اختار المغاربة المذهب المالكي مذهبا رسميا للدولة المغربية، منذ قرون، إلى جانب اتباعهم للعقيدة الأشعرية والطريقة الجنيدية في التصوف. لكن ماذا نعرف عن دخول هذا المذهب الفقهي (مذهب الرأي) أو مذهب الإمام مالك للمغرب، تاريخا وأحداثا؟ ذهب أغلب الباحثين ممن يهتم بتاريخ المذهب المالكي ومدارسه، إلى القول بأنه بعد وفاة الإمام مالك بن أنس تكونت في أنحاء البلاد الإسلامية براعم المدرسة المالكية الكبرى، التي كان من وراءها تلاميذ الإمام مالك الذين التزموا مذهبه وأصوله الاستنباطية الفقهية. وتطورت هذه البراعم لتصبح فروعا باسقة لشجرة عظيمة، مدارس كبيرة لها نشاطها العلمي الذي تتميز به، وممن ذهب إلى هذا، الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي في كتابه “اصطلاح المذهب” الذي عدد هذه المدارس فحصرها في خمسة، وهي: المدرسة المدنية – الأم – والمدرسة المصرية، والمدرسة العراقية، والمدرسة المغربية، والمدرسة الأندلسية. نشأة المدرسة المالكية بالمغرب ومعلوم لدى البعض، أن هناك مدرسة أخرى مستقلة لا تقل أهمية عما سبق ظلت ولمدة طويلة مهملة، على رغم أهميتها، وحتى إذا ذكرت، جاءت مقرونة بالمدرسة المغربية – الكبرى- التي تعني أو تشغل حيزا جغرافيا واسعا. هذه المدرسة هي: المدرسة المالكية الفاسية – بالمغرب، ولعل التقصير في ذكر أخبار هذه المدرسة وقضاياها أو شؤونها عموما، إنما هو من طرف أهلها، فهي لحد الآن، لا زالت بعد لم تحظ بالعناية الكافية والدراسة التامة اللازمة كما درست المدارس الأخرى. وعل أول تنبيه على هذه المدرسة جاء في كتاب الشيخ محمد مخلوف “شجرة النور الزكية في طبقات علماء المالكية” أثناء الحديث عن فروع المدرسة المالكية الكبرى، حيث ذكر فرع العراق، وفرع مصر، وفرع إفريقية، وفرع الأندلس، وختم بفرع فاس، وفي مكان آخر عبر بفرع: المغربين الأقصى والأوسط، تحت مسمى فاس. بل ذهب إلى أبعد من هذا حيث ذكر طبقات كل فرع بالترتيب، ومنهم طبقة علماء فاس، وبدأ هذا الفرع بالفقيه دراس بن إسماعيل الفاسي المتوفى سنة 357ه. واعتبره مؤسس مدرسة فاس المالكية، وقال عند بدء ترجمته: ومن هنا كان تفريع فاس، وهو جامع لعلماء المغربين الأقصى والأوسط. ففرع فاس في اصطلاح محمد مخلوف، يشمل المغربين الأقصى والأوسط وهو المعروف بالقطر الجزائري حاليا، وهو الرأي الذي سوف يتبناه صاحب الفكر السامي الحجوي الثعالبي. وقال الشيخ محمد مخلوف في مكان آخر: أعلم أن “عقود درر الشجرة” – يعني كتابه -انتظم من سبع وعشرين طبقة، والإمام مالك قدس الله روحه من رجال الطبقة الرابعة، ومذهبه ظهر بالمدينة المنورة، ثم انتشر في حياته وبعد وفاته في أقاليم كثيرة وأقطار متعددة منها الحجاز، والعراق، ومصر، وطرابلس، والأندلس، وإفريقية، وصقلية، والسودان، والمغرب الأقصى والأوسط، لكن انتشاره كان طويل المدد في خصوص العراق ومصر وإفريقيا والأندلس والمغربين، فحالته في هاته الأقطار جديرة بأن تذكر وتطلب، وحقيقة أن تبسط، إذ هي فروع خمسة في رجال المذهب، وترتيب