هوية بريس – ذ. الحسن شهبار تُعد إدارة الفصل من أعقد المهام على الإطلاق؛ لأن موضوعها الإنسان، والإنسانُ كائن مركب ومعقد يصعب الاشتغال عليه لإدراك كنهه وحقيقته، ويكمن هذا التعقيد في صعوبة إخضاعه للتجريب؛ فنحن لا يمكننا أن نُدخل الإنسان إلى المختبر المادي كما هو الشأن بالنسبة للمواد المحسوسة والملموسة، وهذا تنتج عنه عدة صعوبات، منها: صعوبة تحري الموضوعية والدقة، وكذا صعوبة استخلاص قوانين علمية وحلول عملية يمكن تعميها على الجميع، وبالتالي صعوبة التنبؤ بالمسارات المستقبلية والسيناريوهات المحتملة من أجل التحكم فيها. وهذا يقودنا إلى طرح سؤال مهم: ما مدى قابلية الإنسان للقياس؟ وبعبارة أخرى: ما مدى قابلية المتعلم للقياس؟ خصوصا إذا علمنا أن مجموعة الفصل تتصف بعدم التجانس؛ نظرا لاختلاف البيئة الاجتماعية والثقافية والأعراف التي ينشأ فيها كل متعلم. وإذا علمنا أن عددا لا بأس به من المدرسين أصبح يشتكي من سوء تصرف المتعلمين داخل الفصول الدراسية، ولأنه لا توجد قواعد علمية دقيقة تساعد المدرسين على حل هذه المشاكل؛ فإن كل مدرس يلجأ إلى معالجة تلك المشكلات حسب قدرته وحماسته وثقافته، فيصيب أحيانا ويخطئ أحيانا؛ حتى إذا اشتد عليه الأمر استسلم للواقع المر، وأصبح عنده في حكم اليقين أن هذه المشاكل لا حل لها؛ فينكفئ على نفسه يُعاني في صمت قاتل، ولا يجرؤ على البوح بمعاناته داخل الفصل لزملائه وأقرانه. إن هذه الأسباب وغيرها جعلتني أوقن يقينا جازما أن نجاح المدرس في عملية إدارة الفصل هي الخطوة الأهم لنجاحه وتميزه وإبداعه، ولذلك كانت هذه التوجيهات المتواضعة، وقد قسمتها إلى ثلاث نقط: النقطة الأولى: مركزية المتعلم في العملية التعليمية التعلمية: معلوم أن مكونات العملية التعليمية هي: المدرس، والمتعلم، والمادة التعليمية المدرسة. ومعلوم أيضا أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين قد تبنى التدريس بالكفايات، ومقاربة من هذا النوع تركز الأنشطة على المتعلم، وتجعله هو الفاعل الأساسي، ولذلك توجب أن تقوم كل الأنشطة البيداغوجية على مركزية المتعلم، وتفتح له المجال للمساءلة والبحث والاستكشاف وفق قواعد التفكير العلمي. وبالمقابل فقد أصبح المدرس مُسهلا لعمليات التعلم الذاتي عند المتعلم، وأصبح دوره له عدة أبعاد؛ فهو خبير في التعلم وطرق التدريس، وموجه ومرشد وميسر للتعلم، يقود ويساعد ويشرف على جماعة الفصل. ومن هنا تبدأ قصة المعاناة عند بعض المدرسين: كيف للمدرس أن ينجح في القيام بكل هذه المهام المتشابكة؟ وكيف له أن يضبط فصلا غير متجانس من أربعين تلميذا أو يزيدون؟ إن مهمة المدرس لم تعد محصورة في معلومات يمليها ويلقنها لتلامذته، ولم يعد مطالبا بضبط المادة العلمية التي يدرسها ضبطا جيدا فحسب؛ بل أصبح واجبا عليه أن ينجح في طريقة تقديم هذه المعارف، وفي طريقة إدارة فصله بشكل محكم لا يجعله يتسول مساعدة إدارته أو أي أحد من الناس. إن المدرس الذي يضبط المادة العلمية المدرسة ضبطا جيدا، ويصل فيها إلى درجة العالمية والمشيخة، لن يكون فنانا في عملية التدريس ولن ينجح فيها ما لم تكن لديه القدرة على تقديم معارفه بطريقة جيدة وجذابة وفعالة؛ ذلك أن التدريس علم وفن، فالمدرس لا من تمكنه من المعلومات العلمية الصحيحة، وهذا علم، وأما كونه فنا؛ فلإنه لا بد من وسائل توصل هذا العلم توصيلا جيدا وسهلا للمتعلمين. وبهذا تصبح مهنة التدريس مهنة ممتعة وشيقة، وإن كانت تتطلب إعدادا وصبرا وتخطيطا وتكوينا ذاتيا مستمرا. النقطة الثانية: إدارة الفصل والتفاعلات الصفية: تشكل حجرة الدراسة فضاء للعمل وتفاعل المجموعة الصفية، سواء على المستوى الفكري أو العاطفي، ويمكن للمدرس أن يسهم بأقصى ما لديه لتحقيق هذه الغاية، وذلك من خلال إدراك المعوقات التي تعترض العمل، والكشف عن الأشياء الإيجابية التي تشجع على بناء الثقة. ولذلك يجب على المدرس اكتشاف العناصر الداعمة والمحفزة لدينامية جماعة الفصل لأجل تنميتها وتشجيعها والتنويه بها، كما يجب عليه اكتشاف العناصر السلبية لأجل تقليصها والحد منها. وهنا نصل إلى حقيقة إدارة الفصل؛ فلإدارة التعلم داخل الفصل بشكل جيد لا بد من القيام بالمهمات التالية: * حفظ النظام داخل الفصل. * توفير المناخ العاطفي والاجتماعي الذي يشجع على التعلم. * ملاحظة التلاميذ ومتابعة تقدمهم وتقويمهم. وأهم النشاطات التي يقوم بها المدرس أثناء عملية إدارة الفصل هي: * المحافظة على الدافعية للتعلم عند التلاميذ. * توفير السلاسة في التعلم، وذلك عن طريق إعطاء المعلومات بشكل تدريجي. * المحافظة على تركيز المجموعة على الدرس وإدماج الجميع، وهذا يستلزم أن يتابع المدرس بعينيه كل تلميذ في الصف. * تجنب البدايات المتأخرة والنهايات المبكرة في تنفيذ الدرس. الثالثة: خطوات ومهارات لتدريب التلاميذ على الانضباط، وكيفية التعامل مع السلوك غير المقبول: علمنا أن جماعة الفصل هي جماعة منظمة تخضع لقوانين ضابطة، وكل مخالفة لتلك القوانين تؤدي إلى إجراءات تربوية أو تأديبية. وعلمنا أن المناخ الصفي هو أحد العوامل الرئيسة المؤثرة في نتائج التعلم، حيث أن هذا المناخ قد يرتبط بمثيرات تجعل التلميذ يستمتع بالحصة الدراسية، أو يرتبط بمثيرات أخرى تنفره وتدفعه إلى العزوف عن المادة التعليمية. ومع تقدم الموسم الدراسي نلاحظ أن بعض المدرسين تزداد حدة العلاقة بينهم وبين التلاميذ، وتتولد عنها مجموعة من المشاكل العلائقية التي تجعل المناخ الدراسي متوترا وحادا، خصوصا مرحلة ما قبل الامتحان وما بعده؛ حيث تنخفض معنويات التلاميذ، ويمكن أن تتطور إلى عدوان أو مواجهة أو عنف أو تمرد على المدرس والمدرسة. ويُمكن أن نقسم خطوات تدريب التلاميذ على الانضباط إلى قسمين: * خطوات قبلية احترازية استيباقية. * وخطوات بعدية علاجية تعزيرية أو تأديبية. فأما الخطوات القبلية فيمكن تلخيصها