الدكتور طه عبد الرحمن في محاضرة حول الآيات القرآنية والقراءات الحداثية":القراءة المبدعة للقرآن لا تتم إلا بترشيد التفاعل الديني وتجديد الفعل الحداثي "القراءات الحداثية لبعض الآيات القرآنية هي قراءات تقصد أساسا أن تنقض هذه الآيات، وسلكت في هذا النقض خططا ثلاث هي خطة التأنيس وخطة التعقيل وخطة التأريخ. وقد اختصت خطة التأنيس بنقل الآيات من الوضع الإلهي إلى الوضع البشري قاصدة إلغاء القدسية عنها، فصارت وانتهت إلى تقرير المماثلة اللغوية بين القرآن وغيره من النصوص البشرية. واختصت خطة التعقيل بالتعامل مع الآيات القرآنية بجميع المنهجيات والنظريات الحديثة قاصدة إلغاء الغيبية منها فانتهت إلى تقرير المماثلة الدينية بين القرآن وما سواه من النصوص الدينية. وأخيرا اختصت خطة التأريخ بوصل الييات القرآنية بظروفها وسياقاتها المختلفة قاصدة إلغاء الحكمية فيها فتأدت إلى تقرير المماثلة التاريخية بين القرآن وما عداه من النصوص. وقد أوضحنا أن هذه القراءات الحداثية هي قراءات مقلدة اقتبست كل مكونات خططها من واقع الحداثة الغربية في صراعه مع الدين وهو يدعو إلى ترك العمل بقيم الإله والوحي والآخرة، والأخذ بقيم الإنسان والعقل والدنيا. فتعين علينا إذن أن نطلب قراءة حداثية مبدعة حقا، فجعلنا خططها تتفق مع خطط القراءة المقلدة في الآليات التنسيقية حتى يحصل التفاعل بين الديني مع النص القرآني، ولكنها تختلف مع هذه القراءات المقلدة في الأهداف حتى يحصل تجديد الفعل الحداثي رافعا لكرامة الإنسان إلى رتبة التمثيل الإلهي تحققا بمبدأ الاستخلاف ورافعا إدراك الوقائع إلى رتبة إدراك القيم تحققا بمبدأ التدبر، ورافعا مفهوم الحكم إلى رتبة الخلق تحققا بمبدأ الاعتبار. وبهذا تتهافت المماثلات الثلاث التي تقيمها القراءة الحداثية المقلدة بين النص القرآني والنصوص الأخرى. فامتياز القرآن بمضمونه العقدي يدحض المماثلة اللغوية، وامتيازه بتوجهه العقلي يدحض المماثلة الدينية، وأخيرا امتيازه بوضعه التاريخي يدحض المماثلة التاريخية. من الحداثة المقلدة إلى الحداثة المبدعة بهذه الخلاصة المركزة أنهى الفيلسوف المجدد والمفكر المتميز الدكتور طه عبدالرحمن محاضرته القوية المنظمة في قاعة ابا حنيني بوزارة الثقافة بالرباط ليل الاثنين 25 رمضان 1425 والتي اتخذ لها عنوانا دالا جدا ألا وهو الآيات القرآنية والقراءات الحداثية . محاضرة شهدها جمهور غفير من المتابعين غصت بهم القاعة، إذ يكفي أن يكون المحاضر هو طه عبد الرحمن لتمتلئ القاعة التي يحاضر فيها عن آخرها ويتصدر الصفوف فيها صفوة من أهل الفكر والبحث والعلم جاؤوا من المغرب ومن خارجه ممن شهدوا الدروس الحسنية الملكية لرمضان هذا العام، ومرت عليهم ساعتان أو أكثر من المتابعة كأن على رؤوسهم الطير. وقد قام الدكتور طه عبد الرحمن بتشخيص القراءة الحداثية للآيات القرآنية وفصل خططها والأسس التي يقوم عليها والأساليب التي تتبعها والغايات التي انتهت إليها، لينتهي إلى اعتبارها قراءات مقلدة ليس