سلسلة: لبيك رسول الله 7 أن يأتي رجل إلى مكان هو من أعظم المقدسات الإسلامية وأطهر الأماكن على الإطلاق، ألا وهو المسجد، فيقوم يتبول فيه، فهذا مما قد يتفق أكثرنا أو كلنا على وجوب التصدي له بشدة، وبصرف النظر عن البواعث والأسباب؛ لأن حرمة المكان وقدسيته، وشناعة الفعل وفداحته لا تتركان مجالا للنظر في البواعث والدوافع، أو الانفتاح على احتملات أخرى في رد الفعل واحتوائه. كيف لا؟ ومنزلة المسجد في قلوبنا لا تضاهيها منزلة أي مكان آخر على وجه الأرض؟! كيف لا؟ ويكفي في وصف عظيم قدر المسجد مركب إضافي واحد حاز به الشرف كله، ونال به الرفعة أجمعها.. إنه بيت الله. ولذلك لم يكن مستغربا ولا مستهجنا رد فعل الصحابة رضي الله عنهم، الذين ما رأوا الرجل يتبول في المسجد حتى نهروه بقولهم: توقف، توقف… لكن صفوة الخلق، وأرحم الناس على وجه البسيطة، وأرفق منه لم تلد النساء، غلبت رحمته على كل الاعتبارات التي ذكرناها.. فلا قداسة المكان، ولا شناعة الفعل، نالتا من عطفه -بأبي هو وأمي- فجاء الموقف رحيما عطوفا رقيقا رفيقا بأن لا يقطعوا على الأعرابي بوله حتى لا يعنت ويتأذى: "لا تُزرموه"، ثم جاء النصح والتوجيه عذبا رحيما: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القَذِر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن". فما أعظمك من مرب!! وما أرحمك من نبي!! ثم تأبى عين الرحمة التي لا تجف، وينبوع الحنان الذي لا ينضب أن تقر الأعرابي على دعائه بالرحمة لنفسه وللرسول صلى الله عليه وسلم دون غيرهما، وذلك عندماقال: "اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا".. فما كان من رسول الرحمة إلا أن قال له: "لقد تحجرت واسعا"[1]. وشبيهة بهذه الواقعة قصة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه يوم غزوة أوطاس، ولنتركه يحدثنا عن هذه القصة قال: "بينا أنا أصلي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم، فقلت: (يرحمك الله)، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: (واثُكْلَ أُمِّيَاهْ! ما شأنكم تنظرون إلي؟) فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمِّتونني، لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فبأبي هو وأمي!ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوا الله ما كهرني (أي: ما قهرني ولاعبس في وجهي تهاونا بي)، ولا ضربني، ولا شتمني قال: "إن هذه الصلاة لا يَصْلُح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"[2]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هَلَكْتُ. قال: «مَا لَكَ؟» قال: وَقَعْتُ على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟»، قال: لا. قال: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟»، قال: لا. فقال: «فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟»، قال: لا. فمكث النبي فبينما نحن على ذلك أتي النبي بعرق فيها تمر -وَالْعَرَقُ: الْمِكْتَلُ- قال: «أَيْنَ السَّائِلُ؟»، فقال: أنا. قال: «خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ»، قال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابَتَيْهَا -يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فَضَحِكَ النبي حتى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثم قال: «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».[3] الرجل أتى منكرا عظيما، وذنبا كُبرا، إذ جامع أهله في نهار رمضان، منتهكا حرمة الشهر الفضيل، فأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفق، وجعل يعدد عليه طرق الكفارة، ليخرجه من الورطة التي وقع فيها، فلما بان عجزه عن التكفير بأي منها، أمره عليه السلام بأن يطعم أهله بسلة التمر التي تبرع بها عليه لتكون كفارة له. وذاتَ مرة دخَل شابٌّ على الرسول صلى الله عليه وسلم يستأذنه في أمر مزلزل، قال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. ماذا نتوقع أن يكون رد فعل الصحابة الحاضرين على هذه الجرأة في استئذان أفضل الخلق وأطهرهم في أرذل الفعال وأنجسها؟؟ طبعا قابلوها وصاحبها بالزجر والتأنيب، قال أبو أمامة:فأقبَل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه – أي: اسكت اسكت – وأما النبي صلى الله عليه وسلَّم فتصرف مع هذا الشاب تصرف المربي الحكيم الرحيم، فقال له: ((ادنه))، فدنا منه الشابُّ قريبًا، فقال له: ((أتحبُّه لأمِّك؟))، فانتفض الشاب غَيْرَةً على أمِّه وقال: لا والله، جعلني الله فداءك، فقال له: ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم))، ومضى النبي الكريم يستثير كوامن الغَيْرَةِ الممدوحة في صدر الشاب، ويطفئ بأسئلته الموجهة المنطقية نار شهوته: ((أفتحبُّه لابنتك؟))، فأجاب الشاب: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، فأجابه النبي بمنطقية المربي: ((ولا الناس يحبونه لبناتهم))، ((أتحبُّه لأختك… أتحبُّه لعمتك… أتحبُّه لخالتك؟))، إلى أن توصل الشاب بنفسه إلى شناعة وبشاعة ما طلب، فبقي التوجه بالدعاء لمقلب القلوب، ومن بيده أسباب الهداية والرشاد، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا لهذا الشاب بقوله: ((اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه))، قال أبو أمامة: فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء. إنها دورة تدريبية من المربي الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المخطئ، بعدم الضجر من خطئه، والسماح له بالتعبير عن كوامنه ودواخله بكل حرية، ومعالجة ذلك بالمنطق السليم، والقلب الرحيم. وقد يقول قائل: إذا كانت رحمته كذلك، فلماذا طبق الحدود على الزناة والسراق… ولم يعف عنهم؟ وقبل الجواب عن هذا السؤال لا بد أولا من التنبيه على أن السؤال يحيل ذهن قارئه أو سامعه إلى تمثل خاطئ، مجانب للواقع، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطبق الحدود تلو الحدود. والحال أن ما نفذه عليه السلام منها يعد على رؤوس الأصابع. ثم إن الذين يقولون بذلك ينظرون بعين الرحمة إلى الجاني المعتدي ولا ينظرون بها إلى المجتع الذي يكتوي بنيران جرمه وجنايته، ويغفلون عن حقيقة شرعية فيها رحمة بالمحدود نفسه وهي أن الحد كفارة لذنبه ومحو لخطيئته، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن متشوفا لإقامة الحدود؛ لذلك دعا إلى درئها بأدنى الشبهات، وأناط تنفيذها بشروط يصعب تحققها، ودعا إلى الستر: ستر المؤمن على نفسه، وستر المؤمنين بعضهم على بعض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادْرؤوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ"[4]. تلكم إذن إلماعة عن جمالوروعة منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في العامل مع المخطئين والمذنبين، تشفى الصدور بالتحليق في آفاقها، وتسعد الألباب بسبر أغوارها وأعماقها، وتستقيم طباع وأخلاق من تأسى بها. وللمغرضين الحاقدين نقول: إن كانت أبصاركم لا ترى الكوكب الدري في الأفق القصي، فليس عن كسوف ضيائه أو خمود سنائه، وإنما ذلك من كلل أعيانكم وعمى بصائركم، وصدق أديب مُعرةَ النعمان في قوله: والنجم تستصغر الأبصار صورته ** والذنب للطرف لا للنجم في الصغر.
[1] رويت هذه الحادثة في الصحيحين وفي غيرهما من كتب السنن بروايات متشابهة. [2]أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته. [3]البخاري: كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتُصُدِّقَ عليه فليُكَفِّر [1834]،ومسلم: كتاب الصيام،باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان [1111]. [4]جامع الترمذي، أبواب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود،حديث رقم 1408.