في الآتي: * المدرس كمسؤول تربوي يحتاج إلى فهم عميق وواضح لمشاعر التلميذ/المراهق وحاجاته، بغية تحقيق التواصل الإيجابي البناء معه، وتستدعي هذه المهارة القيام بمجموعة من المهام، أهمها: * يجب أن نتفق مع المتعلمين في أول حصة على القانون الداخلي للفصل، وهذه الحصة مهمة جدا، ويغفل عنها أغلب المدرسين، حيث نتفق على الحضور والغياب، والانضباط والعقوبات، ونظام المراقبة المستمرة، ونقطة الأنشطة المندمجة، ودروس الدعم والتقوية، وهكذا. وفي هذه الحصة يركز المدرس على مهارة الإنصات الجيد للمتعلمين؛ لأن ذلك يمنحه فرصة الدخول إلى قلوبهم والتأثير فيهم. كما يركز على مهارة الإقناع لأجل التأثير فيهم وقيادتهم، فيخاطب عقولهم وأفكارهم وعواطفهم. وفي هذه الحصة لا بد أن نضع الحدود التي لا يمكن تجاوزها أو الخروج عنها، ثم نقوم بشرحها وتوضيح مقاصدها، وأنها في صالح مجموعة الفصل، وأننا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتساهل فيها. وهنا يحرص المدرس على تجنب لغة الأمر المباشر؛ لأن الأمر يعني الإلزام ووجوب الفعل، والإلزام يعني الإكراه والإجبار، والتلميذ/المراهق يرفض الانصياع للأوامر المباشرة، ولذلك يجب أن نناقش الأوامر والنواهي في حصة الاتفاق على العقد الديداكتيكي، ونبين النتائج الإيجابية لهذه الأوامر والنواهي؛ فذلك أدعى لقبولها من طرف التلميذ، وبعد الانتهاء من مناقشتها نطرحها للتصويت عليها من طرف مجموعة الفصل، ورحم الله الإمام الصنعاني حين قال : "تعليل الحكم أدل على المقصود وأدعى للقبول". * يجب على المدرس أن يحافظ على صورته أمام التلميذ، وذلك بتنمية صفة الوقار وتجنب السفه والطيش؛ لأن عادة الناس ألا يسمعوا لمن لا وقار له. وهنا نسجل على بعض المدرسين عدم اهتمامهم باللباس والهندام وطريقة الكلام؛ إذ كيف يكون قائدا تربويا ناجحا، ويفرض احترامه على تلامذته من لباسُه وهندامُه أشبه بلباس المهرجين، وكلماتُه أقرب إلى عبارات المتشردين والمنحرفين. * أثناء تعامل المدرس مع تلامذته لا ينبغي له أن يركز على السلبيات ونقاط الضعف؛ بل يستحسن أن يشير برفق إلى الأخطاء التي وقعت، ثم يركز على الإيجابيات ويبرزها وينميها. وأنت أيها المدرس لن تعدم عند التلميذ شيئا مهْما كان، يحسنه ويتقنه. * يجب أن نتجنب أسباب إثارة الانفعالات السلبية لدى التلميذ، ومن هذه الأسباب: السخرية والاستهزاء، والتهديد بالخصم من النقط، والسب والشتم، وكثرة التأنيب واللوم، وأمثال هذه السلوكات المستفزة والمثيرة، كما نتجنب إنجاز فروض فجائية، أو التكليف بواجبات منزلية مُرهقة، خصوصا أيام العطل؛ لأن التلاميذ يتميزون بحساسية مفرطة إزاء انتقادات المدرس أو سيطرته، ويرتاحون أكثر لأسلوب التشجيع والحوار والإقناع. * يجب أن يحرص المدرس على إضفاء روح الدعابة والتشويق للمادة المدرسة، وتهييء المناخ النفسي المناسب القادر على تبديد الصعوبات التي تواجه الصف