رجال كل فرع على مقتضى الوفيات من أوله إلى منتهاه”. فقد ذهب الشيخ إلى اعتبار فروع المدرسة الكبيرة خمسة، وهو مخالف لما ذهب إليه آخرون من أنها أربعة فقط وإهمالهم لفرع فاس. وقال صاحب “مظاهر النهضة الحديثية في عصر يعقوب المنصور الموحدي”: “وقد قامت في رحاب المذهب المالكي أربع مدارس، يختلف بعضها عن بعض، اختلافا يسيرا، حسب اجتهادات فقهائها داخل المذهب، وهي: 1-المدرسة المالكية العراقية، لم يتبع أحد من أهل الأندلس هاته المدرسة. 2-المدرسة المصرية، يتزعمها ابن القاسم ت191ه 3-مدرسة القيروان، التي يتزعمها عبد السلام سحنون ت 204 ه 4-مدرسة قرطبة، يترأسها يحيى بن يحيى الليثي 234 ه وهاتان المدرستان الأخيرتان تحولتا فيما بعد إلى مدينة فاس” فتكون فاس إذن هي المدرسة الخامسة بعد المدارس الأربع. كما نجد التجيبي في برنامجه يشير إلى هذه المدرسة معبرا عنها بقوله: “فاس دار فقه المغرب”. وكذا قال مؤرخ المذهب الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: “… وقد ساق – الهدي الإلهي- لجامع القرويين فقيها عمره، فتأسس به المركز التوجيهي الجديد، ونبت به فرع جديد لم يكن له سابق من فروع المذهب المالكي، وهو فرع المغرب الأقصى…”. هذا الفرع الفاسي هو الذي أضحي فيما بعد، الممثل للمذهب المالكي في المغرب العربي بعامة، والأندلس بخاصة بعد استقرار المهاجرين من علمائه في أنحاء المغرب العربي. فاس… أول منبت لبذرة المالكية إن الحديث عن فاس العالمة والمدرسة المالكية بها، هو في الواقع حديث عن المغرب الأقصى بكامله، ذلكم لأن أول دولة إسلامية متكاملة الأركان سوف تتأسس بالمغرب الأقصى كانت بفاس، وأول مؤسسة جامعية شعبية مفتوحة سوف تؤسس بالمغرب الأقصى وتحتضن المذهب المالكي، وهي جامع القرويين. وأول مدينة بعد وليلي تستقبل وتحتضن بعض ساكنة حاضرتي قرطبة والقيروان المالكيتين هي فاس. وفي حقها يقول الشريف الإدريسي ت 560 ه: “ومدينة فاس قطب ومدار المغرب الأقصى… وهي حاضرتها الكبرى ومقصدها الأشهر، تشد لها الركاب وإليها تقصد القوافل…ولها من كل شيء حسن أكبر نصيب وأوفر حظ “. وقال د عبد الهادي التازي: “وهل عرف العالم كله بلاد المغرب إلا إذا قرن باسم فاس”؟. الوضع السياسي والفكري للمغرب قبل دخول المالكية وإن الحديث عن المدرسة المالكية الفاسية يدفعنا –ومن باب الاستحسان- إلى الحديث عن تاريخ دخول الإسلام والوضع المذهبي الذي كان سائدا بالمغرب الأقصى بعد الفتح، إلى حين ظهور المذهب المالكي. لقد عرف الإسلام طريقه إلى المغرب منذ بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري فقد تم فتحه على يد عقبة بن نافع –رحمه الله- سنة 62 ه، ثم دخلته مجموعة يقودها الفاتح موسى بن نصير –رضي الله عنه- سنة 87 ه، ثم طارق بن زياد الشخصية البطولية الجهادية التي لم تقف عند نقطة المغرب الأقصى، بل امتد فتحه حتى وصل الضفة الأخرى حيث الجزيرة الخضراء، ثم جاء بعد هؤلاء داعية حاول استكمال ما تم إنجازه من قبل وهو المولى إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ثم خلفه بعده ابنه إدريس الثاني فأكمل بناء الدولة وأسس عاصمتها فاس، وقد كانت الدولة الإدريسية هي أول دولة مغربية مسلمة مستقلة في المغرب الأقصى. أما عن الوضع الديني والمذهبي قبل دخول المولى إدريس فتذكر كتب التاريخ أنه في النصف الأخير من القرن الثاني الهجري، كان المغرب يعيش وسط خضم من المذاهب والتيارات والفرق الإسلامية، سواء على صعيد السياسة أو العقيدة أو الفقه، وكان بعضها يتسم بالغل والمبالغة. فهناك من جهة وجود الخوارج، هؤلاء الذين رحب بهم المغاربة حين هزموا في المشرق واستقروا في مراكز مختلفة من المغرب، في مدينة طنجة التي سوف يظهر فيها زعيم كبير من زعماء الخوارج الصفرية وهو ميسرة المدغري الذي سيقوم من المغرب بحملة ضد الدولة المركزية في المشرق، سوف يتقوى الخوارج ويكون لهم نفوذ في سجلماسة التي أسست فيها إمارة على رأي الصفرية كذلك، وهي إمارة بني مدرار ومن سجلماسة التي يبدو أنها كانت مركزا مهما للخوارج سيذهب إلى طرابلس أبو الخطاب المعافري الذي كانت له الرياسة في ليبيا، وسوف يطارده العباسيون إلى أن يرحل إلى القيروان، ثم هناك الاعتزال، هذا الاعتزال الذي يقول لنا التاريخ إن قبيلة أوربة التي آوت المولى إدريس كانت على رأيه، ولا بد أن نعيد إلى الذاكرة أن أول درس لقنه إدريس لحاكم “وليلة” كان يتعلق بمذهب المعتزلة. ويحدثنا التاريخ كذلك عن جماعة تسمى الواصلية –نسبة إلى واصل بن عطاء – كانت موجودة في المغرب ووجد إلى جانب هذا مذهب أبي حنيفة في الفقه، وسوف يستمر إلى عهد المولى إدريس الثاني بعد بناء فاس، وهو الذي أكده القاضي عياض في “المدارك”، ونقله الناصري في “الاستقصا”، قال: “ظهر مذهب أبي حنيفة بإفريقية ظهورا كبيرا إلى قرب أربعمائة سنة فانقطع منها، ودخل منه شيء إلى ما وراءها من المغرب قديما بمدينة فاس وبالأندلس…” في هذه الفترة أيضا لا نستبعد أن يكون لمذهب الإمام الأوزاعي وجود في المغرب الأقصى بسبب العلاقة والقرب من الأندلس، التي كانت تساس من طرف الدولة الأموية والتي كانت تتمذهب بمذهب الإمام الأوزاعي، وهو مذهب أهل الشام. فالمغرب بالرغم من بعد مسافته عن المشرق، ظل مرتبطا به، يتلقف ما يصل إليه من آراء وأفكار بواسطة المبعوثين والرسل، والحجاج، والرحالة، وكذلك عن طريق المضطهدين الذين كانوا يجدون في المغرب حماية منيعة لهم من متابعة الحكام في المشرق. على العموم، هكذا كانت حالة المغرب إلى عهد دخول المولى إدريس المغرب. فلا يوجد فيه ذكر للمذهب المالكي، باستثناء ما ذكره ابن الخطيب في “أعمال الأعلام” من أنه كانت بشمال المغرب الأقصى إمارة عربية سنية مالكية لعبت دورا كبيرا في نشر الإسلام واللغة العربية والفكر السني بين سكان منطقة بلاد الريف، كما قاومت في نفس الوقت التيار الخارجي والغزو الشيعي، وهو نفس المهمة التي اضطلعت بها إمارة الأمويين بالأندلس والأدارسة في أغلب فترات حكمهم ببلاد المغرب الأقصى، وهذا ما يفسر مسالمة الأدارسة، ومؤازرة الأمويين لبني صالح