قال الله تعالى في فضل ليلة القدر: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر : 3]، جدير بهذا الفضل الكبير الذي منحه الله تعالى لعباده في هذه الليلة المباركة، أن نتفكر في قدره، ونستجلي ما فيه من جوانب الرحمة والإنعام، حتى نستقبله بما يليق به من السعي في تحصيله، والشكر على تقديره. وبإجراء عملية حسابية نجد أن ألف شهر = 83 سنة وأربعة أشهر، وقد ذكر المفسرون أن معنى الآية أن العبادة في ليلة القدر خير من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، ومتوسط عمر الإنسان من 60 إلى 70 سنة، وقد جاء في الحديث: "أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وأقلهم من يجوز ذلك" رواه الترمذي وابن ماجه. فإذا حسبنا الوقت الذي يقضيه الإنسان في غير العبادة فسنجد ما يأتي: هناك ما يقرب من 15 سنة قبل سن التكليف. وما يقرب من 20 سنة في النوم، على أساس أن الإنسان ينام ثلث اليوم وهو 8 ساعات، يعني ثلث عمره. وما يقرب من 20 سنة في العمل لكسب المال، أي بحساب متوسط ساعات العمل اليومي 8 ساعات، وهو ثلث العمر. وما يقرب من سنتين في الطعام والشراب وقضاء الحاجة واللباس وما شابه ذلك. ويتبقى من متوسط عمر الإنسان ما يقرب من 3 سنوات قد تزيد أو تقل بحسب الأعمار واختلاف الأحوال. فكم يقضي الإنسان من هذه السنوات الثلاثة في عبادة!! وما هو قدر العبادات التي يمكن أن يقوم بها ليفوز بثوابها يوم القيامة! هنا يتجلى الفضل الكبير الذي منحه الله تعالى لعباده؛ إذ شرع لهم العبادات والقربات، وجعل لهم من الأسباب ما يضاعف أجرها أضعافاً مضاعفة، والله يضاعف لمن يشاء، فمن أسباب مضاعفة ثواب العبادة شرف الزمان، كالعمل في هذه الليلة المباركة، ليلة القدر التي جعل الله تعالى أجر العبادة فيها خيراً من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. إنها خسارة عظيمة لمن ضيع ساعات هذه الليلة دون أن يحظى بأجرها الكبير! فقد قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرمها فقد حرم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم" رواه ابن ماجة . أهمية الدعاء في ليلة القدر: لكل عبادة مميزات تخصها، وميزة الدعاء أنه هو العبادة، كما في الحديث :"الدعاء هو العبادة" أي من أعظم العبادة، لأن الدعاء يلزم أن يوطن العبد فيه نفسه على معاني العبادة من الذل والخضوع والمسكنة، قال في مختصر منهاج القاصدين: (اعلم أنه ليس بعد تلاوة القرآن عبادة تؤدى باللسان فقط أفضل من ذكر الله سبحانه وتعالى، ورفع الحوائج بالأدعية الخالصة إليه تعالى... فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء" ... و "من لم يسأل الله تعالى يغضب عليه") . وقال مطرف بن عبد الله: "تذاكرت: ما جماع الخير؟ فإذا الخير كثير الصيام والصلاة، وإذا هو في يد الله تعالى، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك، فإذا جماع الخير الدعاء" . وكل الأعمال الصالحة وسيلة موصلة للفوز بفضل ليلة القدر وثوابها، إلا أن النصوص الشرعية نبهت على وسيلتين مهمتين لتحصيل ثواب هذه الليلة وفضلها، الأولى هي صلاة القيام، حيث قال صلى الله عله وسلم : "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" . والوسيلة الثانية التي توصل لفضل هذه الليلة هي الدعاء، حيث قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سألته عن الدعاء في ليلة القدر: "قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني". ولعل في ذكر آية الدعاء بين آيات الصوم ما يشير إلى أهمية الدعاء في شهر رمضان عموماً، قال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة : 186]. قال في مختصر منهاج القاصدين: "أما الليالي المخصوصات بمزيد الفضل التي يستحب إحياؤها؛ فخمس عشرة ليلة، ولا ينبغي للمريد أن يغفل عنهن، لأنه إذا غفل التاجر عن موسم الربح فمتى يربح؟ فمن هذه الليالي ... أوتار العشر الأخير؛ إذ فيهن تُطلب ليلة القدر" . الصفات المناسبة للدعاء في ليلة القدر: وللمسلم أن يدعو بما يريد من الأدعية، وله أن يرفع إلى الله تعالى حاجته فيما يشاء، سواء كانت من أمر الدنيا أم من أمر الآخرة، مع الالتزام بآداب الدعاء الشرعية، ومع ذلك فإن مثل هذه الأوقات المباركة لا ينبغي للمسلم أن يغفل فيها عن دعاء الله تعالى بطلب المغفرة وسؤال الجنة والنجاة من النار. وليلة القدر ساعات قليلة تمر سريعاً تشتد حاجة المسلم فيها، وفي أمثالها من الأزمنة الفاضلة، إلى أدعية لها مواصفات مخصوصة، تجمع له حاجاته الدينية والدنيوية كلها، وقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء؛ فإذا ألهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه" ؛ إشارة منه رضي الله عنه إلى أهمية اختيار الدعاء المناسب الذي تتوفر فيه الصفات المؤهلة للقبول والإجابة. ومن هذه الصفات المهمة: 1- أن يكون الثناء والتوسل بأسماء الله تعالى وصفاته مناسبين لمعنى الدعاء، قال ابن القيم: "قاعدة قد أشرنا إليها مراراً، وهي أن من دعا الله تعالى بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله" . 2- أن يكون جامعاً في معانيه، مناسباً لحال الداعي، فقد "كان _صلى الله عليه وسلم_ يعجبه جوامع الكلم ويختاره على غيره من الذكر، كذلك كان _صلى الله عليه وسلم_ يعجبه من الدعاء جوامعه، ففي سنن أبي داود عن عائشة قالت: "كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يعجبه الجوامع من الدعاء ويدع ما بين ذلك" وخرجه البزار وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها أيضاً: "أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال لها: يا عائشة عليك بجوامع الدعاء" ... وعند الحاكم "عليك بالكوامل" ... " . ولن يجد المسلم خيراً من أدعية الكتاب والسنة، لأنها تجمع للمسلم ما يريد أن يدعو به من خيري الدنيا والآخرة، قال ابن الجوزي وهو يذكر آداب الدعاء: "الثَّامن عشر: الدُّعاءُ بالأَدْعيَةِ المَأْثُورةِ , فَإِنَّ تَعلِيمَ الشَّرعِ خَيْرٌ مِنْ اخْتِيَارِ العَبْدِ" . ولعل هذا ما دفع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى السؤال عن الدعاء المناسب لتدعو به في ليلة القدر، أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة قال: "قالت عائشة: يا نبي الله, أرأيتَ إن وافقتُ ليلة القدر ما أقول؟ قال: تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني". وفي رواية الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: "قالت: قلت يا رسول الله, أرأيتَ إن علمتُ أيُّ ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني" قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح . ونلاحظ هنا بوضوح هاتين الصفتين، ففيه الثناء اللائق بالله عز وجل، مع مناسبة الصفتين المذكورتين من صفات الله تعالى لمعنى الدعاء (عفو كريم)، حيث يتم التوسل بهما إلى الله تعالى في طلب العفو، وفيه شمول الدعاء للمعاني المطلوبة في أوجز لفظ، وهذا بيان ذلك: شرح معاني دعاء ليلة القدر: (اللهم): كلمة تستعمل في النداء مثل يا الله، و قد تجيء بعدها (إلا) فتكون للإيذان بندرة المستثنى مثل (اللهم إلا أن يكون كذا)، أو للدلالة على تيقن المجيب للجواب المقترن به مثل (اللهم نعم). . "وقد يُجمع بين الميم المشددة وحرف النداء كقول أبي خراش الهُذلي: إني إذا ما حَدَثٌ ألمّا دعوت يا اللهمّ يا اللهمّا" (عَفُوٌّ): ورد اسم الله تعالى (العفُوّ) في القرآن الكريم خمس مرات، أربع مرات مع الاسم (الغفور)، ومرة مع الاسم (القدير) ، ومن ذلك قوله تعالى: (... فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً) [النساء : 43]. وقوله تعالى: (فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ) [النساء : 99]. قال في لسان العرب: "في أَسماء الله تعالى: العَفُوُّ ، وهو فَعُولٌ من العَفْوِ، وهو التَّجاوُزُ عن الذنب وتَرْكُ العِقاب عليه. وأَصلُه المَحْوُ والطَّمْس". وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "والله تعالى حليم عفو، فله الحلم الكامل، وله العفو الشامل، ومتعلق هذين الوصفين العظيمين معصية العاصين، وظلم المجرمين، فإن الذنوب تقتضي ترتب آثارها عليها من العقوبات العاجلة المتنوعة، وحلمه تعالى يقتضي إمهال العاصين، وعدم معاجلتهم ليتوبوا، وعفوه يقتضي مغفرة ما صدر منهم من الذنوب خصوصاً إذا أتوا بأسباب المغفرة من الاستغفار والتوبة والإيمان والأعمال الصالحة، وحلمه وسع السماوات والأرض. فلولا عفوه ما ترك على ظهرها من دابة..." . وهذا الاسم الكريم (العفُوّ) يدل على المبالغة في العَفْو، قال ابن منظور: "وهو من أَبْنِية المُبالَغةِ. يقال: عَفا يَعْفُو عَفْواً فهو عافٍ و عَفُوٌّ "، فالله عز وجل كثير العفو عن عباده، فهو سبحانه يعفو عنهم ابتداء دون أن يرتكبوا ذنوباً، فيرفع عنهم الحرج، ويشرع لهم الرخص، فكلمة (العفو) تأتي بمعنى إسقاط المؤاخذة وإن لم يكن ذنب، قال السيوطي في الحاوي: "وقد نص غير واحد على أن المغفرة والعفو والتوبة جاءت في القرآن والسنة في معرض الإسقاط والترخيص وإن لم يكن ذنب، ومنه قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم)، "عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق"، (فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم) ، (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم) أي رخص لكم...". كما أنه سبحانه وتعالى يعفو عن سيئات عباده وخطاياهم التي تابوا منها، كما قال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى : 25]، وقال عز وجل: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى : 30]، قال في تفسير الجلالين: ( (ويعفو عن كثير): منها فلا يجازي عليه، وهو تعالى أكرم من أن يثني الجزاء في الآخرة. أما غير المذنبين فما يصيبهم في الدنيا لرفع درجاتهم في الآخرة). لما عرف العارفون بجلاله خضعوا، ولما سمع المذنبون بعفوه طمعوا، ما ثمَّ إلا عفو الله أو النار، لولا طمع المذنبين في العفو لاحترقت قلوبهم باليأس من الرحمة، ولكن إذا ذكرت عفو الله استروحت إلى برد عفوه. كان بعض المتقدمين يقول في دعائه: اللهم إن ذنوبي قد عظمت فجلت عن الصفة، وإنها صغيرة في جنب عفوك فاعف عني. وقال آخر منهم: جرمي عظيم وعفوك كثير فاجمع بين جرمي وعفوك يا كريم. يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر أكبر الأوزار في جنب عفو الله يصغر" . (كريم) وردت هذه الصفة في بعض روايات الحديث، و (الكريم) من أسماء الله تعالى وصفاته، ورد في القرآن الكريم في موضعين، في قوله تعالى: (... وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل : 40]، وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : 6]، قال ابن منظور: (الكَريم: من صفات الله وأَسمائه، وهو الكثير الخير، الجَوادُ المُعْطِي، الذي لا يَنْفَدُ عَطاؤه، وهو الكريم المطلق. و الكَريم: الجامع لأَنواع الخير والشرَف والفَضائل . و الكَرِيم: اسم جامع لكل ما يُحْمَد، فالله عز وجل كريم حميد الفِعال ورب العرش الكريم العظيم) . وقال الزجاج: "الكريم الكرم سرعة إجابة النفس وكريم