ذ. إبراهيم الطالب (أسبوعية جريدة السبيل) هوية بريس – الخميس 15 يناير 2015 لا تمر سنة أو سنتان حتى يخرج علينا أبناء الغرب «المتحضر جدا» بأصناف من الاعتداءات نصنفها نحن المسلمين في خانة الكراهية والعداء للإسلام والاستهزاء بمقدساته، بينما يُبَرِّئونها هم من كل شائبة، فيجعلونها تندرج لديهم في خانة حرية التعبير والإبداع؛ ثم ينقسم المسلمون بين مستغرَب يقلد المستهزئين في أهوائهم فيردد العبارات نفسها «حرية تعبير وإبداع»، وبين مسلم غيور على دينه ونبيه يشجب ويستنكر كل استهداف لمقدساته. حادثة «شارلي إيبدو»، وما تلاها من ملحمات سياسية، وتناقضات في المواقف، والتباس في التصريحات، واختلاف في القراءات، يتطلب منا وقفات للتأمل والتفكير بعمق، فلسنا ملزمين أن نبحث في حقيقة الأحداث من فبركتها، ولسنا معنيين بالدفاع عن صواب أو خطأ مرتكبيها، لأننا نعتبرها قضية فرنسية محضة، فالمقتولون فرنسيون، والقاتلون فرنسيون أيضاً، تربوا جميعا في بلاد الحرية، فنظام التعليم الذي خرَّج رسامي الكاريكاتور المعتدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذاته الذي تخرج منه قاتلوهم. فعَلمانية فرنسا هي المسؤولة عما حدث، بحيث لم تستطع استيعاب مواطنيها، وإقناعهم بوجهة نظرها للدين، ولحدود الإبداع والفن، كما أن نظام تعليمها فشل في إدماج شباب فرنسا في مجتمعهم، نظرا لأن الساسة الفرنسيين لم يستطيعوا أن يحققوا العدالة الاجتماعية كما يُنَظّرون لها، ولم يستطيعوا أن يفرضوا المساواة بين الفرنسيين، إذ الطابع العام أن المسلمين دائماً مهمشون مقصيون، ونساؤهم وبناتهم يُكْرهن على خلع الحجاب والنقاب في المؤسسات العمومية، بل بلغ الأمر أن اضطر عدد من المسلمين إلى تغيير أسمائهم العربية أو الإسلامية ليحملوا أسماء فرنسية حتى يتم قبولهم في مقابلات التوظيف. فالمشكل هو مشكل فرنسا مع مواطنيها، فهي التي أخذت آباء وأجداد أجيال اليوم من الفرنسيين المسلمين، ليحاربوا بدلا عن أبنائها الأصليين في القرن الماضي، والباقي جوعتهم في بلدانهم التي احتلتها واستنزفت ثرواتها فهجَّرتهم أو هاجروا إليها لبناء اقتصادها المنهار بعد حربين عالميتين كانت شعوبنا الإسلامية وقودهما. ولا تزال مقبرة باريس تحتفظ برفاة الآلاف من المسلمين الذين تحمل شواهدُ قبور من لم يُعرف اسمه عبارة: «IL est mort pour la France»، «مات من أجل فرنسا». المسألة تهم الفرنسيين، وهي امتحان صعب لتطرف العلمانية الفرنسية، ولو لم يُمس النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسيرات المؤيدة للجريدة المعتدية، ولو لم تصر على حرب المسلمين ودينهم ما اكترثنا لها، ولا وضعنا أسود على أبيض في تحليل واقعتها، التي نعتبرها ونسميها: «فخ الحرية والإبداع»، وذلك لأنها فعلا فخ للسذج والمستغربين. فأنت إذا نصرت النبي صلى الله عليه وسلم نعتك العلمانيون في الداخل والخارج بالرجعية والحرب على الفن والعداء للإبداع، ورموك بمساندة الإرهاب والتطرف، وإذا ساندت الجريدة البتراء تكون ساندت المستهزئين برسول الرحمة، المعتدين على مليار ونصف المليار من المسلمين، ووقفت جنبا لجنب مع السفاح مجرم الحرب الإرهابي الصهيوني «النتن ياهو» قاتل الآلاف من النساء والأطفال بلا رحمة في غزة. واقعة شارلي كشفت خبث الغرب الذي يلعب بمفهوم الإرهاب حتى يتمكن من حرب الإسلام دون أن يوقظ المسلمين، حيث رفض رئيس فرنسا هولاند مشاركة الإرهابي «النتن ياهو» في المسيرة/المظاهرة، حتى لا