إلا، لا إبداع فيها ولا اجتهاد، وإنما نقل حرفي لواقع الحداثة الغربي، وهو واقع خاص جدا لا يعدو مكانه وزمانه. هي قراءة مقلدة لا بصيرة لديها نظرا للعيوب الفظيعة التي اختص بها أدعياؤها مثل فقد القدرة على نقد الوسائل المنقولة وذلك يعني وفق الدكتور طه عبدالرحمن فقد شرط من شروط التحقق بالحداثة، أي أن القوم ليسوا حداثيين وإنما أدعياء يتوهمون زعما أنهم كذلك. والعيب الثاني ضعفهم في استعمال الآليات المنقولة ولا بالأولى -والقول لطه- أحاطوا بالأسباب النظرية والقرارات الإجرائية التي انبنت عليها، فضلا عن الصبغة العلمية لتلك النظريات لم تكتمل في أصلها فكيف سولت لهم أنفسهم نقلها بغير اكتمال. أما العيب الثالث فهو الإصرار على العمل بالآليات والإجراءات المتجاوزة دون مراجعة طريقتهم الإسقاطية، بل على العكس من ذلك، راحوا يسقطون ما استجد من الآليات على النص القرآني غير معتبرين تاريخية هذه الأدوات ولا نسبية نتائجها. والعيب الرابع تهويلهم للنتائج التي توصلوا إليها إذ عظمت في أعينهم وعظم صانعوها في نفوسهم، وأوهموا القارئ أن تلك الاستنتاجات هي الغاية في تحديث النص القرآني، في حين أنها لا تعدو أن تكون إما استعادة لما استنتجه علماء الغرب، أم استعادة لما استنتجه علماء الإسلام، أو بضاعة مزجاة لا ترقى إلى استنتاجات هؤلاء ولا هؤلاء، فضلا عن غموض الفكرة وركاكة العبارة عند غالبيتهم. والعيب الخامس هو تعميم الشك على كل مستويات النص القرآني، فهم لا يكادون يفرغون من إسقاطاتهم المختلفة حتى يكونوا قد شرعوا هذا التشكيك تشريعا وقرروا الارتياب في النص القرآني وقدسيته وتماميته وصلاحيته، ولذلك تضطرب تحليلاته وتلتبس أحكامهم وتتعثر نتائجهم. وهكذا أظهر الدكتور طه عبد الرحمن أن القراءات الحداثية للآيات القرآنية لا تعدو أن تكون مجرد إسقاط، والإسقاط لا إبداع فيه. وبعد الانتهاء من هدم مزاعم القراءات الحداثية، انطلق الدكتور طه عبد الرحمن لتوضيح ما يلزم من كل هذا، داعيا إلى التحرر من وصاية المنقول والخروج إلى فضاء الإبداع وإنتاج قراءة حداثية مبدعة حقا وصدقا. هناك حقيقتان تاريخيتان أدركها الحداثيون المقلدون ثم صرفوهما عن وجهيهما -والقول للدكتور طه عبد الرحمن- الحقيقة الأولى هي أنه لا دخول للمسلمين إلى الحداثة إلا بقراءة جديدة للقرآن، إذ القرآن سر وجود الأمة المسلمة وسر صنع تاريخها، وذلك ما ابتدأ مع القراءة النبوية التي دشنت الفعل الحداثي الإسلامي الأول، ولا استئناف للوجود والتاريخ الإسلاميين، ولا تدشين للفعل الحداثي الإسلامي الثاني في هذا العصر، إلا بتجديد القراءة النبوية للقرآن، قراءة تكون قادرة على توريث الطاقة الإبداعية كما أورثتها القراءة النبوية المحمدية في عصرها. والحقيقة الثانية هي أن واقع الحداثة في الغرب قام على أساس مواجهة المؤسسات الكنسية التي مارست الوصاية الدينية على كل المجالات وتسببت في حروب دينية طويلة مزقت المجتمع كل ممزق. ترشيد التفاعل الديني وتجديد الفعل الحداثي ويترتب عن هاتين الحقيقتين