كان المفكر المغربي عبد الله العروي يقول دائماً إن المغرب جزيرة ويجب على المغاربة التصرف على هذا الأساس. يبدو أن قدر الجغرافيا والجغرافيا السياسية يسيران في هذا الاتجاه ويؤيدان هذه الفكرة، على الأقل في العقود التي أطبق فيها الاستعمار يده على المغرب ووظف المشرط في تقسيمه وتجزيئه، بشكل جعل المغرب الدولة الأكثر عراقة وشساعة في أفريقيا يخرج زمن الاستقلال وهو يفقد أجزاءً من ترابه الوطني. لا يتعلق الأمر هنا برغبة في إعادة عقارب التاريخ إلى الوراء، بل للوقوف على الأسباب العميقة لتعثر مشروع الدولة الحديثة في المنطقة المغاربية، ورهاب وارتباك الهوية الوطنية في عدد من دولها، هذا الوضع بثقله التاريخي له تداعيات خطيرة على الحاضر والمستقبل والمغرب باستمرار، وفي قلب تلك التداعيات. الجديد اليوم هو الانحراف الذي عرفته الدبلوماسية التونسية بقيادة رئيس الجمهورية قيس سعيد، إذ أصبح من المؤكد أن الرئيس التونسي له تقدير موقف يناقض ثوابت الدبلوماسية التونسية منذ أزيد من أربعة عقود، والذي كان يتمحور حول الحياد الإيجابي من النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، وذلك لأن تونس كانت دائماً ضحية للجغرافيا السياسية، حيث كانت هناك في بدايات النزاع المفتعل بين كماشة القذافي في الشرق وبومدين في الغرب… استمرت تونس تقاوم التهديدات، حيث يجب ألا ننسى حوادث قفصة بداية الثمانينات، والتي كانت تقضي بقلب نظام بورقيبة وبناء نظام موال لليبيا والجزائر، لذلك فموقف الحياد التونسي حتى لو لم يصدر عن قناعة، فإنه كان نوعاً من التميز عن نظامين عسكريين بينما كان المغرب قريباً من تونس بحكم السياسة والاختيارات الاقتصادية والثقافية ضداً على واقع الجغرافية.. قيس سعيد اليوم، يظهر محدودية قدرته على التفكير الاستراتيجي، وكما أنتج مواقف شاذة وصادمة تنم عن محدودية الإدراك السياسي للرجل، ها هو اليوم يعتقد أن دبلوماسية الحدود أكثر أماناً وأفضل بالنسبة لتونس، يضاف إلى ذلك أن الرجل منذ انقلابه على مؤسسات البلاد وهو يقع تحت تأثير النظام الجزائري، بل تحول إلى رهينة لدى الجزائر التي لم تتردد في مقايضة مواقفه السياسية والدبلوماسية بالمساعدات المالية والعينية، ذلك أن قيس سعيد يدرك أنه ساهم في قيادة بلاده إلى حافة الإفلاس لتواجه مصيراً مشابهاً لسيريلانكا. مسرحية استقبال قيس سعيد لزعيم الميليشيات الانفصالية ليس سوى حلقة من سلسلة حلقات الإساءة للمغرب خدمة للنظام الجزائري الذي استنفد ما في جعبته من إساءات اتجاه المغرب، صحيح أن ذلك لا تأثير له على حقيقة مغربية الصحراء، لكن مع ذلك فهذا التحول ستكون له تبعات على استقرار المنطقة وهو استقرار هش يصادف تحولات جيواستراتيجية عميقة. تونس اليوم في مفترق الطرق، خاصة بعد القرارات الانقلابية التي اتخذها الرئيس قيس السعيد في 25 يوليو 2021، وصولاً إلى فرض دستور يفرغ كل التراكمات الديموقراطية التي حققتها تونس، وهي قرارات تتسع يومياً دائرة رفضها، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، ذلك أن البلاد أصبحت أمام تعطيل شبه كلي للمؤسسات والدستور قبل اعتماد الدستور الجديد، لكن ما الذي جعل التجربة التونسية بعد ما سُمي بالربيع العربي، تبدو أكثرها قدرة على النجاح؟ ذلك لأنها رغم إسقاط بن علي حافظت على استقرار مؤسسات الدولة والحد الأدنى من السلم والأمن، كما أنها الدولة الوحيدة من دول "الربيع" التي أجرت انتخابات لم يطعن فيها أحد بالتزوير – بالطبع نتحدث عن الطعن السياسي – وهي الدولة التي عاد فيها جزء من القيادات التجمعية الدستورية عبر صناديق الانتخابات في إعادة للسيناريو الذي عرفته أوكرانيا بعد الثورة البرتقالية، وذلك رغم الحديث المتكرر عن قانون العزل السياسي، وهي الدولة التي انتخبت ثلاثة رؤساء للدولة بعد بن علي، يعود الفضل في ذلك كله، لوجود تقاليد دولة تعود إلى فترة الراحل الحبيب بورقيبة، الذي رغم كل الملاحظات التي يمكن أن تقدم حول فترة حكمه ومنهجه في قيادة السلطة، فإنه لا يمكن إنكار الجهود التي قادها، سواء في النهوض بالمرأة أو في تحضر المجتمع التونسي ونشر التعليم، كما أن النظام في تونس لم يرتكز في أي لحظة من اللحظات على المؤسسة العسكرية، رغم أن ذلك كان موضة سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ما أهّل المؤسسة العسكرية أن تلعب دوراً مهماً في الحفاظ على استقرار تونس ووحدتها، ذلك أنها لم تتورط في أخطاء مرحلة زين العابدين بن علي، ولأنها كانت على المسافة نفسها من جميع الأطراف السياسية، هذه الصورة المثالية عن تونس تغيرت منذ قرارات 25 تموز (يوليو)، وأصبحت جزءاً من الماضي بفضل رئيس شعبوي يعيش حالة نفسية يعتقد فيها أنه المنقذ، وأن الجميع يتآمر عليه، لكن مع هذا النموذج لا أحد يستطيع توقع مصير تونس في السنوات المقبلة، خاصة بعد عودة ممارسات تحد من الحقوق والحريات، ورهن القرار السيادي بمساعدات غذائية تأتي من الجزائر.