الحميريين، هذه المؤازرة التي خففت من أثر الضربات التي تلقتها هذه الإمارة السنية، وهي تقاوم تيار الخوارج وعدوان الشيعة الروافض. تفعيل المالكية بالمغرب بين ادريس الأول وادريس الثاني يقول الباحث محمد أبو العزم: “وأما في المغرب – يعني المغرب الأقصى- فيمكن إرجاع تكوين نواة مدرسة مالكية به إلى عصر الدولة الإدريسية الذي بدأ منذ سنة 172 ه، وهو بهذا يرجع ظهور المذهب المالكي بالمغرب إلى عهد إدريس الأول -رضي الله عنه- وهو الذي سوف يتبناه الدكتور عبد الهادي التازي في جامع القرويين”. “وقد أجمعت كتب التاريخ على أنه في الوقت الذي سيفد المولى إدريس على المغرب سوف يرحب به المغاربة ويبايعونه ، لاستكمال الدعوة الإسلامية التي بدأها من جاء قبله ويظهر ذلك جليا في خطبته الشهيرة التي خطب بها المغاربة وفيها يقول: (…أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى العدل في الرعية، والقسم بالسوية، ورفع المظالم، والأخذ بيد المظلوم، وإحياء السنة، وإماتة البدعة، وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد… -إلى أن يقول-: فعسى أن تكونوا معاشر إخواننا من البربر اليد الحاصدة للظلم والجور وأنصار الكتاب والسنة القائمين بحق المظلومين من ذرية النبيئن…)”. وبناء على هذا الموقف ذهب بعض الباحثين إلى القول بأن المولى إدريس كان همه نشر الكتاب والسنة وهو الذي حمل بذور شجرة المذهب إلى المغرب الأقصى، وأن هذا تم في حياة الإمام مالك – رحمه الله-. وممن تبنى هذا الرأي الدكتور عبد الهادي التازي، في كتابه “جامع القرويين” حيث قال: (لقد ورد إدريس يحمل مذهبا غير كل هذه المذاهب فنحن على سابق علم بما ورد عن الإمام مالك من مناصرة بالأمس لمحمد النفس الزكية، تلك المناصرة التي عرفته المحنة والعذاب، فلم لا يدع والإمام إدريس اليوم إلى الاقتصار على مذهب مالك ؟ وهكذا جاءهم بالموطأ فنشره بينهم وكان يؤثر عنه قوله: “نحن أحق باتباع مذهب مالك وقراءة كتابه” وذلك لرواية الإمام إدريس للموطأ عن والده عبد الله الكامل”. وقد أكد الكتاني في الأزهار العاطرة، أن الإمام إدريس كان على مذهب مالك، ودعا الناس للأخذ به واتباع منهجه، وجعله مذهبا رسميا للدولة معززا ذلك بقوله: نحن أحق باتباع مذهب مالك وقراءة كتابه “. وعلى العموم، ورغم الغبش الذي يطال الكثير من الروايات التاريخية، يمكننا الجزم بأن هناك تعاطفا كان بين الأدارسة في شخص الإمام إدريس الأب والإمام مالك، وهو تعاطف له مظهران اثنان: 1- الأول: يتمثل في أن الإمام مالك يروي في موطئه عن عبد الله الكامل والد المولى إدريس. 2- الثاني: أي المظهر الثاني، يتجلى في أن الإمام مالك، كان له موقف من العباسيين، هذا الموقف الذي كان لصالح أخ المولى إدريس، المسمى بالنفس الزكية. ولهذا بمجرد ظهور هذا الأخير أعلن الإمام مالك بطلان بيعة أبي جعفر، لماذا؟ لأنها كانت على الإكراه، بل كان قبل ذلك يقول ببطلان الطلاق المكره، وسقوط يمين الإكراه على العموم. وقصته في ذلك مشهورة، فقد ضرب في ذلك بالسياط ومدت يده حتى انخلعت عن كتفه، كما تحكي كتب التاريخ. إذن يمكن القول بأن هناك ما يجعل المولى إدريس يسير على خط أهل السنة وهو الذي يترجمه نص خطبته السابقة وربما كان يعمل على التهييئ مستقبلا لنشر المذهب المالكي. على أن هذا الاختلاف الواقع حول إدريس الأول، وعلاقته بالمذهب المالكي، سوف يختفي ولا نجده مع ابنه إدريس الثاني، الذي تكاد تجمع المصادر، على أنه في وقته دخل أول كتاب حديثي للمغرب، وبالضبط لفاس، وهو موطأ الإمام مالك، وهذا الأخير هو عمدة المذهب، ولبه وأصله، وهذا متفق عليه، كما يقال بأنه ألزم الناس بقراءته وإقراءه. وإذا سلمنا بأن المذهب دخل المغرب في عهد الدولة الإدريسية، وأن أغلبية المؤرخين ذهبوا إلى أن هذا تم في عهد إدريس الثاني، فهل يمكن تحديد فترته الزمنية وآلياته المعتبرة في هذا الدخول ؟ هناك روايتان في تحديد تاريخ دخول المذهب المالكي والآليات المعتبرة في دخوله: الأول: تذهب إلى أن دخوله تأخر إلى أواسط القرن الثاني الهجري –تاريخ تأسيس الدولة الإدريسية- الثانية: تذهب إلى أن دخوله تأخر إلى أواسط القرن الرابع الهجري – يعني أواخر عصر الأدارسة – ومنشأ الخلاف راجع إلى الخلاف في ما هو المعتبر في دخول المذهب المالكي إلى المغرب الأقصى، هل دخول موطأ الإمام مالك بن أنس ؟ أم دخول مدونة سحنون؟ ومعلوم أن كتاب الموطأ دخل في أواخر القرن الثاني الهجري، أما كتاب المدونة، فقد دخل المغرب الأقصى في أواسط القرن الرابع الهجري. والمرجح في تاريخ دخول المذهب المالكي المغرب الأقصى، هو دخول كتاب الموطأ، فدخول هذا الكتاب يعتبر نقطة بدء دخول المذهب، وتكوين نواة المدرسة، سيما وأنه أصل المذهب ولبه وأساسه، كما أن أغلب المدارس المالكية كان أول ما دخلها من آثار هذا المذهب كتاب الموطأ. فبدخوله بلاد الأندلس مثلا- رواية وسماعا-، تم وضع اللبنات الأولى لقيام المدرسة الفقهية الملكية ببلاد الأندلس، وقد كان ذلك من طرف الغازي بن قيس أيام عبد الرحمن الداخل، وقيل:إن من أدخل الموطأ هو زياد بن عبد الرحمن المعروف بشبطون، وفي قول ثالث أنه: يحيى بن يحيى الليثي المصمودي. كما قامت المدرسة المالكية التونسية في البداية على موطأ الإمام مالك، وعلي بن زياد هو أول من أدخله تونس. فدخول المذهب المالكي إلى المغرب كان في أواخر القرن الثاني الهجري، الذي هو تاريخ دخول كتاب الموطأ في عهد إدريس الثاني، وكان ذلك على يد القاضي عامر بن محمد القيسي الأندلسي. قال الكتاني: “وبدخول الموطأ إلى المغرب تحول المغاربة من المذهب الحنفي إلى المذهب المالكي إذ لم يكد القرن الرابع يطل، حتى كان المذهب المالكي قد بدأ ينتشر في المغرب الأقصى، وتتجذر أصوله وفروعه في سائر مرافق الحياة.” ومن الروايات الثانية التي ذهبت إلى القول بأن هذا الفرع تأسس في النصف الثاني من القرن الرابع، ما نص عليه الفاضل بن عاشور، حيث قال: “…لقد ساق – الهدي الإلهي – لجامع القرويين فقيها عمره، فتأسس به المركز التوجيهي الجديد، ونبت به فرع جديد لم يكن له سابق من فروع المذهب الملكي، وهو فرع المغرب الأقصى الذي لم يتكون إلا في أوائل القرن الرابع بهذا الفقيه، وهو دراس بن إسماعيل..”