يشغب حضوره على أهداف السماح الاستخباراتي بتنفيذ عملية «شارلي»، لكن أبى الله سبحانه إلا أن يكون وجود هذا المجرم في الصف الأول مع «ميركل» و«هولاند» وقادة الغرب المتحالفين ضد الإسلام، ليعطي البينة لمن له عقل أن كل قادة الغرب سواء، مثلهم مثل «النتن ياهو» الذي يعتبر قائدا للإرهاب ضد المسلمين، وفي الوقت نفسه، المنظر الأول لمحاربة الإرهاب حيث قام بتأليف عدة كتب منها: «الإرهاب؛ كيف يحقّق الغرب الانتصار» (1986)، و«الإرهاب العالمي: التحدي والرد» (1991)، و«مكافحة الإرهاب: كيف تستطيع الدول الديمقراطية إلحاق الهزيمة بالإرهاب المحلي والعالمي؟» (1995). ولا يسعنا هنا إلا أن نشيد بذكاء النظام المغربي وحكومة المغرب، حيث امتنعت من المشاركة في هذه المظاهرة الفخ. بينما سقط فيها ابن الإنجليزية عاهل الأردن، وكثير من السياسيين من الوطن الإسلامي للأسف. ليست مساندة حرية «شارلي» شجب ممارستها للفن المسيء للنبي صلى الله عليه وسلم وحدها هي ما يعتبر فخا، بل أغلب الأسس الحداثية هي في وقتنا اليوم في ظل العلمانية المهيمنة على تشريع القوانين وعلى الإعلام والتعليم هي بمثابة فخاخ، فقد أصبح لدينا فنانون وسياسيون وحقوقيون يدافعون عن ممارسة الزنا حتى لا يسقطوا في فخ مناقضة مبادئ احترام الحرية الفردية بمفهومها الغربي، ويدعمون المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة حتى لا يسقطوا في فخ انتهاك حقوق المرأة، وآخرون تجاوزوا، فقالوا بحماية حقوق السحاقيات واللواطيين وسن القوانين المنظمة لحقهم في ممارسة ميولاتهم الجنسية، حتى نكون ديمقراطيين وحداثيين وفق ما هو متعارف عليه دوليا. واقعة «شارلي» كافية لمن له عقل من سياسيينا ومثقفينا لإعادة النظر في الكثير من المصطلحات والمفاهيم والنظم الوافدة من الغرب، والمهربة إلى مجتمعنا إما تحت الضغط الغربي على الدولة، أو بالرشوة التي تقدمها الدول الغربية للجمعيات العَلمانية، مثل الحداثة والليبرالية والعَلمانية والحرية الفردية وحرية الإبداع، هي كافية لأولي الألباب لمراجعة الحدود بين الخصوصية والانفتاح، وبين المقدس والإبداع، وبين الإلهي والإنساني، كافية لتجعلنا جميعا نعيد قراءة القرآن والسنة القراءة الصحيحة التي لا تقبل بهذا الفصل المستشنع بين الديني والسياسي. أما الدول الغربية فلا تريد أن تتقبل حقيقة أن شعوبها تتحول من اللادينية إلى الإسلام، إنها تحاول جاهدة أن تحارب الإسلام في عقر دارها، ومن المؤكد أنها ستستغل واقعة «شارلي» حتى تحارب بالديكتاتورية أسلمة أوربا، التي تؤكد إحصائيات دولها الرسمية، أن قارتهم لن يبقى لها وجود كقارة مسيحية، وأن شعوبها إن بقيت على هذه الوتيرة المرتفعة من الدخول في الإسلام، مع عدد مواليد الأوربيين المسلمين المتزايد باضطراد، مقابل عدد المواليد من ديانات أخرى، بالإضافة إلى إباحة زواج اللواطيين والسحاقيات المانع جذريا من التكاثر، فستصبح دول القارة الأوربية إسلامية باعتبار ديانة شعوبها وذلك في متم سنة 2050، وما على المتشككين إلا أن يطلعوا على إحصائيات ألمانياوفرنسا وهولندا وبلجيكا. إن الخوف الحقيقي على الإسلام ليس من أعدائه فهو ينتشر بينهم بدون سيف ولا رصاص، بل المقلق هو جهل بعض أبنائه بربهم ودينهم، وبُعدهم عن اقتفاء هدي نبيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وامتثال سنته المطهرة، التي لما لزمها المسلمون حكموا العالم إلا قليلا، ولما تنكبوها ضلوا عن مواطن القوة ومكامن