هوية بريس – الثلاثاء 06 أكتوبر 2015 وصلنا -ضمن سلسلة أنواع القلوب- إلى الجزء السابع الذي تمحور حول مواصفات القلب القاسي وتجلياته، وتبين لنا أن بعض العلماء عدوا قسوة القلوب من الكبائر، وأن المتصف بها على خطر عظيم، إلا أن يطهر قلبه من أسباب هذه القسوة، التي أجملناها في عشرة: التلبس بالمعاصي، وكثرة الاختلافات والجدالات، والاستسلام للفتن، والغِيبة والنميمة، والبخل والشح، وأكل الحرام، ومخالفة الوعود ونقض العهود، وضعف الخوف من الله، وكثرة الضحك، ثم مخالطة الأشرار ورفقاء السوء. كما عرفنا أن سبل الوقاية من قسوة القلب يمكن إجمالها في: الإكثار من ذكر الله -تعالى-، والإكثار من زيارة القبور، وكثرة الاستغفار، ومخالفة هوى النفس والشيطان، ومخالطة الضعاف من الناس، والإكثار من العبادة، ثم الإكثار من ذكر الموت. وسنعرج اليوم -إن شاء الله تعالى- على أحد أنواع القلوب المحبوبة، تميز أصحابها بالقبول، فرفعت عند الله درجاتهم، وعظمت في الآخرة حسناتهم، وأكسبوا الراحةَ العظمى نفوسَهم، وأراحوا من هم العداوات صدورهم، إنهم أصحاب القلب العَفُوِّ، الذي ارتقت به طهارته من الأدران، وسلامتُه من التارات والأحقاد، إلى درجة المسامحة والتجاوز، وترك المماحكة والتنابز. وأصل العفو: المحو والطمس، أي محو ذنب المذنبين، والتغاضي عن إساءة المسيئين. قال الكفوي: «العفو: كف الضرر مع القدرة عليه». وقال الخليل: «العفو: تركك إنسانا استوجب عقوبة فعفوت عنه». ولقد دارت كلمة العفو مع مشتقاتها في القرآن الكريم أكثر من ثلاثين مرة، تدليلا على أهمية العفو في الإسلام، وضرورته في تحسين الأخلاق، وتجميل الآداب. إن العفو صفة من صفات الرب -عز وجل-، التي يحب أن يرى حُلاها على عبده. قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا». وقال تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ». وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» متفق عليه. بل إنه -عز وجل- يتجاوز -بمنه وكرمه- عن المسيئين التائبين، ويصفح عن المعتدين الآيبين. قال تعالى: «لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ». وقال تعالى: «إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا». سبحان من نهفو ويعفو دائما***ولم يزل مهما هفا العبد عفا يعطي الذي يخطي ولا يمنعه***جلاله من العطا لذي الخطا ثم أوصى ربنا -عز وجل- عباده المؤمنين بأن يتحلوا بهذه الصفة العظيمة، التي تشرح الصدور، وتريح القلوب، فقال تعالى: «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى». وقال تعالى: «فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ». وقال سبحانه: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ». وكان أمرا طبعيا أن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- أول الممتثلين، وقد أمره الله تعالى أن يكون عفوَّ القلب، صافح النفس، سليم الصدر، فقال تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ». وقال تعالى: «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ»، وهو الذي لا عتاب معه. وورد وصف نبينا -صلى الله عليه وسلم- في التوراة أنه: «ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» البخاري. ولربما جاوز العفو إلى الحِلم. فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتقاضاه (يطلب منه قضاء الدين)، فأغلظ، فَهَمَّ به أصحابه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا». ثم قال: «أعطوه سنا مثل سنه». قالوا: «يا رسول الله، لا نجد إلا أمثل من سنه». فقال: «أعطوه، فإن من خيركم، أحسنَكم قضاء» متفق عليه. وكذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا يدع قضية يمكن فيها العفو إلا سلكه. قال أنس -رضي الله عنه-: «ما رُفع للنبي دعوى فيها قِصاص إلا أمر فيها بالعفو»، فقد جاءه رجل يجر رجلا آخر بحبل قد قتل أخاه، فحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقِصاص، فلما ذهب به، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ» مسلم. قال الإمام النووي: «تأويله، أنه مثله في أنه لا فضل ولا منة لأحدهما على الآخر، لأنه استوفى حقه منه، بخلاف ما لو عفا عنه». ولقد