الخلق وكريم الأصل. وحكى الأحول: جوزة كريمة أي هشة المكسر، وكأن سرعة انكسارها وهشاشتها جُعل إجابة منها؛ فشُبه بها الكريم من الرجال إذا كان سريعاً إلى الخيرات، هذا هو الأصل، والله تعالى سبب كل خير ومسهّله فهو أكرم الأكرمين" . (تحب العفو): قال الخطابي: "العَفْو: الصفح عن الذنوب وترك مجازاة المسيء. وقيل إن العَفْو مأخوذ من عفت الريح الأثر إذا درسته، فكأن العافي عن الذنب يمحوه بصفحه عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم" . ولكي يعلم المسلم معنى ما يقوله في دعائه، من المهم له معرفة كلمات الدعاء، وما تتشابه فيه مع غيرها وما تختلف فيه. وحين نبحر في معاني كلمة العفو، نجد لها كلمات تشبهها جاءت في بعض النصوص الشرعية، وهي (العافية) و(المعافاة)، مثل قوله _صلى الله عليه وسلم_: " سلوا الله العفو والعافية، فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية" ، وقوله _صلى الله عليه وسلم_: "سلوا الله اليقين والمعافاة، فإنه لم يؤت أحد بعد اليقين خيراً من المعافاة" ، وقد بيّن ابن منظور في لسان العرب الفرق بين هذه الكلمات الثلاثة فقال: "في حديث أَبي بكر رضي الله عنه: "سَلُوا اللَّهَ العَفْوَ و العافية و المُعافاة": فأَما العَفْوُ : فهو ما وصفْناه من مَحْو الله تعالى ذُنوبَ عبده عنه. وأَما العافية: فهو أَن يُعافيَهُ الله تعالى من سُقْمٍ أَو بَلِيَّةٍ وهي الصِّحَّةُ ضدُّ المَرَض. يقال: عافاهُ الله وأَعْفاه أَي وهَب له العافية من العِلَل والبَلايا. وأَما المُعافاةُ: فأَنْ يُعافِيَكَ اللَّهُ من الناس ويُعافِيَهم منكَ؛ أَي يُغْنيك عنهم ويغنيهم عنك، ويصرف أَذاهم عنك وأَذاك عنهم. وقيل: هي مُفاعَلَة من العفوِ ، وهو أَن يَعْفُوَ عن الناس ويَعْفُوا هُمْ عنه. وقال الليث: العافية دِفاعُ الله تعالى عن العبد. يقال: عافاه اللَّهُ عافِيةً" . وكلمة (العفو) في الحديث تجمع معاني الكلمتين الأخريين، وذلك أن الله تعالى إذا عفا عن الإنسان وتجاوز عن ذنوبه أصلح له شأنه كله في الدنيا والآخرة، وعافاه من عقوبات الذنوب وآثارها، ومن آثارها الأمراض ووقوع الأذى من شرار الناس، وهذا يشمل العافية والمعافاة، مع ما يشمله في الآخرة من النجاة. وتتشابه كلمة العفو أيضاً مع كلمات أخرى في المعنى، منها كلمة (الغفران)، ومع وجود بعض الفروق بينهما من حيث اللغة، فإنهما "لما تقارب معناهما تداخلا واستُعملا في صفات الله جل اسمه على وجه واحد, فيقال عفا الله عنه وغفر له بمعنى واحد، وما تعدى به اللفظان يدل على ما قلنا، وذلك أنك تقول عفا عنه فيقتضي ذلك إزالة شيء عنه. وتقول غفر له فيقتضي ذلك إثبات شيء له" . محبة الله تعالى لصفة العفو: ويبين هذا الحديث الشريف أن الله تعالى يحب صفة العفو، كما تدل على ذلك نصوص كثيرة أخرى، قال تعالى: (... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...) [البقرة : 185]، وقال: (...مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ...) [المائدة : 6]، وتأمل كيف تجاوز الله تعالى مثلاً عن كثير من الأشياء التي كان يمكن أن نعاقب عليها، قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأمتي عما توسوس به صدورهم ما لم تعمل أو تتكلم به, وما استكرهوا عليه" ، وقال: "إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ, والنسيان, وما استكرهوا عليه" . ويجب الله تعالى أن نقبل منه عز وجل عفوه، قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى يحب أن تُؤتى رخصه كما يحب أن تُؤتى عزائمه" . قال ابن الجوزي في لطائف المعارف: "العفو من أسماء الله تعالى، وهو يتجاوز عن سيئات عباده الماحي لآثارهم عنهم. وهو يحب