زكية مازغ واعظة بالمجلس العلمي المحلي / الرباط مقدمة: إن أمر التربية في السنة والسيرة النبوية ذو شأن عظيم، والإحاطة بها مطلب صعب المنال لمثلي، ولكن حسبي من هذا العمل أني حاولت من خلاله جمع ما قد يفتح شهية المتلقي للمزيد من البحث والاطلاع، ويدفعه إلى الاغتراف من حياض السنة والسيرة النبوية ما ينفعه في حياته الدنيا، ويشفع له في آخرته. ويكفينا أن لنا ربا يرعانا، ونبيا يرشدنا ويهدينا، كرمه ربه سبحانه فآتاه الحكمة وفصل الخطاب، حيث قال تعالى في محكم آياته:" يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وما يذكر إلا أولوا الألباب"(البقرة آ 269) والحكمة من حسن تلقي العلم وتبليغه، قال تعالى: " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله" (آل عمران آ159). ولا شك أن دراسة السنة و السيرة النبوية – باعتبارهما المصدر الثاني من مصادر المعرفة الإسلامية- هي خير معين على فهم الأصل الأول – القرآن الكريم- بما يتضمنه من هداية وإرشاد على جميع المستويات، من عقيدة وعبادات ومعاملات وأخلاق... يجد فيها المسلم القدوة الحسنة، والمثل الأعلى، بها يصحيح تمثلاته ومواقفه، واتجاهاته، ويعمق معارفه الإسلامية، مما يتيح الفرص لاستدماج القيم والعبر المستنبطة منهمما في سلوكاتنا الخاصة والعامة، ويكسبنا مناعة ضد كل أمراض الانحراف العقدي والسلوكي،ومواجهة كا أشكال الغلو والتطرف والعنف والإقصاء.فنكون بذلك كما قال ربنا" كنتم خير أمة اخرجت للناس" (آل عمران 110) مفهوم السنة في الاصطلاح الشرعي: السنة هي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة، وهي بذلك منهج حياة رسمه القرآن و سدته السنة والسيرة النبوية الشريفة. مفهوم السيرة النبوية: هي حياة عملية واقعية عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم، لتكون نموذجا راقيا في الاستقامة والتخلق بالأخلاق الربانية، سواء مع ربه، أو مع أهله وعشيرته، أو مع صحابته، أو مع غيره من ذوي الشرائع السماوية السابقة، فاستحق أن يكون صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى، والأسوة الحسنة، للمسلمين في كل زمان ومكان، والهادي للناس كافة. مفهوم المنهج: لغة النهج والمنهج والمنهاج الطريق المستقيم الواضح الذي يوصل إلى الغاية بسهولة ويسر وسرعة، وفي الاصطلاح: هو مجموع القواعد العامة والخطوات والقوانين المنظمة التي تحكم عمليات العقل خلال البحث والنظر في مجال معين. أسس ودعامات المنهج التربوي النبوي: اختص المنهج التربوي النبوي بخصائص امتاز بها، تعتبر الحجر الأساس في بناء الشخصية المسلمة، لمن التزم بها، وسار على نهجها. ومن خصائصه المميزة له أنه: أولا: منهج رباني المصدر : فالمنهج التربوي النبوي تشريع يستمد قوته وثباته وتميزه، وكذا أحكامه وأخلاقه وسلوكياته من رب العالمين "وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى" (....) وهو بذلك تشريع يرتبط بواقع الناس، ويسمو بالإنسان، ويكرمه، ويقيم العدل وينشر الرحمة والأمن، والإخاء ... وهذه الربانية تحفظه من الاهتزاز والتأرجح، والتغيير والتبديل، والاختلاف والتباين، وتضمن له الاستمرار والدوام. يقول تعالى:" وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" ( ) ويقول صلى الله عليه وسلم :" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي..." (....) ثانيا: منهج شمولي: فهو منهج شامل لصالح الإنسان يرتبط بالواقع، ويعالج مشكلات التربية؛ ويحيط بجميع أبعاد حياة الإنسان باعتباره وحدة يتلاحم فيه الجسد والعقل والروح، والقول والفعل والنية، والظاهر والباطن من ميلاد الإنسان إلى وفاته، ويحضر في كل مجالات الحياة المختلفة، البيت والمدرسة والشارع والسوق العمل ، يراعيه في جميع جوانبه ومكوناته. منهج يتعهد برعاية الإنسان فردا، وأسرة، ومجتمعا، وأمة فيما بينها ضمن علاقة تبادلية قائمة على التفاعل، وفي علاقاتها بغيرها من الدول التي تتعايش معها في حالتي السلم والحرب.... قال صلى الله عليه وسلم: "تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ" (موطأ افمام مالك).. وهو بذلك وغيره يلبي جميع حاجاته، لأنه منهج رباني من نبي معصوم عليه أزكى الصلوات والسلام، متسم بترابط العقيدة والشريعة والأخلاق في كل منسجم، ووحدة متلاحمة، تؤتي أكلها على صعيد التكوين النفسي والبناء التربوي للإنسان المسلم. ثالثا: منهج متوازن ومعتدل: المنهج التربوي النبوي منهج يوازن بين متطلبات الروح والجسد، بحيث لا يطغى جانب على آخر، فلا يهمل المسلم ما يتطلبه جسده من العناية دون تجاوز الحد المشروع، ولا يحرم روحه من حقها، وفي ذلك مزايا كثيرة، فالتوازن يحقق الاستقامة في المنهج، والبعد عن الزيغ والانحراف، وقد حرصت السنة النبوية على حفظ التوازن داخل المجتمع في الأمور كلها، وكلما لمح من بعض أصحابه جنوحا إلى الإفراط أو التفريط في مجال ما، ردهم صلى الله عليه وسلم إلى الاعتدال والتوسط، وحذرهم من الغلو أو التقصير، لما لهما من آثار سلبية على تقدم المجتمع ونمائه. ومن ذلك إنكاره على الثلاثة الذين تقالوا عبادته صلى الله عليه وسلم، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (صحيح البخاري) والمنهج التربوي النبوي لهذه الخصائص يمتاز بسمات تميزه، نذكر منها: سمة غرس العقيدة الصحيحة، وتقوية الإيمان من خلال التربية: فالعقيدة آكد ما ينبغي الاعتناء به، لأنها تحدد للإنسان هويته، وتدفعه إلى اتخاذ المواقف، وانماط السلوك الموافق لطبيعتها، حيث إن العمل يترتب على الاعتقاد، كما تترتب النتيجة على السبب. وأثر العقيدة السليمة يظهر جليا في تهذيب السلوك، وتزكية النفس، وتوجيهها نحو المثل الأعلى، إذ ما من فضيلة إلا وتصدر عنها. ومن شان اهتزاز الإيمان في القلوب، وتزعزع العقيدة في النفوسفقدان السيطرة على السلوك، وإطلاق عنان العقول تمعن في الظلمات، وإذ ذاك يستجيب الإنسان إلى كل صيحة، وينقاد لكل دعوة، وإن كان فيها هلاكه، وسوء عاقبته. ومن ثم نجده صلى الله عليه وسلم ينفي الإيمان عمن لا أمانة له، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (مسند أحمد) وجعل من لوازم الإيمان صلة الرحم وإكرام الضيف، واتباع الجنائز، وغيرها من القيم والأخلاق، قال صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" (صحيح البخاري) وهذه السمة – سمة العبودية لله تعالى- تحقق الغاية من الخلق وتلبي نداء الفطرة قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات 57) وقال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" (متفق عليه) [الفطرة هي توحيد الله تعالى بالعبادة] "وغياب هذه السمة من المناهج التعليمية والتربوية يؤدي إلى اختلالِ الموازين واضطرابِ المفاهيم وتحطيمِ الطاقات البشرية ومصادمةِ الفطر الإنسانية وذهابِ الفضائل والمثل والقيم".(منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم/ خالد بن عبد الله المصلح/ الأنترنيت) سمة القصدية: من صفات هذا المنهج النبوي تربيةُ الناس على تصحيح وتصفية المقاصد خاصة إذا كان العلم علماً شرعياً دينياً، وهو امر لا يفطن إليه كثير من الناس، لبعدهم عن المنهج النبوي الرباني، فتضيع أعمالهم ، وتذهب أدراج الرياح. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علماً يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة"(1) (أي ريحها) (أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما بسند جيد). أما العلوم الدنيوية فإن استحضار النية الصالحة والقصد الحسن، سببٌ يحصل به الأجرُ من الله تعالى والعونُ والتوفيق، ولا يستوي هذا مع من جعل التربية والتعليم سلماً يرتقى به إلى تحقيق الأمجاد الشخصية والمكاسب الذاتية. فلا شك أن هذه النيات القاصرة تؤثر على العمل التربوي والتعليمي تأثيراً بالغ السوء، بل تنعكس آثارها السلبية على المجتمع ككل.. قال النبي صلى الله عليه وسلم:ط إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (متفق عليه) وما أحوجنا في تربيتنا إلى غرس قيمة إخلاص العلم والعمل لله تعالى، وابتغاء الأجر منه سبحانه، وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل لله من الخير يحمده الناس عليه، فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن" (أخرجه مسلم) سمة اليسر ورفع الحرج: فالمنهج التربوي النبوي يأخذ بمبدإ المرونة واليسر في كل شيء، ورفع الحرج والمشقة، فيكون بذلك منسجما مع الفطرة البشرية الخالية من التكليف، وهو في يسره ومرونته ينتقل بالمسلم من العزيمة إلى الرخصة إذا دعت الضرورة لذلك، فقد روى الإمام أحمد والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" وكان صلى الله عليه وسلم من رحمته بالعباد، وتيسيره عليهم، ينهى عن التشدد في الدين، قال عليه الصلاة والسلام:" لا تشددوا فيُشددَ عليكم، فإن قوما شددوا على انفسهم ، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم" (رواه أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه). ومن مظاهر اليسر في السنة النبوية : الإشفاق على النفس وعدم إرهاقها بما لا تطيق: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما" رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنهم جميعا. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما امرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، " رواه البخاري ففي كثرة التكاليف إحراج، وقد سكت المشرع عن كثير من الأشياء رحمة بالناس، وتخفيفا عنهم، ولذلك جاء منهجه صلى الله عليه وسلم على هدي القرآن الكريم، حين سئل عن الحج: " أفي كل عام ؟ فقال: لو قلت نعم، لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلَكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على انبيائهم" رواه البخاري، ويدل على ذلك أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" رواه الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني. ونجد في سيرته صلى الله عليه وسلم خير قدوة، ففي حديث الذي بال في المسجد دليل على منهجه صلى الله عليه وسلم في التعامل، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه، وأريقوا على بوله سَجْلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين" (رواه البخاري) فما اجمل سيرته صلى الله عليه وسلم وما أروعها، سيرة الهداية والإصلاح، والسماحة واليسر، ولا عجب فهي سيرة من ادبه ربه فأحسن تأديبه صلى الله عليه وسلم، فهذا الأعرابي "لا يعرف أمور دينه، ولا يدري حرمة المساجد التي امر الله أن تعظم وتطهر، ويظن أن المسجد كبقية الماكن، ليس هناك ما يمنع من التبول فيه، أو قضاء الحاجة، وليس له من عذر إلا أنه جاهل، ويرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلمهذا المنظر المؤذي...، فيسرعون نحوه يريدون ضربه وتأديبه، لأنه أساء إلى حرمة بيت الله، ويأمرهم الرسول الرحيم بالكف عنه، وعدم إيذائه،لأن الجاهل ينبغي أن يعلم، لا أن يضرب، فإن الضرب ينفر ولا يؤدب، والرسول الكريم يقول:" بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، ويأمرهم بهرق الماء عليه، ويدعو الأعرابي فيعلمه برفق ولين حتى يشعر بخط~ه ويندم على عمله... وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة أن ذلك الأعرابي حين أراد الخروج من المسجد ركب ناقته، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا احدا، وذلك لأنه رأى اللطف من الرسول الكريم على خلاف أصحابه..." (من كنوز السنة: دراسات أدبية ولغوية من الحديث الشريف: محمد الصابوني/ص135/138) 4- سمة مراعاةُ قدرات ومستويات المستهدفين: فالمنهج التربوي النبوي يراعي قدرات ومستويات المستهدفين، فيعطي كلٌّ واحد ما تستسيغه نفسه، ويألفه قلبه، ويلبي حاجاته، فالعقول والمدارك تختلف، والناس تتباين في سرعة الاستجابة والفهم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معادا إلى اليمن فقال: "إنك تأتي قوما من اهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك ، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم" (أخرجه مسلم) وحديث أبي سعيد الخدري يبرز هذه الخاصية في المنهج التربوي النبوي، عن أبي سعيد الخدري قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: "عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الحياة الدنيا، وبين ما عنده، فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر، فقال فديناك بآبائنا وامهاتنا ، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر رضي الله عنه هو أعلمنا به" (صحيحي البخاري ومسلم) فالرسول صلى الله عليه وسلم قال" إن عبدا" وأبهمه ليختبر فهم الصحابة ونباهتهم، فكان أبو بكر أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بمراده. وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟قال: إن قومك قصرت بهم النفقة . قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن ادخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه في الأرض" (صحيح البخاري/ كتاب الحج) فالرسول صلى الله عليه وسلم يعرف مخاطبيه، فراعى فيهم عدم