دخل رجل على عمر بن عبد العزيز – رحمه الله -، فجعل يشكو إليه رجلا ظلمه ويقع فيه. فقال له عمر: «إنك إن تلقى الله ومَظلِمتُك كما هي، خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها». فكيف بالذين يتشبثون بمواقفهم لأتفه الأشياء، ويتصلبون في آرائهم ومواجهة الآخر بغير إعمال لخصلة العفو، وصفة الصفح، ونعت التسامح. بل يعجلون بتقديم الملفات القضائية، والمتبعات القانونية، وكأن أبواب التسامح موصدة، وسبل التفاهم مغلقة. قال -صلى الله عليه وسلم: «تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» صحيح سنن أبي داود. هذا ما جعل محاكمنا -اليوم- تعج بالمتخاصمين، وتضج بالمتشاجرين، حتى بلغ عدد القضايا التي تم البت فيها في مختلِف المحاكم المغربية خلال عام 2014، أزيد من مليوني قضية ونصف، من مجموع القضايا الرائجة في محاكم المملكة، البالغ عددها قرابة 3 ملايين قضية ونصف، يقضي فيها أزيد من 4000 قاض. لما عفوتُ ولم أحقِد على أحدٍ***أرحتُ نفسيَ من همِّ العداواتِ فأين الإنصاف من النفس، وأين إرغام الشيطان الذي يوقع العداوة والبغضاء بين الإخوة، والأقرباء، والجيران، والأصدقاء؟. جاء في صحيح البخاري: «قَالَ عَمَّارٌ: ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ». قال المناوي: «الإنصاف من نفسك بأداء حق الله وحق الخلق، ومعاملتهم بما يحب أن يعاملوه به، والحكم لهم وعليهم بما يحكم به لنفسه». لا يبلُغُ المَجدَ أقوامٌ وإن كرُمُوا***حتى يذِلُّوا وإن عَزُّوا لأقوامِ ويُشتَموا فترَى الألوانَ مُسفرةً***لا صَفحَ ذُلٍّ ولكن صفحُ أحلام للعفو فوائد كثيرة، ينتفع بها العافون، وينتفع بها مجتمعهم، منها: 1 أنه خلق يحبه الله ورسوله. فقد سألت عائشة -رضي الله عنها- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ماذا تقول في أعظم ليلة في السنة وهي ليلة القدر؟ قال لها: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» صحيح سنن ابن ماجة. قال ابن القيم: «يا ابن آدم، إن بينك وبين الله خطايا وذنوب لا يعلمها إلا هو، وإنك تحب أن يغفرها لك الله، فإذا أحببت أن يغفرها لك، فاغفر أنت لعباده، وإن وأحببت أن يعفوها عنك، فاعف أنت عن عباده، فإنما الجزاء من جنس العمل.. تعفو هنا يعفو هناك، تنتقم هنا ينتقم هناك». 2 والعفو تكفير للسيئات. قال تعالى: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ». وقال تعالى: «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». 3 ومن فوائد العفو أنه يورث صاحبه عزائم الأمور. قال تعالى: «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ». 4 ومن فوائده أنه يعود الصبر. فقد قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- غنائم حنين بحسب ما علمه الله، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله. فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» متفق عليه. وإذا عفوتَ فقادراً ومقدَّراً***لا يستهين بعفوكَ الجهلاء 5 والعفو يورث صاحبه العزة والكرامة عند الله تعالى. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ولا يعفو عبد عن مَظلِمة إلا زاده الله بها عزا يوم القيامة» صحيح الترغيب. وسئل أبو الدرداء عن أعز الناس فقال: «الذي يعفو إذا قدر، فاعفوا يُعزَّكم الله». 6 والعفو يعلم ضبط النفس، وعدم إتباعها هواها في الانتقام والتشفي. قال إبراهيم النخعيّ: «كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا، فإذا قدروا عفَوا». وقال علي -رضي الله عنه-: «إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو شكراً للقدرة عليه». وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن خادمي يسيء ويظلم، أفأضربه؟ قال: «تعفو عنه كل يوم سبعين مرة» صحيح الترغيب. ما كان ضركَ لو مننتَ وربما***مَنَّ الفتى وهو المَغيظ المحنَق 7 والعفو يعلم صاحبه الثبات على المبدإ. قال أبو ذر -رضي الله عنه- لغلامه: «لِمَ أرسلتَ الشاةَ على عَلَف الفرس؟» قال: «أردت أن أغيظك». قال: «لأجمعن مع الغيظ أجرًا، أنت حرّ لوجه الله تعالى». وقال إبراهيم التيمي: «إن الرجل ليظلمني فأرحمه». لا يحمل الحقدَ من تعلو به الرتب***ولا ينال العلا من طبعه الغضب.