. ورغم اختلاف مصادر متعددة حول من سبق بتفعيل المالكية اهو ادريس الأول أم خلفه، إلا أن الراجح أن البذرة جاءت مع الأب، والتفعيل الحقيقي وفق قواعد وخطوات دقيقة، جاء مع الابن، وهو ما سيأتي لاحقا. ولنا أن نتساءل بعد هذا عن كيفية تعامل الدولة الإدريسية مع هذا المذهب، فإذا كان هذا المذهب قد دخل في عصرهم، فهل تقرر مذهبا رسميا بالمغرب على يد الأدارسة، أم تأخر ذلك إلى ما بعد عصرهم؟ التفاف السلطة والفقهاء حول مذهب مالك اختلف المؤرخون في الإجابة عن هذا السؤال، فهناك من يذهب إلى أنه لا يوجد أي نص، ولا رواية تاريخية، تثبت أن الأدارسة دعوا إلى مذهب مالك رسميا، ولا أن مؤسس الدولة الإدريسية أخد بالمذهب المالكي، وأن عصر الأدارسة عرف مذاهب متعددة: الخارجية والشيعية والمالكية، وأنهم كانوا أميل إلى المذهب الشيعي منهم إلى غيره. في حين هناك من يرى أن إدريس بن إدريس (177-213) جعل مذهب مالك مذهبا رسميا للدولة، وأصدر أمره لولاته بذلك، بل جزم البعض أن إدريس بن إدريس كان مالكي المذهب ويحفظ الموطأ ويستوعبه. وقد ذهب أحمد بن عبد الحي الحلبي الفاسي المتوفى سنة 1120 إلى أن إدريس الثاني كان على مذهب الإمام مالك أو سفيان الثوري. وقد فسر هذا الرأي بناء على أن أول قاض سوف يعينه إدريس كان هو: عامر بن محمد القيسي الأندلسي وهذا الأخير أخذ عن الإمامين: مالك بن أنس وسفيان الثوري وروى عنهما. وبالتالي فهولا يستبعد أن يكون على مذهب أحدهما، وهذا هو الذي جعل بعض المؤرخين يرجحون أن المولى إدريس كان على مذهب مالك أو سفيان الثوري لاعتقادهم أنه تبنى مذهب قاضيه المذكور. علماء الأندلس المهاجرون وإثراء المشهد الفقهي بالمغرب إلى جانب ما عرفه هذا العصر من هجرة للعلماء الأندلسيين –القرطبيين- والقيروانيين إلى المغرب في العهد الإدريسي الثاني، وحول هذا الموضوع ذهب بعض المؤرخين إلى أن أول مرحلة من مراحل اتصال المغاربة بالمذهب المالكي في منطقة النفوذ الإدريسي كان عن طريق الدفعة الأولى من العرب الوافدين على المغرب من إفريقية والأندلس، فوافوا إدريس الثاني بمدينة وليلي وذلك سنة 189 ه، وكان هؤلاء الوافدون في الجملة، نحو خمسمائة فارس من مختلف قبائل العرب، فسر إدريس بمقدمهم، واتخذهم بطانة له، حيث استوزر منهم عمير بن مصعب الأزدي، وكان من فرسان العرب وساداتها، وكان موقع العاصمة الإدريسية الثانية فاس من اكتشافه واختياره. وكان من جملة ما حملته هذه الوفود إلى المغرب الأقصى المذهب المالكي. وقد سر المولى إدريس الثاني بقدوم هذه الوفود وقربهم إليه، وأسكنهم معه في مدينة فاس، وأقطع كلا من الوافدين مكانا يحمل إلى اليوم اسمه-(عدوة القرويين وعدوة الأندلسيين)، ومن الجالية العربية استقضى على فاس عامرا القيسي الأندلسي. على هذا الأساس تكون الدولة الإدريسية في شخص إدريس الثاني – على الخصوص– هي التي وضعت الحجر الأساس