هوية بريس – الخميس 07 غشت 2014 مما هو معلوم بداهة أن كل وجود مذهبي سواء كان دينيا أو فكريا عصريا، فإنه لا قوام له إلا بتفعيل مبادئ المذهب في واقع حياة الناس. بحيث تنبثق حياة أفراد المجتمع وتصوراتهم وأوضاعهم وقوانينهم من أصول المذهب المعتبر عندهم. وذلك لأن التمذهب الرسمي في معناه الواقعي ومدلوله الحقيقي هو تقيد مؤسسات المجتمع بأحكام المذهب ومبادئه العامة دون ما سواه. ومن ثم فالمجتمع الذي اختار وأعلن رسميا أنه مجتمع مالكي كمجتمعنا المغربي مثلا، فهو يعني أنه اختار أن يلتزم رسميا بما جاء في المذهب المالكي. أو بلغة أخرى هو مجتمع اختار أن يكون قانونه الذي تقوم عليه أوضاع المجتمع؛ العقدية والفكرية والسياسية والاقتصادية والقضائية والاجتماعية هو قانون المذهب المالكي. بحيث تكون مالكية المذهب هي أظهر ما يميز هذا المجتمع عن غيره من المجتمعات. فنحن عندما نتكلم عن مجتمع متمذهب بمذهب مالكي؛ فنحن نتكلم عن مجتمع حياة أفراده منضبطة بأحكام المذهب ومبادئه، مما يجعل واقعهم واقعا مالكيا. نتكلم عن مجتمع مناهجه التعليمية تسهم في إنتاج المواطن المالكي، والمواطنة المالكية، والفرد المالكي، والأسرة المالكية. كل ينهال من أحكام المذهب بحسب وضعه وموقعه في المجتمع؛ الطبيب في عيادته، والمعلم في فصله، والمهندس في مكتبه، وهكذا السياسي، والجندي، والمذيع، والفنان، والإعلامي، ورجل الأعمال، والحرفي، والمهني، والأجير، والمدني، والعسكري، والرجل، والمرأة، والأب، والأم، والابن، والجار. فنحن عندما نتكلم عن مجتمع متمذهب بمذهب مالكي، فنحن نتكلم عن مجتمع قِيَم أفراده على اختلاف مكوناتهم تُستفاد وتُستشف من أصول المذهب. حتى أنك لتتلمس أثر المذهب وهيمنته الكاملة في كل شأن من شؤون المجتمع أفرادا ومؤسسات؛ في العبادة والمعاملة والسلوك، في الأدب والخلق، في التشريع والنظام، في العدالة والقانون، في الاقتصاد والاجتماع، إلى درجة أنك لا تكاد تفقد أثر المذهب في أحد هذه الصور. حكومته مالكية، وقضاؤه مالكي، وإذاعته الرسمية والدينية مالكية، وإعلامه مالكي، وثقافته مالكية، واقتصاده مالكي، ومؤسساته لا سيما الرسمية منها مالكية، مجتمع مالكيته لها تأثير في مجرى الحياة. وحينها يكون مجتمعا مالكيا مما يمكنه من صحة الاقتباس لنفسه من واقع حاله وصف المجتمع المالكي. وإلا لما أمكن التمييز بين هذا المجتمع كونه مجتمعا مالكيا، وآخر كونه مجتمعا مختلفا عنه. ولا نعني بهذا تلك الصورة الساذجة أن ينقلب المجتمع كله وعاظا وفقهاء، وإنما الذي نعنيه هو أن يحكم المجتمعُ أفرادَه ومؤسساته بتوجيهات مذهبه الرسمي. مجتمع لا يسمح مثلا لأفراده ومؤسساته بانتهاك الحرمات، وارتكاب المنكرات، وانحلال الأخلاق، وإشهار الفسق، والتمرد على أحكام الشريعة. مجتمع بكل اختصار منضبط بضوابط مبادئ المذهب الذي تتبناه البلاد رسميا. إنه لا معنى لدعوى أن المجتمع مالكي، وأحكامه وأوامره في الواقع لا تعدو المساجد ولا تتجاوز أسوار المقابر. مجتمع مالكيته لا دخل لها في فن؛ أفلام ضد الفضيلة، ومهرجانات تلوث