قدرتهم على استيعاب إعادة بناء الكعبة بإدخال الجدر، وإلصاق الباب بالأرض، ففضل عدم القيام بذلك من أجل الأمن من الوقع في المفسدة، فكونهم يعظمون الكعبة، وقرب عهدهم بالإسلام قد يوهمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم غير بناءها ليتفرد بالفخر عليهم بذلك، فجاء تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم، في تركه أمرا عظيما خشية أن تقصر أفهامهم عن إدراك الأمر على وجهه الصحيح. ودليل آخر على اعتباره صلى الله عليه وسلم للقدرات والمستويات نستقيه من سيرته صلى الله عليه وسلم مع سائليه، فنجد السؤال الواحد، تختلف إجابتاه باختلاف حاجات السائلين، وما يتلاءم مع نفسياتهم، ويصلح لهم. عن أبي ذر رضي الله عنه قال : ........ قلت : يا رسول الله أوصني. قال : "أوصيك بتقوى الله؛ فإنها زين لأمرك كله" قلت يا رسول الله زدني . قال : "بتلاوة القرآن، وذكر الله عز وجل فإنه ذكر لك في السماء، و نور لك في الأرض ......... قلت يا رسول الله، زدني ؛ قال: "وإياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه" قلت : زدني قال : "قل الحق وإن كان مرا" قلت زدني قال : "لا تخف في الله لومة لائم" (.....) وعن حميد بن عبد الرحمن، أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال: يا رسول الله أوصني. قال : "لا تغضب" (...) وعن أسود بن أصرم رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أوصني , قال: "تملك يدك" قلت: فماذا أملك إذا لم أملك يدي ؟ قال: "تملك لسانك" قلت فماذا أملك إذا لم أملك لساني ؟ قال: "لا تبسط يدك إلا إلى خير ولا تقل بلسانك إلا معروفا" وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله أوصني وأوجز ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليك بالإياس مما في أيدي الناس . . . . . . وإياك وما يعتذر منه" ومن هنا نعلم خطأ ما يمارسه بعضُ الآباء، من المساواةِ التامة بين الأطفال والمقارنة بينهم، وكذا المربين في المناهج والمقررات والمراحل والمستويات، ولا شك أن هذا خطأ كبير مازالت الأمة تجني ويلاته وتحصد حسراتِه في كثيرٍ من بلاد المسلمين. سمة مقابلة الإساءة بالإحسان، والرفق، والتسديد والتقويم والإرشاد: ما أسمى منهجه النبوي صلى الله عليه وسلم الحكيم الذي يدعو إلى الرفق واللين في النصح والإرشاد، وإلى معالجة القضايا والمشكلات الفردية والاجتماعية بالحكمة والرأفة والتسامح، فيكون فيه الدواء الناجع، والعلاج الشافي للقلوب المريضة، والمنحرفة، أو الجاهلة، فالناس معادن، وليس كل من قابلته بحسن الخلق تجد منه نفسه، فقد تمد يدك لمن يضربك عليها، فلا تقابل الإساءة بالإساءة، ولكن سر على هدى الله تعالى القائل: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" (فصلت آ 34) وهذا المربي الأول محمد صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الرفق والتسامح والعفو، نراه كيف يعالج القضايا، ويحل المشكلات، ويتحمل أخطاء الآخرين ويرفق بهم، " وانظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد جلس في مجلس مبارك يحيط به أصحابه، فيأتيه أعرابي يستعينه في دية قتل... فأقبل يريد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعينه بمال يؤديه إلى أولياء المقتول... فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا...ثم قال تلطفا معه: " أحسنتُ إليك؟" قال الأعرابي: لا... لا أحسنت ولا أجملت. فغضب بعض المسلمين، وهموا أن يقوموا إليه، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أن كفوا، ثم قام صلى الله عليه وسلم إلى منزله، ودعا الأعرابي على البيت فقال له" " إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك... فقلت ما قلت" ثم زاده صلى الله عليه وسلم من مال وجده في بيته، فقال: " أحسنت إليك؟" فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا" فأعجبه صلى الله عليه وسلم هذا الرضا منه، لكنه خشي أن يبقى في قلوب أصحابه شيء على الرجل، فيراه أحدهم في طريق أو سوق فلا يزال حاقدا عليه، فأراد أن يسل ما في صدورهم، فقال له صلى الله عليه وسلم: " إنك كنت جئتنا فأعطيناك، فقلت ما قلت، وفي نفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب عن صدورهم، فلما جاء الأعرابي قال: " إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه، فقال