إن المتأمل لأحوال المسلمين اليوم ومواقفهم و تفاعلهم مع الأحداث المختلفة، إذا عرض أحوالهم على الكتاب والسنة وما قرره أهل العلم على ضوئهما سيظهر له جليا أن الأمة تعاني من حالة مرضية خطيرة، ظهرت معها جملة من الظواهر و الأعراض الفكرية والسلوكية. ومن أخطرها في نظري أن تستسلم الأمة لسطوة الواقع بزخمه الحداثي وتتماهى مع مخرجاته على جميع الأصعدة والمستويات. الحداثة سرت في شرايين الأمة سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا و اجتماعيا، وتمكن الحداثيون بمختلف تخصصاتهم من دواليب الدول الاسلامية، وأفلحوا في جعل هذه المجتمعات في القوالب الحداثية التي أنتجها الغرب، حتى أصبحنا لا نرى فرقا يذكر بين المسلمين وغيرهم في حياتهم العامة، حيث تماهى المسلمون مع غيرهم واندثرت واندرست مظاهر التمسك بالأحكام و الضوابط الشرعية التي كانت تميز المسلمين عن غيرهم ، والأخطر في الموضوع هو أن يصل تأثير الحداثة على المسلمين إلى العقيدة وأصول الدين. فرواد الحداثة شنوا حربا فكرية خطيرة على عقيدة المسلمين، هيئ لها ترسانة رهيبة من وسائل الاعلام و التواصل و التقنية الحديثة، ووجهت من خلالها معاول الهدم و التشويه والتشكيك إلى المسلمات والثوابث الإسلامية، فضاع كثير من شباب المسلمين الذين لا حصانة لهم من علم ودين، واستسلموا لهذه المعاول حتى انسلخوا بالكلية من الإسلام فأعلنوا إلحادهم أو لا دينيتهم، ولما علم شياطين الحداثة أنه لا بد أن تبقى فئات من المسلمين متمسكة بدينها راغبة فيه تأبي الانسلاخ الكلي منه عملوا وبجهد للترويج لإسلام مشوه مفرغ من جوهره، محرف في أصوله و ثوابته يتماهى مع الحداثة اللعينة. روجوا لدين جديد المرجع فيه ليس نصوص الوحيين على مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما المرجع فيه الهوى والتشهي فيقبل من النصوص ويرد بالنظر إلى مسلمات الحداثة وشعاراتها الرنانة عن الحريات والمساواة ورفض كل أنواع الرقابة والوصاية إلاهية كانت أو بشرية، فكم ردوا أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم وهي في أعلى درجات الصحة والثبوت، بل ردوا آيات قرآنية بتحريفها و التعسف الفج في تأويلها، فما قبله الغربال الحداثي من نصوص الوحيين فإنه يفرغ من دلالته الربانية وتحكم فيه أهواء الناس ورغباتهم على ضوء المخرجات الحداثية. نعم هذا هو الدين المشوه الذي يروج له اليوم بين المسلمين، والذي يحتفي به الغرب و يروج للقائمين على نشره والتبشير به ويقدمهم على أنهم مجددين ومفكرين مرموقين.. ولكن الله يبقي في الناس ولا بد طائفة على الحق ظاهرين تكون حجة على الناس، و يقع على عاتقها واجب المدافعة لكل هذا الزخم، ويخصهم الله بشرف الحفاظ على دين الله بأصوله وثوابته الربانية وشريعته الصافية النقية التي تصلح لكل زمان ومكان. وهؤلاء هم صمام الأمان الأخير بالأمة الذي يبقي فيها رمق الحياة وإن نخرتها الأمراض واشتدت بها الأدواء، وهم العقبة الكؤود أمام المشروع الحداثي في التبشير بدينهم المشوه. لذلك فإن شياطين الحداثة يسعون جاهدين لإسقاط هذه الطائفة، و تمرر رسائل قوية ومتتالية إلى المجتمع لتصنيفهم متشددين ومتطرفين، و قد سقط كثير ممن كان يحسب على هذه الفئة الممانعة ممن ينتسب الى العلم والصلاح في شباك شياطين الحداثة، فأصبح مطية وحمارا يركبونه سواء علم ذلك أوجهله، وذلك بتوظيفه في حربهم على الطائفة او الفئة الممانعة والمدافعة لمشروعهم.. فزينوا له الهجوم على إخوانه وتوجيه سهامه إليهم تحت مسميات ومظلات مختلفة؛ فتارة تحت مظلة نقد التراث، وتارة تحت مظلة التجديد ونبذ الجمود في ظل النوازل، وتارة تحت مظلة الدفاع عن المذاهب، وتارة تحت مظلات أخرى يختارها أو تملى عليه بشكل مباشر أو غير مباشر وهو في كل ذلك يحسب أنه يحسن صنعا في غفلة تامة عن فقه المرحلة، وعن الآثار و العواقب المأساوية التي تنتج عن صنيعه، والتي تخدم المشروع الحداثي وتضعف الحصن الأخير للمدافعة، والمعقل الصامد للممانعة. هذا المعقل الذي يعم كل من يعظم نصوص الوحيين ويصدر عنها، و يتمسك بأصول وثوابت الدين الحنيف ومقتضياتها، و يتمسك بالشريعة بأصولها وفروعها، فإن لم يتمكن من إعمالها في واقعه فإنه لا ينكرها ولا يجعل غيرها خيرا منها. هذا المعقل الحصين قد يكون بين أطيافه خلاف في بعض المسائل في الأصول أو الفروع لكنها تجتمع كلها على تعظيم نصوص الوحيين وجعلهما مصدرا للتشريع من غير تشهي ولا تحكم، فتصدر عن هذه النصوص وتتلمس مراد الله.. والخلاف بين هذه الأطياف كلما روعي في تدبيره فقه المرحلة تم احتواؤه، ولم يكن سببا في تصدع جبهة الممانعة، وكلما غفل عن هذا الفقه ووجد الحماس الزائد للانتصار للطائفة؛ كلما تهلهلت وحدة الصف وتصدع، و ضعفت جبهة الممانعة للمشروع الحداثي. هذا توصيف مع الإجمال دون دخول في ذكر أسماء الطوائف و تفاصيل الخلاف الواقع بينها، هذا الخلاف الذي نجد شياطين الحداثة لا يفوتون فرصة أتيحت لهم لاستثماره، وكم استغفلوا من متحمس للانتصار لطائفته في هذا الخلاف فتخندقوا خلفه يؤزونه أزا ليفت في عضد الجبهة الممانعة. لقد أصبح لزاما على كل عاقل من المسلمين، بله عالم أو طالب علم أن ينظر موقع قدمين، والخندق الذي يتموضع فيه، ويعلم للمرحلة فقهها وأولوياتها. هذه الكلمات اليسيرة رجوت من خلالها توصيف العلاقة بين الحالة المرضية للأمة وبين الظاهرة الحداثية، وبعض هذه الكلمات فيه وضوح تام وبعضها مشفر لا تخفى دلالته على أهل العلم والعرفان، قد أطلقتها معها سقاؤها وحذاؤها لتبلغ ما شاء الله أن تبلغ، فأرجو من الله أن يكون فيها إيقاظ وتذكير، فهو على ذلك قدير وبالإجابة جدير. والصلاة والسلام على البشير النذير.