حسب الدكتور طه عبد الرحمن نقطة في غاية الأهمية بخصوص الحداثتين الإسلامية والغربية، فإذا كانت الفعل الحداثي الغربي قام على أساس التصارع مع الدين، فإن الفعل الحداثي الإسلامي لا يقوم على أساس التصارع وإنما على أصل التفاعل مع الدين. والخطأ الجسيم الذي ارتكبه أدعياء الحداثة المنقولة هو إنكارهم لهذا التفاعل وإعراضهم عنه، ولو رعوه حق رعايته لكانوا من المساهمين في صناعة حداثة إسلامية مبدعة، إذ أن التفاعل مع الدين يولد لدى المسلم الطاقة الإبداعية، فبقدر ما تعتمل في صدره القوة الإيمانية تستعد ملكاته للإنتاج والإبداع. ومن هنا -يقول الدكتور طه عبد الرحمن- فإن قراءة القرآن قراءة مبدعة حقا لا تكون كذلك حتى تستوفي شرطين اثنين: 1 رعاية التفاعل الديني مع النص القرآني، أي ترشيد التفاعل الديني. 2 إعادة إبداع الفعل الحداثي المنقول، أي تجديد الفعل الحداثي. وأدهش الدكتور طه عبد الرحمن الحاضرين عندما قال يتم ترشيد التفاعل الديني بواسطة الفعل الحداثي نفسه، أي سأرشد الفعل الديني بواسطة الفعل الحداثي، وسأرشد الفعل الحداثي بواسطة التفاعل الديني الراشد، وذلك -كما فصل الدكتور طه عبد الرحمن- عن طريق الآلية التنسيقية الانتقادية في كل خطة من الخطط الثلاث المذكورة سلفا. فإذا كانت القراءة الحداثية المقلدة للقرآن الكريم قد سعت إلى إزالة عائق القدسية وعائق الغيبية وعائق الحكمية، فإن القراءة الحداثية المبدعة سوف تستبدل هذه الأهداف السلبية بأهداف إيجابية مستخدمة الوسائل ذاتها، وإذا كانت القراءة الحداثية المقلدة قد سعت دوما إلى الهدم، فإن القراءة الحداثية المبدعة سوف تسعى إلى البناء وهنا الاختلاف الجوهري بين القراءتين. التأنيس المبدع هذه هي الخطة الأولى للمضي نحو قراءة حداثية مبدعة تجمع بين الترشيد الديني والتجديد الحداثي، والتأنيس المبدع خطة لا تمحو القدسية، ولكنها تنشغل بتكريم الإنسان، وتنقل الآيات القرآنية من وضعها الإلهي إلى وضعها الإنساني الذي تنزلت إليه، إذ الإنسان خليفة لله فاز بغاية التكريم. وإذا كان التأنيس المقلد قد انشغل بدفع ما يتوهم أنه يضر بالأصالة الإنسانية، فإن التأنيس المبدع ينشغل بجلب ما ينفع هذه الأصالة، إذ أن تحقيق المنافع كفيل بدفع الأضرار والمفاسد، وعلى هذا يكون التأنيس المبدع أكثر تغلغلا في الحداثة من التأنيس المقلد. وبذلك تبطل المماثلة اللغوية التي زعمها أهل التأنيس المقلد في القرآن الكريم، إذ العبرة بالمضامين لا بالعبارات فحسب، فالمضمون العقدي هو المعيار المعتمد، ومن المعلوم أن الآيات القرآنية أحدثت -والقول لطه حرفيا- وما زالت تحدث تثويرا عقديا جوهريا لا يمكن أن يحدثه كلام غيره ولو بلغ من الكمال ما بلغ، إذ يرفع هذا المضمون العقدي مبدأ التوحيد إلى أعلى درجات التجريد الممكنة، وليس هناك نص أبدا بلغ ما بلغ القرآن في هذا التجريد للتوحيد. فإذن لا نظير للقرآن الكريم في حداثته اللغوية. التعقيل المبدع وإذا كان التعقيل المقلد ينشغل بدفع الغيبيات، فإن التعقيل