هوية بريس – السبت 14 نونبر 2015 لما كان الحكم على الشيء فرعا عن تصوره، فالموضوعية تقتضي مبادرة إشكالية التفقه والعبادة بتأكيد الفارق الكبير بين التفقه في دين الله عز وجل من خلال مذهب معين، وبين عبادة الله سبحانه بذلك المذهب، وذلك لأن أكثر الناس على الخلط بين الأمرين، وما أكثر ما ينتج عن ذلك من ظلم وهُجر، وسوء ظن وهجران. أما التفقه من خلال مذهب معين يتقيد به طالب العلم في بداية الطلب فهو أمر لا بد منه لمن صدقت نيته، وابتغى البناء والتكوين المرتكز على أسس المذهب لا يفارق منها لبنة. ولهذا اعتبر القفز على هذه المرحلة من التكوين العلمي المفضي إلى تصور مسائل الفقه على ذاك المذهب مما يشين طالب الفقه ويزري به. طبعا، وكلما كان التفقه موافقا لمذهب البلد الذي ينتمي إليه الطالب أو يقيم فيه، كان ذلك أوفق له للتمكن فيه. ثم بعد أن يهضم طالب العلم المذهب الفقهي الذي تضلع منه على يد شيوخه وعلمائه، ويتمكن منه أصولا وفروعا، فله حينئذ أن يعرج على المذاهب الفقهية الأخرى، فيكرع منها ما ينفع به النفس والأمة. ولا جرم أن تبحره فيها غير مقيد بشرط، سوى شرط التمكن والإتقان بحيث يكون من أهل الصنعة حقا، فربّ حامل فقه ليس بفقيه، أو هو عالة عليه. نأتي الآن إلى عبادة الله وَفق مذهب معين، نلزم الناس به قسرا فلا يحيدون عنه قيد أنملة، ونبادر إلى أن ذلك أمر لا برهان عليه من الدين ولا سلطان، بل تأباه شريعة الرحمن الصالحة لكل زمان ومكان، والشاملة لكل كلي وجزئي، وكبير وصغير، ومقصد ووسيلة، التي لا يمكن أبدا أن يجمعها ويستوعبها مذهب فقهي واحد أياً كان أصحابه، ومهما علا شأنه، فكما تفرق الحق في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وحُفظ بمجموعهم، تفرق أيضا في المذاهب الفقهية المعتبرة، وحُفظ بالرجوع إليهم جميعا دون استثناء، ومن غير تعصب ولا منقصة ولا إقصاء. أما التعصب المذهبي والدعوة إلى التقليد والجمود فإنما نشأ في زمن الاستبداد السياسي، وفشو الانحطاط العلمي، وانتشار الخرافة والجهل، وبيع الآخرة بالدنيا، حتى ألف كل متمذهب متعصب في وجوب اتباع مذهبه دون غيره من المذاهب الفقهية الأخرى. والأدهى أن ما يزعمه هذا لدعم رأيه ومذهبه والتدليل عليه، يقابله مخالفه المتمذهب المتعصب بأدلة تفند زعمه وتبطله، فيتجرد للاثنين ثالث أكثر تعصبا، وهكذا، مع أنه ليس أحدهم أولى بالحق من الآخر. وأمثلة هذا الخطر كثيرة، ولعل أكثرها تجسيدا للتمذهب القسري المحاريبُ التي أقيمت في بيت الله الحرام في القرن السادس الهجري لأتباع كل طائفة من المذاهب الفقهية السنية؛ الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة، كل يلغو لغوه. ثم انتقلت عدوى هذا العي العضال إلى بعض المساجد الكبرى من بلاد الإسلام لاحقا قبل أن يقيض الله من يزيل هذا التعصب الخطير والتفرق المشين بجمالية هذا الدين. لكن ما لبث هذا الداء أن ظهرت أعراضه ثانية عند بعض المتمذهبين المتعصبين الجدد في بلادنا -وفي عصر لا يتحمل ذلك أشد من غيره، والذي أصبح فيه العالم كله قرية صغيرة- إذ أوصوا الحجاج المغاربة مؤخرا بألا يستفتوا علماء الحجاز بدعوى أنهم غير مالكيين. ولتمحيص هذه الظاهرة في هذا الوطن الغالي، بموضوعية وتجرد، تأملت آراء معظم الداعين إلى التمذهب تعبدا وبمعناه القسري الإلزامي، فتبين لي أنهم أول من يخالفون المذهب الذي يدعون إليه، وهي بهم تهمة كما يُتهم المفتي حينما يخالف قولَه فعلُه، وعليه فلا يعتبر بفتواه. فهؤلاء يدعون إلى المذهب المالكي مثلا وقد خالفوه في أشياء كثيرة لا داعي إلى ذكرها، وليس فقط على مستوى الفروع بل وصل الأمر أحيانا إلى الأصول، وهو واقع ينطحك بقرنيه لا تستطيع أن تدفعه عن نفسك، مما يحملك على الاستغراب، ويدفعك إلى الريبة، حتى بدا لي أن للأمر قراءة أخرى غير الشعار الذي يُرفع.