في تأسيس هذه المدرسة (1)، بعد اختيارها للخط السني (أو الاتجاه السني) الذي يقوم على الدعوة للكتاب والسنة – وهو بمثابة غرس بذرة المذهب-، وبعد فتحها الباب لدخول أول كتاب حديثي، وهو موطأ الإمام مالك بن أنس والدعوة له، ثم تطعيم هذه المبادرة باستقبال طائفتين تنتميان لمركزين كبيرين من مراكز المذهب المالكي هما: قرطبة والقيروان، وقد حدث هذا في عهد إدريس الثاني(2) فالدولة كما يقول المرحوم المكي الناصري: “لا تستطيع أن ترسم مذهبا إذا لن تكن لديها الأطر الكافية لذلك المذهب، فالمذهب المالكي لا في الأندلس، ولا في المغرب لم يصبح رسميا إلا بعد أن اختارته النخبة المثقفة عن طواعية وبينة… فوجدت الدولة الأطر الكافية للقضاء والفتوى من تلك النخبة الممتازة، وبعد ذلك أخذت على عاتقها مساندته وتشجيعه، ولقد جاء الفاطميون وحاولوا أن يفرضوا مذهبهم الشيعي بدلا من مذهب مالك، وجاء الموحدون فحاولوا في مبدأ أمرهم أن يفرضوا مذهبهم المهدوي بدلا من مذهب مالك، ولكن باءت محاولاتهم أخيرا بالفشل.” فالمذهب المالكي – كما ذكرنا – أصبح رسميا، لأن أرضية استنباته كانت مهيأة ومستعدة لتقبله رسميا. أشهر أعلام المالكية التي أثرت في تدين المغاربة وقد لعب بعض علماء المذهب المالكي الأوائل دورا مهما في ترسيخ المذهب المالكي بالمغرب الأقصى، فإلى جانب ما ذكرناه سابقا من الأعلام الذين وافوا المولى إدريس، فاستقضى واستوزر واستكتب منهم، أنجبت البيئة المغربية –الفاسية- طائفة من العلماء تتلمذ أغلبهم على القرطبيين والقيروانيين (الفاسيين)، ثم رحلوا بعد ذلك لاستكمال ثقافتهم وتكوينهم في المذهب المالكي، اشتهر منهم أسماء أربعة ممن كان لهم أثر بارز في مسيرة هذه المدرسة في عهد الدولة الإدريسية – عهد النشأة والبناء- وعملوا على توطيد المذهب المالكي في المغرب الأقصى انطلاقا من فاس. ومنهم الشيخ أبو هارون العمري البصري، من بصرة المغرب والشيخ جبر الله بن القاسم الفاسي والشيخ ابن سعادة والشيخ دراس بن إسماعيل الفاسي. أسباب صمود المذهب المالكي في المغرب عكس المذاهب الأخرى ويبقى أن من أهم مسببات دخول المذهب المالكي للمغرب ورسوخه لقرون بهذا البلد القوي والأبي، هو خصائصه الموضوعية التي تجلت بالخصوص في سعة أصوله وشمولية قواعده، مما منح هذا المذهب قدرة على استيعاب المتغيرات وضبط المستجدات. إلى جانب منزلة مؤسسه في قلوب المسلمين قاطبة، دون غض الطرف عن تميز مذهب الرأي (مذهب مالك) بالوضوح والمباشرة في معالجة النوازل وضبط عللها ومقاصدها برباط متين ومتسق، إلى جانب مزج المذهب المالكي في أصوله بين ما هو نقلي وبين ما هو شرعي مراعيا في ذلك مقاصد الشريعة وما تعارف الناس عليه في معاملاتهم وشؤون حياتهم مما لا يتعارض مع النصوص الصريحة. ويكفي شرفا أن عددا من البلدان العربية تستمد جزءا كبيرا من قوانينها وتشريعاتها من هذا المذهب العظيم. ملاحظة: تمت الاستعانة ببحث الأستاذ حسين شكور حول “المدرسة المالكية الفاسية: النشأة الأولى ومميزات عهد الدولة الإدريسية.