العفو، فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته، وكان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول: (أعوذ برضاك من سخطك وعفوك من عقوبتك)...". وكما يعفو الله تعالى عن السيئات يحب الله تعالى من عباده العفو والمسامحة فيما بينهم، قال الله عز وجل: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران : 134]، وقوله تعالى: (إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) [النساء : 149]، جاء في التفسير الميسر: (نَدَب الله تعالى إلى العفو, ومهَّد له بأنَّ المؤمن: إمَّا أن يُظهر الخير, وإمَّا أن يُخفيه, وكذلك مع الإساءة: إما أن يظهرها في حال الانتصاف من المسيء, وإما أن يعفو ويصفح, والعفوُ أفضلُ; فإن من صفاته تعالى العفو عن عباده مع قدرته عليهم)، وقال تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى : 40]. إعراب دعاء ليلة القدر: قال ابن علان في دليل الفالحين: "(وعنها قالت: قلت يا رسول اللّه أرأيتَ): بفتح التاء أي أخبرني. (إن علمتُ أيُّ ليلة ليلة القدر): برفع أي مبتدأ خبره ليلة القدر، والجملة منصوبة المحل منع العامل من العمل في اللفظ اسم الاستفهام. (ما): أي أي شيء مرفوع على الابتداء، والرابط للجملة الخبرية محذوف: أي أقوله، أو منصوب على أنه مفعول مقدم وجوباً لقولها (أقول فيها؟) (قال: قولي اللهم إنك عفوٌّ): بصيغة فعول الموضوعة للمبالغة، لأبلغية عفوه سبحانه كيفاً وكمّاً، يعفو عن الكبائر غير الشرك، وعنه بعد الإسلام، وعما لا يعلم عدده سواه. (تحب العفو): خبر بعد خبر، أو حال من ضمير الخبر قبله، أو جملة مستأنفة أتى بها إطناباً. (فاعف عني)" . مناسبة هذا الدعاء لشهر رمضان: قد تغتر النفس؛ فتظن أنه قد أعطت لله تعالى حقه من الصوم والقيام والذكر، لكنها حين تتفكر في دعاء ليلة القدر تجد أن هذا الدعاء يحمل معنى الانكسار من عبد مليء بالعيوب والتقصير في حق ربه عز وجل، فهو يتوسل إلى ربه باسميه العفُوّ والكريم ليكون أرجى في نيل المغفرة والعفو والرحمة. هذه هي الحال التي يريد منا الله تعالى أن نكون عليها، حيث علمها الرسول _صلى الله عليه وسلم_ لأم المؤمنين عائشة، ليس حال الممتن على الله تعالى بأعماله، أو حال المستغني عن طلب العفو والمغفرة، أو الواثق من قبول عمله، وإنما هي حال العبد الفقير الخاضع الذليل، المتوسل إلى ربه ليصفح عنه ويغفر له، ويقبل عمله على ما فيه من تقصير، قال ابن الجوزي: "وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحاً ولا حالاً ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصّر" . وقال ابن القيم: "العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منته عليه ونعمته وحقوقه, وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته, فهو يعلم أن ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه, وأن أقضيته كلها عدل فيه, وأن ما فيه من الخير فمجرد فضله ومنته وصدقته عليه, ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار: "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي"؛ فلا يرى نفسه إلا مقصراً مذنباً, ولا يرى ربه إلا محسناً متفضلاً" . وقال: "وكان _صلى الله عليه وسلم_ يقول في سجوده أقرب ما يكون من ربه: "أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، وقال لأطوع نساء الأمة وأفضلهن وخيرهن الصديقة بنت الصديق؛ وقد قالت له: يا رسول الله لئن وافقت ليلة القدر فما أدعو به؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عني" " . كيف نصل إلى عفو الله عز وجل: والأسباب الموصلة إلى عفو الله تعالى كثيرة، منها التوبة، واتباع السيئة بالحسنة، ومسامحة الناس في ديونهم، كما