دخول الحشرات في المطعومات أمر قديم، ولا شك أنك أكلت شيئا منها، كما هو الحال بالنسبة لحشرة (Kerria lacca) وهي حشرة معروفة يأخذون إناثها ويستخلصون منها شمع (Shellac) يعطي لونا لامعا للأطعمة، وهذا موجود بكثرة، بل حتى صار يرش به الليمون ليعطي لونا لامعا، وأغلب الألوان اللامعة التي على الأطعمة هي من حشرات، كما يتم تشميع التفاح بهذه المادة حتى تصير أكثر لمعانا وجاذبية. (http://bit.ly/3jBcLEa). ولا شك أنك رأيت على إحدى العلب (E120) وما هو إلا رمز ل(Carmine) وهو خضاب ذو لون أحمر مشرق اللون الذي تنتجه بعض الحشرات القشرية مثل الدودة القرمزية وحشرة القرمز البولندية (http://bit.ly/3HYWpP1). بل لا تسلم الأطعمة من الكحول أيضا، كما هو الحال في المشروبات الغازية، ك(البيبسي كولا) و(كوكا كولا) و(سفن آب) فقد أذيبت موادها الأولية بشيء من الكحول [(الخمر بين الطب والفقه لمحمد البار ( ط دار السعودية ص 53)]. وهذه المسألة تناقش في بابين: – الباب الأول: حكم أكل الحشرات، وهي على أربعة أنواع: النوع الأول: حشرات ورد النص بإباحتها كالجراد، عن عبد الله بن عمر :«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أحلت لنا ميتتان: الحوت، والجراد». [سنن ابن ماجه (2/ 1073 ت عبد الباقي)]. النوع الثاني: حشرات ورد النص بتحريم قتلها، فيقال ما حرم قتله حرم أكله، كالنحلة والنملة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم :«نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد». [سنن أبي داود (4/ 539 ط مع عون المعبود)]. النوع الثالث: حشرات ورد النص آمرا بقتلها كالعقرب، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«خمس فواسق يقتلن في الحرم الفأرة والعقرب والحديا والغراب والكلب العقور». [صحيح البخاري (4/ 129 ط السلطانية)]. النوع الرابع: نوع مسكوت عنه، وهذا أيضا على ضربين : ضرب ثبت ضرره فلا يحل أكله إجماعا. وضرب لم يثبت ضرره، وهذا الذي ندرجه تحت الخلاف: القول الأول: أن كل الحشرات محرم، وهذا قول الحنفية والشافعية والحنابلة [الموسوعة الفقهية الكويتية (17/ 279)]، ودليلهم الاستخباث والله ربنا حرم الخبائث: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف:157]. القول الثاني: الإباحة وهو قول المالكية على العموم. [القوانين الفقهية (ص115)]، ودليل هذا عدم وجود نص يحرمها، قال ربنا :﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً..﴾ [الأنعام:145]. وعن ملقام بن التلب، عن أبيه، قال: «صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريما». [سنن أبي داود (3/ 354 ت محيي الدين عبد الحميد)]. لكنه حديث ضعيف لجهالة ملقام. أما كونها من الخبائث فليس على عمومه، فما تراه أنت خبيثا تعافه نفسك يرى غيرك عكسه، فمن الناس من يمتنع عن أكل الجراد رغم أن النص على إباحته، وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الضب مع أكل الصحابة له بحضرته. فقال صلى الله عليه وسلم :«لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه. قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلي». [صحيح البخاري (7/ 71 ط السلطانية)]. فلما كانت الطباع تختلف جعلوا ضابط الاستخباث ما تستخبثه العرب. [حياة الحيوان الكبرى للدميري (1/ 334)]. لكن كان من العرب من يفتخر بأكلها كالذي قال : أيا أم عمرو ومن يكن عقر داره ... جوار عدي يأكل الحشرات. [الحيوان للجاحظ (6/ 527)]. الباب الثاني: الاستحالة والاستهلاك: أما الاستحالة: فهي تغير الشيء عن طبعه ووصفه. [المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 157)]. وبمعنى آخر هي تفاعل كيميائي يحول المادة من مركب إلى آخر. وهذا كتحول مياه المجاري إلى مياه صالحة للشرب.. وقد تحدث الفقهاء قديما عن هذا عند الحديث عن تحول الخمر إلى خل وتحول النجاسة إلى رماد أو دخان أو غبار، ومثله البخار الخارج من فم الحيوان النجس كالكلب، فهل يعطى هذا البخار حكم الريق، أو يقال: إنه تحول إلى بخار فأصبح طاهرا؟. فذهب الشافعية [المجموع شرح المهذب (2/ 579 ط المنيرية)]. والحنابلة «[المغني لابن قدامة (1/ 97 ت التركي)]. إلى أن النجاسات لا تطهر بالاستحالة، وهذا لأنه تبقى أجزاء منها، وكذلك لحديث ابن عمر، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الجلالة، وألبانها». [سنن ابن ماجه (2/ 1064 ت عبد الباقي)]. والجلالة هي التي تأكل النجاسة. والذي عليه الحنفية [حاشية ابن عابدين = رد المحتار ط الحلبي (1/ 316)] والمالكية [الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 57)] أن النجاسات إذا تحولت أعيانها إلى شيء طاهر أصبحت طاهرة، ودليل هذا أن الخل في الأصل كانت خمرا، وكذلك قول ربنا :﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾ [النحل: 66]. فالدم نجس لكن لما تحول إلى لبن صار مباحا، ومن خالف هذا لزمه أن يحرم اللبن، لأنه دم استحال لبنا. [المحلى بالآثار (6/ 101)]. وعن ابن عمر، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الجلالة، وألبانها». [سنن ابن ماجه (2/ 1064 ت عبد الباقي)]. والجلالة هي الدابة تأكل النجاسة، فقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا علفت بالنجاسة، ثم حبست وعلفت بالطاهرات، حل لبنها ولحمها. [أعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 252 ط عطاءات العلم)]. وكذلك الزروع والثمار إذا سقيت بالماء النجس فثمارها تكون طيبة. [مختصر خليل (ص16)]. [شرح الخرشي على مختصر خليل – ومعه حاشية العدوي (1/ 88)]. والاستحالة هذه تكون بأمور منها المعالجة الكميائية العصرية، وقديما تحدث الفقهاء عن الإحراق والنزح وكذلك الاستهلاك، وهو أن تفنى عين النجاسة في مادة طاهرة حتى تصير جزءا منها، فقد ذهب جمع من الفقهاء أن النجاسة إذا كانت يسيرة وخلطت بطاهر حتى صار منها فلا أثر له، قال ابن تيمية :«لو وقع خمر في ماء واستحالت ثم شربها شارب لم يكن شاربا للخمر؛ ولم يجب عليه حد الخمر؛ إذ لم يبق شيء من طعمها ولونها وريحها ولو صب لبن امرأة في ماء واستحال حتى لم يبق له أثر وشرب طفل ذلك الماء: لم يصر ابنها من الرضاعة بذلك». [مجموع الفتاوى (21/ 33)]. ودليل هذا حديث أبي هريرة أنه قال :«قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء». [صحيح البخاري (1/ 54 ط السلطانية)]. فعلى القول جواز الحشرات فالأمر ظاهر، وعلى القول بحرمتها، فننظر هل تحولت تماما بالاستحالة أو استهلكت مع مواد أخرى، فإن حصل ذلك أبيحت حتى لو قلنا بحرمة أكلها، وهذا يشمل الجيلاتين والبِبْسين والكحول في الأدوية وغيرها..