المبدع ينشغل بتوسيع العقل ويتبنى التعامل مع الآيات القرآنية بكل وسائل النظر التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة، سعيا نحو توسيع نطاق العقل. وهذا التعامل العلمي مع القرآن الكريم لا يضعف التفاعل الديني في شيء متى تخلينا عن أسلوب الإسقاط عند العمل بهذه المنهجيات والنظريات الحديثة إذ يمكننا أن نظفر فيها بالأسباب المنهجية التي تستطيع أن تستكشف بعض المعالم المميزة للعقل الذي يختص به القول القرآني والذي ليس عقل الآلات وإنما عقل الآيات، وليس عقل النسب وإنما عقل القيم. وهكذا يستعيد العقل نوره ولكن ليس بانتزاعه من عالم الغيب، وإنما بتوسيع آفاقه ليدرك الآفاق القيمية. وحينئذ تبطل المماثلة الدينية التي أقامتها خطة التعقيل المقلد من وجهين أحدهما أن العقل في النص الديني توحيدي بينما هو في النص المادي وثني، وثانيهما أنه إذا سلمنا أن النصوص الدينية المنزلة إنما هي تجليات لوحي واحد كل تجلي يصدق الذي سبقه ويهيمن عليه، وجب أن يكون النص القرآني مهيمنا عليها جميعا فيفضلها عقلا. التأريخ المبدع أما خطة التأريخ المبدع، بدلا من التأريخ المقلد، فإنها وصل الآيات القرآنية بظروف بيئتها وزمنها وسياقاتها ترسيخا للأخلاق. وإذا كانت الظروف الأولى هي أول تحقق لهذه القيم والأخلاق، فإنه كلما تجددت الظروف والسياقات أمكن تجدد تحقق القيم والأخلاق، ويتجدد الإيمان بها، فتكون الآيات محفوظة بحفظ قيمها في مختلف الأطوار والأحوال... والتاريخ لا يستعيد اعتباره بمحو الحكمية، وإنما بالارتقاء بمفهوم الحكم، فلم يعد آية الحكم ينحصر فيما تأتي به من تشريع، وإنما يتسع لما يرمي إليه من هذا التشريع من تخليق، فيصبح للآية وجه قانوني وآخر أخلاقي مع تبعية الأول للثاني. وهكذا تبطل المماثلة التاريخية لأن للنص القرآني وضع لا يضاهيه فيه أي نص آخر باعتباره نصا خاتما يمتد في الزمن إلى ما وراء زمنه حتى يكون كل زمن أتى هو زمن تحققه، مؤهلا الإنسانية إلى تاريخية مستقبلية بدلا من التاريخية الماضوية. خلاصة استطاعت محاضرة الدكتور طه عبد الرحمن أن تنال الاعتراف لها بالتجديد والاستدلال القوي مما أثر في كثير من الحاضرين، ولا شك أن كثيرا من الأساتذة الذين انحازوا إلى الحداثة كما يروج لها حاليا قد أدركوا أنهم مقلدون ليس إلا، وأن بينهم وبين الإبداع أمدا بعيدا، ومن يدري قد تكون هذه المحاضرة سببا في التحرر من هذا التقليد والخروج من تلبيس وتدليس يزينه الإعلام والاستبداد الغربي. كما أن المحاضرة علامة فارقة في تطور الفكر الإسلامي وقدرته الفائقة على هضم المقولات والنظريات الجديدة وسرعة تجاوزها ليس بالوقوف عند نقدها وبيان عيوبها فحسب، ولكن بتقديم البديل المجد لها والمهيمن عليها، وذلك ما شهد به عدد من السادة الأساتذة الذين شاركوا في المناقشة، والذين توسلوا إلى الدكتور طه عبد الرحمن أن ينشر هذه المحاضرة القيمة حتى يستفيد منها أكبر قدر ممكن من الناس في الغرب وفي الشرق، وذلك ما سوف يفعله قريبا بإذن الله. حسن السرات