ما قال، وإنا قد دعوناه فأعطيناه، فزعم انه قد رضي" ثم التفت إلى الأعرابي وقال: " أكذلك؟" قال الأعرابي : نعم. فجزاك الله من اهل وعشيرة خيرا، فلما هم الأعرابي أن يخرج إلى أهله ، أراد صلى الله عليه وسلم أن يعطي أصحابه درسا في كسب القلوب، فقال لهم: " إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه، فاتبعها الناس (يركضون وراءها ليمسكوها) وهي تهرب منهم فزعا، ولم يزيدوها إلا نفورا، فقال صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها ، وأعلم بها... فتوجه إليها صاحب الناقة فأخذ لها من قشام الأرض، ودعاها حتى جاءت واستجابت، وشد عليها رحلها، واستوى عليها، ولو أني أطعتكم حيث قال ما قال، دخل النار" (يعني لو طردتموه لعله يرتد عن الدين فيدخل النار) (استمتع بحياتك ص195) سمة ربط العلم بالعمل: فربط العلم بالعمل ينسجم وروح الدين الإسلامي، الذي يعتبر العلمُ شجرة والعمل ثمرة، فكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه العلم والعمل معا، وينبه إلى أن العلم بلا عمل حجة على صاحبه، لقول الشاعر: إذا لم يزد علمُ الفتى قلبَه هدىً وسيرتَه عدلاً وأخلاقه حسنا فبشره أن الله أولاه نعمة يساء بها، مثل الذي عبدَ الوَثْنا والرسول صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يلجأ إلى هذا الأسلوب لتعليم الناس دينهم، ومن أمثلة ذلك، حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الذي قال في الصلاة على المنبر: " ... ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها (المنبر) وكبر وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى، فسجد في أصل المنبر، ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: أيها الناس: إنما صنعت هذا لتأتَموا بي، ولتعلموا صلاتي" (رواه البخاري في صلاة الجمعة) وفي حديث المسيء صلاته نموذج أخر للتعليم بالعمل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ , فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ . فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى , ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ , فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ - ثَلاثاً - فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أُحْسِنُ غَيْرَهُ , فَعَلِّمْنِي , فَقَالَ : إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ , ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ معك مِنْ الْقُرْآنِ , ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً , ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً , ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً, ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً . وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا". وفي حديث أنس بن مالك نموذج آخر للمنهج النبوي في التعليم بالعمل: عن أنس بن مالك أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت صلاة الفجر، فقال: صلها معنا غدا، فصلاها النبي صلى الله عليه وسلم بغلس، فلما كان اليوم الثاني أخر حتى أسفر، ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة، فقال الرجل: أنا يا نبي الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أليس قد حضرتهما معنا أمس واليوم؟ قال: بلى، قال: وما بينهما وقت " (أخرجه البزار بسند صحيح) ولا شك أن الجمع بين الأسلوب النظري والعملي في آن واحد أثناء التعليم يكون له دور قوي في ترسيخ المعلومات في ذهن المتعلم، وتثبيتها، ونافع ومفيد، يختصر طريق التعلم، ويوفر الجهد والوقت، فبدلا من أن تحفيظ صفة الصلاة أو الوضوء - مثلا- ويستهلك وقتا طويلا في التعليم، يكفي أن يمارس ذلك أمام المتعلمين فيتبعوه، ويقتدوا به كما فعل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، في تعليم العبادات والمعاملات، قال صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة" سمة استمرارية العملية التعليمية مدى الحياة: فالرسول صلى الله عليه وسلم يحث الأمة بإلحاح على طلب العلم والسعي لتحصيله والاستزادة منه، ويعتبر طالب العلم مجاهدا في سبيل الله، قال عليه الصلاة والسلام: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع" (رواه الترمذي)، فالعلم هو اللبنة الأساس