في الحديث قال _صلى الله عليه وسلم_: "إن رجلاً لم يعمل خيراً قط وكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عنا. فلما هلك قال الله : هل عملت خيراً قط? قال : لا إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس فإذا بعثته يتقاضى قلت له: خذ ما تيسر و اترك ما عسر وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عنا قال الله: قد تجاوزت عنك" . قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "وهو تعالى عفوٌّ يحب العفو عن عباده، ويحب منهم أن يسعوا بالأسباب التي ينالون بها عفوه؛ من السعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه. ومن كمال عفوه أن المسرفين على أنفسهم إذا تابوا إليه غفر لهم كل جرم صغير وكبير، وأنه جعل الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها" . مناسبة هذا الدعاء لليلة القدر: وفي دعاء ليلة القدر إشارة واضحة إلى أن أهم المطالب المناسبة لليلة القدر، والتي ينبغي أن يركز المسلم همه فيها أكثر من غيرها، هي طلب العفو من الله تعالى، مع ذلك فهو دعاء شامل لخيري الدنيا والآخرة - كما سبق بيانه – ، فمن عفا الله عنه نال سعادة الدارين، قال في دليل الفالحين: "وفيه [أي في الحديث] إيماء إلى أن أهم المطالب انفكاك الإنسان من تبعات الذنوب، وطهارته من دنس العيوب، فإن بالطهارة من ذلك يتأهل للانتظام في سلك حزب اللّه، وحزب اللّه هم المفلحون" . إلا أن من دواعي الحزن والأسى غفلة فئات من الناس عن هذه الليلة العظيمة، فمنهم من لا يشغل وقته بالتفكير فيها أو الاستعداد لها، ومنهم من يعرف فضلها لكنه لا يعرف ماذا يفعل ليحسن استقبالها ويستثمر أوقاتها. وتزداد الغفلة سوءاً حين يقترن بها انحراف عن الفهم الصحيح للمقصود الأعظم من هذه الليلة، فبعض العوام لا يعرف عن ليلة القدر إلا أنها الليلة التي تقع فيها الحظوظ المالية كالعثور على كنز أو الحصول على مال، ويتناقل بعض العوام القصص والحكايات عن فلان الذي رأى ليلة القدر فأصبح ثرياً من الأغنياء، حتى صار ذلك مضرب المثل لدى العامة، حين يتحول بعض الناس من الفقر إلى الغنى يقولون فلان (فتحت له طاقة القدر)، أو (شاف ليلة القدر)، ومما يشهد لذلك أن بعض الصحافيين المعروفين في مصر منذ ما يزيد على عقدين، قام بتأسيس لجنة خيرية لمساعدة المحتاجين، وكان الاسم الذي اختاره لها هو: (ليلة القدر)، مما يدل على مدى تأصل المفهوم المادي وارتباطه بليلة القدر لدى كثير من الناس، وهذا غاية ما يعرفون به ليلة القدر، قد يدعو إنسان بذلك فيستجاب له، لكن ليس طلب الثراء هو غاية ما في ليلة القدر ولا هو مقصودها، ولا لهذا كان فضلها وشرفها. وعلى المستوى العام والمستوى الإعلامي والرسمي؛ فكثير من الناس لا يعرف ليلة القدر إلا في صورة احتفالات موسمية، رسمية أو غير رسمية، تقام في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، ومع أن تذكير الناس بفضائل هذه الليلة من الأمور المهمة؛ فإن تخصيص ذلك بيوم محدد بدعة، قال الشيخ علي محفوظ في الإبداع: "إحياء هذه الليلة بخصوصها وجعلها موسماً لا أصل له، فهو بدعة مضافة إلى إحيائها بغير ما رغّب الشارع فيه" . ويزداد الأسى حين ترى من يقضى الأيام التي تقع فيها ليلة القدر في اللهو والباطل، من الأفلام والمسلسلات، أو الأغاني والموسيقى، أو الكلام الفارغ واللعب. جاء في لطائف المعارف أن يحيى بن معاذ قال: "ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو ... يا رب عبدك قد أتا ك وقد أساء وقد هفا يكفيه منك حياؤه من سوء ما قد أسلفا حمل الذنوب على الذنو ب الموبقات وأسرفا وقد استجار بذيل عفو ك من عقابك ملحفا رب اعف وعافه فأنت أولى من عفا " .