الأخلاق، ومسلسلات تشيع الفاحشة بين الناس. ولا دخل لمالكيته في اقتصاد؛ خمور ومؤسسات ربوية وقمار. ولا دخل لمالكيته في سياحة؛ زنا ولواط وسحاق. ولا دخل لمالكيته في سياسة ولا تشريع ولا تعليم، بل ولا دخل لها في تربية الناس. وكأن المذهب المالكي ليس له رأيا في هذا العري المنتشر شرره في شوارعنا وشواطئنا وقنواتنا الرسمية، حتى باتت المرأة المنتسبة إلى المجتمع المالكي ترى العري مستوى حضاريا ومظهرا تقدميا.!!! لنكن صرحاء. أي التزام مذهبي رسمي هذا؟ و أي مذهبية هذه؟ أو يعقل أن نكون مالكيين دون مالكية يلتزم بها المجتمع وتضمن له صحة انتسابه إلى المذهب؟!! لا أقصد أننا في حاجة إلى مجرد فتوى مالكية تصدر بين الحين والآخر عن فقيه مالكي أو مجلس علمي، أو رابطة علمية، بخصوص حرمة الموبقات وجرم اقترافها. إنما الذي نقصده هو بما أننا في مجتمع يزعم أنه مالكي، فنحن في حاجة إلى وجود جهات مسؤولة تملك سلطانا تلزم به جميع مؤسسات المجتمع على اختلاف تخصصاتها باحترام تعاليم ومبادئ المذهب المالكي، وذلك تماما كما أن هناك جهة مسؤولة على الشأن الديني تلزم أئمة المساجد وخطباء المنابر ووعاظ الكراسي العلمية باحترام مبادئ المذهب. إنه لا معنى أن تكون في مجتمع مالكي مؤسسة مسؤولة على الشأن الديني وظيفتها هي ضبط سير القيمين الدينيين وفق مبادئ المذهب، في حين لا تكون هناك مؤسسات مسؤولة تلزم القيمين السياسيين، والقيمين الثقافيين، والقيمين السياحيين، والقيمين الإعلاميين، والقيمين الفنانين،. والقيمين الحرفيين، والقيمين المهنيين،…، بما يتوافق مع قواعد المذهب ويحفظ ثوابت الأمة وخياراتها. وذلك لأن المذهب منظومة لا تتجزأ، ولا يمكن تجزئتها. وبما أن الأمر يتعلق بصيانة المجتمع من الشر والفساد، وحماية أفراده، وحراسة أجياله من كل تفسخ وتلوث وانحلال. فإن إلزام القيمين غير الدينيين بما يتوافق مع مبادئ المذهب، لا يقل شأنا عن إلزام القيمين الدينيين. إنها ليست قضية مجرد انتماء نظري، أو سلوك جزئي يلتزم به أئمة المساجد وفقهاؤها ووعاظها دون غيرهم من فعاليات المجتمع. إنما هي قضية تجاوب بين كل مؤسسات المجتمع والمذهب على مستوى المبدأ والتطبيق. إنها بكل اختصار منهج مذهب تقوم عليه حياة أفرد المجتمع العملية، ونظام يطبع المجتمع بطابع مالكي. وإذا انتفى هذا الأمر انتفى وجود شيء اسمه التمذهب بالمذهب المالكي. 1) لقد راودني الجواب على هذا السؤال منذ أن كتب الأستاذ الدكتور محمد الروكي رسالته تحت عنوان «المغرب مالكي.. لماذا؟» منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1424ه/2003م. إلا أنه لم يشأ الله في تقديره أن يُدَوّن هذا الجواب وينشر إلا في هذا الوقت. الخطاب في هذا المقال هو من باب إلزام دعاة المذهبية وليس دعوة للتمذهب. فإن الذي نعتقده ونؤمن به، هو أنه من يتقيد بمذهب واحد دون غيره من المذاهب المعتبرة، فإنه يترك العمل بكثير من الحق. وإذا كان مما هو مُسلَّم به، هو أن المذهب الواحد لا يمثل الحق كله، فإن اختلاف المذاهب الفقهية لا يعني أن الحق متعدد. [email protected]