في تكوين الشخصية الإيجابية، وحفظ المجتمع من الجهل والتخلف، وطلبه فريضة على كل مسلم حتى يوارى التراب، فقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يشبع مؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة." ويحث صلى الله عليه وسلم على اغتنام الشخص صحته وفراغه في ذلك حتى لا يكون من المغبونين. عن معاذٍ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذ بيده وقال: "يا معاذ، والله، إني لأحبك، ثم أوصيكَ يا معاذ لا تدَعَنَّ في دبر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك" ( رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح). كما يحثهم على إحياء العلم بنشره وبذله وتوسيع دائرة المنتفعين به، قال صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها ثم بلّغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بسند صحيح) وقال أيضاً: ((إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير)) (رواه الترمذي بسند حسن). كما حث الأمة على تعاهد القرآن الذي هو أصل العلوم ومنبع المعارف الدينية الشرعية، قال صلى الله عليه وسلم: ((تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها)) (متفق عليه).. فالمسلم في السنة النبوية إما عالما أو متعلما، فإذا استغنى كان جاهلا، وهذا المفهوم هو الذي غاب عن تعليمنا اليوم، فنحن نقرأ للامتحان، وللتوظيف، ولأشياء أخرى، وبتحقيقها نحقق القطيعة مع التعلم، والعلم بالعلم يكثر وينمو ويثبت، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم)). رواه الطبراني وغيره وحسنه الألباني سمة توظيف جميع الطاقات وبث روح المسؤولية: فالمنهج التربوي النبوي يقوم على حمل أبناء الأمة على المشاركة والعطاء والبناء، وتربيتهم على تحمل الأعباء والقيام بالمسؤوليات، كل وما يتفق وموقعه وقدراته، الحاكم والرجل والمرأة والعامل ... وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، يعد أصلاً من الأصول الشرعية التي تقرر مبدأ المسؤولية الشاملة في الإسلام، حيث جاء فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (( كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته؛ الإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤولٌ عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته)) ونظرة سريعة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تجلّي هذه السمة المهمة، فمن الذي قتل أبا جهل فرعون هذه الأمة؟ أليسا ابني عفراء الغلامين الحدَثين؟ ومن الذي قاد الجيش لقتال الروم، ألم يكن أسامة بن زيد الذي لم يكن قد بلغ العشرين سنة من العمر؟ ومن كان في رعاية الجرحى ومداواتهن في الحروب والمغازي، ألم تكن الصحابيات الجليلات رضوان الله عليهن؟ ونحن كآباء وأولياء أمور ومربين علينا أن نقتدي بالهدي النبوي، فنسعى جاهدين لتوظيف جميع طاقات الأمة في خدمة الإسلام، ونصرة قضاياه، ولا نستثني أحدا – فكل مسخر لما خلق له- حتى الضعفاءَ والمساكين بهم تنصر الأمة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ابغوني ضعفاءكم فهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)) (أخرجه أبو داود بسند جيد) وفي رواية ((بصلاتهم ودعائهم)) (أخرجه النسائي في الجهاد). خاتمة: هذا قليل من كثير، نروم من ورائه العناية بترقية الحس الإيماني لدى ناشئتنا، وتعميق جانب الإخلاص لله فينا، وابتغاء رضوانه، فنكون حريصين أشد الحرص على ترسيخ السلوكات الإيجابية، وإعادة تشكيل بيئتنا على النمط الإسلامي الذي يوافق الكتاب والسنة، بالاقتداء بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية، الذي يقوم على ما رأيناه من أساليب، وغيره مما لم تتح لنا الفرصة لإدراجه من الصبر على المتعلم، وإدخال الطرف بين ثنايا الدروس والمواعظ، لطرد السأم والملل، وإراحة الذهن، والتلميح بدل التصريح (ما بال أقوام قالوا...)، وتقديم المكافآت المادية والمعنوية (الدعاء/ الثناء...) لأسر القلوب، وتجديد النشاط، وضرب الأمثال، والمحاورة والتكرار والسؤال والتعليق على الإجابات... وغيرها كثير، وحسبي أن أكون قد مهدت لكم الطريق، ودللتكم على ينبوع لا ينضب، وعلى المستزيد أن يعود إلى كتب السنة والسيرة النبوية ليروي غليله من هذا الفيض من الخيرات النبوية، والله ولي التوفيق. إنجاز: زكية مازغ / 9 رجب 1431