التعليمي، وذلك عن طريق إشراك جميع التلاميذ في كل خطوات العملية التعليمية بمن فيهم المنعزلون والمشاغبون والمتمردون، وكذلك عن طريق إحداث تغيير في روتين مسار حصة الدرس، مثل تغيير أماكن الجلوس، والعمل بالمجموعات الصغيرة والمتوسطة، وهكذا. وأما الخطوات البعدية، أي بعد وقوع السلوك غير المقبول؛ فيمكن أن نجملها فيما يلي: * لا بد من فهم السلوك فهما جيدا؛ ذلك أن تفهم أي مشكلة في العلاقات أو السلوك يشكل نصف الحل، وحينها يمكن أن نصنف هذا السلوك إلى: * سلوك يمكن التغافل عنه. * وسلوك يمكن تأجيل الحديث عنه. * وسلوك لا يمكن تأجيله أو السكوت عنه. فيكون رد فعل الأستاذ مساويا لدرجة خطورة السلوك، ويكون العقاب على قدر الخطإ؛ فمن صدر منه سلوك غير سوي للمرة الأولى ليس كمن صدر منه لعدة مرات، ومن نفعت معه نظرة أو إشارة أو تعريض لا يمكن أن ننتقل معه إلى مرحلة التشهير والتعنيف. * في حالة صدور مخالفة كنا قد رتبنا عليها تهديدا بالعقاب؛ فيجب أن ينفذ العقاب فورا ولا نتنازل مهما كان الثمن (مثل الغش، أو الإساءة للمدرس…). * عند وقوع سلوك قبيح يجب على المدرس أن يحافظ على هدوئه، ويتحكم في أعصابه، وأن يترك مهلة بين صدور الفعل وبين ردة الفعل، ولتكن هذه المهلة عبارة عن صمت ظاهري، يصاحبه ذكر لله تعالى واستعاذة من الشيطان الرجيم باطنيا، مع نظرات حادة نحو الشخص المسيء. * تجنب الصدام المباشر مع التلميذ المشاغب، وانفرد به في آخر الحصة، واطلب منه أن يشرح الفعل الصادر منه عن طريق فتح حوار هادئ معه؛ فتفهم من خلال ذلك مشاعره ودوافعه، وربما تساعده في حل مشاكله أو تظهر له عطفك ودعمك. واعلم أيها المدرس أن المراهق إنما يقوم ببعض الأعمال والحركات لأجل لفت النظر إليه؛ لأنه بذلك يريد تأكيد ذاته، وكثيرا ما يستعمل جسده كوسيلة من الوسائل للتعبير عن ذاته وإثباتها، وهذا يظهر لنا في التحدي والمقاومة ورفض الخضوع والانصياع؛ فهو يصر على ارتداء السراويل الممزقة، ويرفض ارتداء الوزرة، ويعمل كل أنواع قصات الشعر المرفوضة، كما أن بعض التلميذات يحرصن على إظهار بعض الأماكن الحساسة من الجسد؛ علما أن إدارة المؤسسة تمنع كل هذه السلوكات في قانونها الداخلي، وتخصم عليها نقطا من السلوك والمواظبة. ولذلك يجب أن نسائل أنفسنا: لماذا يمتاز سلوك المراهق بالمقاومة تجاه الأسرة والمدرسة، في حين يمتاز بالانصياع والانقياد لجماعة الأصدقاء؟ وهذا ما نجد له تفسيرا في المفهوم النفسي الحديث للمراهقة، حيث يرى أن تمرد المراهق على السلطة العائلية والمدرسية ينشأ بسبب جهل المشرفين والمربين بنفسية المراهق وخصوصيات مرحلته؛ فيعاملونه بطريقة خاطئة مما يضطره إلى الثورة على كل ما يُفرض عليه، ولذلك يرى هذا الاتجاه أنه حينما تكثر القيود والضغوط والأوامر على المراهق، فإن استجاباته تأخذ شكل التمرد والثورة، وحينما يلقى المراهق الفهم لدوافعه والتقبل لشخصيته يكون سلوكه سويا.