامي باعتبار أن "الاستبداد الديني" هو أحد أهم أسباب تخلف الأمة، وتصفه ب"الاستبداد الديني المفجع الذي لا يمكن إنكاره". ويبدو الطرح الشيعي واضحًا في بعض فقرات الكتاب وملاحظات الكاتبة حول "القمع الديني المفجع" في العالم العربي والإسلامي، فتقول: إن هذا الاستبداد أمر ليس حديث العهد بالممارسة السياسية والحكم في العالم العربي والإسلامي، بل "يضرب بجذوره في عمق التزامن مع بداية الاستبداد السياسي"، مشيرة في هذا الجانب إلى ما تعرضت له بعض الفرق الإسلامية من "قمع شديد" منذ العصر الأموي، في إشارة لما تعرض له أنصار سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وشيعته في تلك المرحلة من التاريخ الإسلامي، بعد أحداث الفتنة الكبرى. كما أنها تحمل السُّنَّة مسؤولية استمرار "الاستبداد الديني" في التاريخ الإسلامي من خلال قولها إنه كانت لديهم رؤيتهم الخاصة بعدم جواز الخروج على الحاكم حتى ولو كان جائرًا، وإن الدراسات الخاصة بأدب النصيحة استهدفت محاولة علاج استبداد الحاكم، مشيرة إلى أن ذلك كان سببًا من بين أسباب انهيار الخلافة العباسية. كما تشن الكاتبة هجومًا حادًّا على جماعات الإسلام السياسي في تاريخنا الحديث والمعاصر، فتقول: إنها "لم تفهم الدين فهمًا صحيحًا فضلت الطريق"، وأدى ما تصفه بالتشدد في فكرها إلى ظهور "الحركات الإرهابية"، وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. وفي تناول المؤلفة لأفكار المفكرين الأربعة الذين اختارتهم كدراسة حالة، فإن السمة الأبرز التي يمكن الخروج بها من تجربتهم هي أنهم جميعًا جاهدوا بالفكرة والكلمة والفعل السياسي ضد أنظمة مستبدة، ولكنهم جميعًا أيضا واجهوا حربًا من جانب الأنظمة المستبدة التي كانوا يعيشون في كنفها. ففي حالة كل من الكواكبي وخاتمي كانت النهاية بالاغتيال، الجسدي في حالة الكواكبي الذي مات مسمومًا في عام 1920، والسياسي في حالة خاتمي الذي واجه العديد من المصاعب السياسية أمام خصومه في نظام الملالي الحاكم في إيران من أنصار الحرس القديم للثورة، بشكل وصل إلى درجة اتهامه بالخيانة، مع عزله عن الحياة السياسية بشكل كامل بعد انتخاب الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد، المحسوب على التيار المحافظ، في انتخابات الرئاسة في عام 2005. "مفكرو السنة والشيعة يجمعون على أن الجهل أهم أسباب ظهور الاستبداد، وأن التمايز الطبقي أبرز مظاهره، ويختلفون في رؤيتهم لكيفية مواجهة الاستبداد" ولقد وضع هؤلاء الأربعة مجموعة من الأفكار والقواعد في كتاباتهم عن الاستبداد، التي من بين أهمها "طبائع الاستبداد" للكواكبي، و"الإسلام والاستبداد السياسي" للغزالي، و"تنبيه الأمة" للإمام النائيني، و"الدين والفكر في شراك الاستبداد" لمحمد خاتمي. ومن بين أهم ما أجمع عليه الأربعة، أن الجهل من بين أبرز العوامل التي تقود إلى ظهور الأنظمة الاستبدادية، وأن من أبرز مظاهر الاستبداد التمايز الطبقي، ولكنهم اختلفوا في الكيفية التي يمكن التعامل بها مع الاستبداد، ولا يقوم هذا الاختلاف على أسس مذهبية، فالنائيني الشيعي والغزالي السُّنِّي كانا أميل إلى فكرة الثورة لتصحيح الأوضاع. أما خاتمي والكواكبي فقد نظرا للاستبداد باعتباره أمرًا متجذرًا في المجتمعات، وأن الثورة وحدها ليست كافية للإطاحة بالأنظمة الفاسدة، ما لم يترافق مع ذلك إصلاح شامل يجتث العوامل التي دعمت الأنظمة الفاسدة. وهذه الرؤية كانت حاضرة أيضًا لدى الغزالي والنائيني، ولم تكن غائبة عنهما، ولكنهما كانا في أدبياتهما أكثر ميلاً إلى الحلول الراديكالية في التغيير والإصلاح. المصدر : الجزيرة