المنعة، فتداعت عليهم الأمم، فنزع الله المهابة منهم من صدور أعدائهم، وقذف في قلوبهم الوهن الذي عرفه النبي صلى الله عليه وسلم ب: «حب الدنيا وكراهية الموت». والمراد هنا ليس كراهية الدنيا وحب الموت، بل المقصود أن لا يتمكن حب الدنيا من قلوب المؤمنين تمكنا يجعلهم يفصلون بينها وبين الآخرة، فينظمون شؤونهم فيها وفق أهوائهم فيصوغونها قوانينَ يُحكّمونها بينهم، تخالف ما أنزل الله على رسوله من حق وهدى، غير عابئين بمخالفة شريعة الله ولا حافلين بأمره ونهيه، إذ الواجب أن تساس الدنيا بالدين حتى تفضي الحياة في الدنيا إلى سعادة الآخرة. وبالرجوع إلى القرآن الكريم نجد أن السخرية والاستهزاء برسل الله ومقدسات المؤمنين كانت عبر التاريخ سنة أعداء النبيين والمرسلين، قال سبحانه: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون» الأنبياء. ولم تتخلف هذه السنة مع رسول الهدى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لكن الله سبحانه كفى نبيه أمر المستهزئين من غير المسلمين، فقال سبحانه: «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» الحجر. ويندرج تحت هؤلاء كل من رام النيل من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة. وفي غزوة تبوك لما اشتد على المنافقين الحر وبعدت عليهم الطريق ارتأوا أن يُرَفِّهوا عن أنفسهم بالإبداع في الكلام بكل حرية، وأول ما تحرروا منه القيود الشرعية وعلى رأسها تعظيم المقدسات، ولأنهم لم يكونوا على علم بفن الكاريكاتير، حاولوا أن يبدعوا بحرية تماثل حرية التعبير بالريشة، فرسموا للصحابة ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صورا في مخيلاتهم عبر أحدهم عنها بقوله: «ما رأينا مثل قرّائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء»! فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق! لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب(*) ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب! ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) سورة التوبة. ولنلحظ كيف سمى المنافقون عملهم الدنيء خوضا ولعبا، في حين لم يقبل الله ورسوله التسمية ولا الاعتذار، فسماه سبحانه استهزاء موجبا للكفر والنفاق، (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ). فكانت هذه الواقعة درسا بليغا رُسمت فيه حدود ضبطت سلوكيات المسلمين ووضعت فيه مفاهيم الخوض واللعب وحكمهما إذا تَعَلّقا بالمقدسات. فاللعب ومثله الفن أو الإبداع لما بلغ مستوى الاستهزاء بالمقدسات خرج عن كونه ترفيها جائزا، ودخل إلى دائرة المحرم الموجب لسخط الله. فكم من صور الاستهزاء بالدين وأهله تمر أمام أعيننا في الصحف والمجلات التي يديرها مسلمون، وكم من مشاهد يحارب بها الدين والمتدينون، ويستهزأ فيها بأحكام الدين، يسوغها أصحابها بتسميتها فنا وإبداعا وحرية رأي، وإذا انتقدوا وذكروا بالله قالوا: وما دخل الدين في الصحافة والفن؟ جريا على منهج الغرب العلماني الذي اعتبر الرسوم الكاريكاتيرية فنا وحرية تعبير. فلا خوف إذًا من حرب أعداء الإسلام المكشوفة فهي لا تزيد أهله إلا شدة وقوة، فقد صدق من قال: «الإسلام إذا حاربوه اشتد، وإذا تركوه امتد..». وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. [email protected] (*) الحَقَبُ مُحَرَّكَةً: الحِزَامُ الذي يَلِي حَقْوَ البَعِيرِ أَو هو حَبْلٌ يُشَدُّ بهِ الرَّحْلُ في بَطْنِهِ أَي البَعِيرِ.