هوية بريس – نبيل غزال فجأة أثيرت زوبعة حول الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح، وذلك بعد أن جمع مغمور منتسب للصحافة، لم يتجاوز في مسيرته الدراسية مستوى الابتدائي، أوراقا وطبعها في "كتاب" ادعى في عنوانه أنه سينهي أسطورة البخاري..! بعد ذلك خرجت مجموعة من المنابر وبعض الكتاب ليدافعوا عن المنشور ويرفعوا وتيرة الهجوم، من نقد صحيح البخاري إلى نقضه، ومن اتهامٍ لمرجع واحد من مراجع السنة إلى مهاجمة السنة كلها ورميها بالأساطير والخرافات، واعتبار باقي الأحكام الشرعية بالية متجاوزة؛ لم تعد تصلح لواقعنا بل باتت تعطل عجلة النمو والانتقال الحداثي. فما نعيشه هو عدوان شرس واستهداف صريح للدين كله، تولى كبره تيار لطالما دعا إلى احترام قناعات الناس وعقائدهم، حتى وإن عبدوا الأحجار والأشجار والأشخاص، تيار لطالما حرم منظروه استهداف مراجع ورموز الآخرين، بدعوى قبول الاختلاف والتنوع داخل المجتمع الواحد.. هذا التيار تتغير بل تنقلب مبادئه وأصوله مائة وثمانين درجة إن تعلق الأمر بمرجعية المسلمين وبالمنتسبين للسنة بصفة أدق، فتجده يقصي ويحارب، ويوالي ويعادي، ويسعى إلى فرض نموذجه على الآخرين بالعنف والإكراه والقوة والاستقواء بالمنتظم الدولي وجهات أجنبية. إن النقاش الذي نحن بصدده اليوم أكبر بكثير من أن يقتصر على طعن شخص بعيد كل البعد عن عالم الفكر والمعرفة في كتاب تجاوز القنطرة عند المتخصصين من علماء الحديث، وتلقته الأمة على اختلاف مذاهبها بالقبول، وأولته العناية اللائقة به كمرجع من مراجع الشريعة الإسلامية.. النقاش ليس أيضا حول بعض الأحاديث التي استحالتها عقول المنتسبين للعلمانية، وهي بالمناسبة أحاديث بسط الكلام حولها قديما وحديثا، وذلك بعد أن حاول مستشرقون ولادينيون، غربيون وعرب، المرور عبرها للطعن في صحيح البخاري من جهة، والقرآن وباقي كتب السنة من جهة أخرى، وقد باءت محاولاتهم بالفشل الذريع. النقاش الحقيقي هو موقف التيار العلماني من النبوة أصالة، هل يؤمن المنتسبون إليه بأن محمدا -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، وأن ما جاء به في التوحيد والتشريع والعقائد والعبادات حق؟ هل يقفون إزاء ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موقف المستسلم المنقاد، أم المستكبر المعاند؟ هل يؤمنون بأن الله تعالى حفظ الذكر (القرآن والسنة) من التحريف والتبديل، أم لا؟ هل يعتقدون أن الإسلام هو الدين الخاتم الذي لن يقبل الله من الإنسان يوم القيامة غيره؟! بعد الجواب عن هذه الأسئلة المحورية في النقاش يمكننا بعد ذلك أن ندلف إلى مناقشة الجامع الصحيح للإمام البخاري، ولماذا يعتبر هذا الكتاب لدى المسلمين أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، وأصح كتاب جمعه إنسان، وما انتقده الدارقطني وأبي مسعود الدمشقي وأبي علي الغساني عن الجامع الصحيح، وما قد تحار فيه العقول من أحاديث تضمنها هذا الكتاب. أما الاشتغال بشبه من لا يؤمن بالوحي أصلا، ويتوارى حول العلوم الإنسانية والمستجدات العلمية والوقتية، ويحكّم عقله النسبي القاصر على وحي الله المطلق الشامل، ويخرج بوجه صلف ليخبرنا بأن من حق المتخصصين في كل الأبواب تناول هذا المرجع الحديثي بالنقد والمساءلة، وأن هذه الأحاديث يقبلها العقل والمرجعية الغربية لحقوق الإنسان وهذه لا يقبلها، فهذا مضيعة للوقت وإهدار للجهد فيما لا طائل تحته، فكل يناقش الموضوع من زاويته ومن مرجعيته التي يعتقد أنها الحق. ورحم الله العلامة المحقق ابن قيم الجوزية إذ قال: (المعارضة بين العقل ونصوص الوحي، لا تتأتى على قواعد المسلمين المؤمنين بالنبوة حقا، ولا على أصول أحد من أهل الملل المصدقين بحقيقة النبوة، وليست هذه المعارضة من الإيمان بالنبوة في شيء، وإنما تتأتى هذه المعارضة ممن يقر بالنبوة على قواعد الفلسفة) (الصواعق المرسلة 3/955). إن من يحارب الخرافة والأسطورة لا يتحالف مع غلاة الصوفية ويحيي عبادة القبور والموتى ويذكي الدجل والاعتقاد في الأقطاب والأوتاد والنجباء والأبدال، ويؤلف في ذلك الكتب ويعقد الندوات، ويحيي تراث ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين وجلال الدين الرومي. من يحارب الخرافة لا يسكت عن انتهاكات حقوق الإنسان في المواسم والزوايا، ويشجع على سلوكات حاطة بالكرامة الإنسانية. من يحارب الخرافة لا يقبل باستبداد الولي واستغلال الفقراء والضعفاء والسطو على أموالهم بدعوى تقديم القربان للضريح. للأسف من يزعمون أنهم يحاربون الأسطورة والخرافة هم أكثر الناس دعما لها ولأهلها، وهذا ليس وليد اليوم فقد عني المستشرقون قديما عناية بالغة برموز التصوف وكتبهم في القرن التاسع عشر، بل إن لهم قدم السبق على معاصريهم من المتصوفة في تحقيق ونشر الكثير من تراث التصوف، ويذكر الدكتور عمر الشرقاوي في كتابه (الاتجاهات الحديثة في دراسة التصوف الإسلامي) أن أول كتاب نشره المستشرقون عن التصوف كان عام 1821م للألماني "تولك" بينما بدأ الباحثون المسلمون في الربع الأول من القرن العشرين، متتلمذين على بحوث الغربيين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وخص المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون رسالته لنيل شهادة الدكتوراه للحلاج، ونشرَ ديوانه مع ترجمته إلى الفرنسية وكذلك "مصطلحات الصوفية" و"عذاب الحلاج، شهيد التصوف في الإسلام"، و"الطواسين"، كما كتب عن بن سبعين، ولازال هذا الاعتناء برموز التصوف مستمرا إلى اليوم، حيث ألف نصر حامد أبو زيد كتابا بعنوان: «هكذا تكلم ابن عربي»، وقد اعتنى بابن عربي لأنه يمثل بالنسبة له "همزة وصل بين التراث العالمي والتراث الإسلامي". طبعا؛ أنا لا أتحدث عن كل الصوفية وإنما عن غلاتهم، فيوجد من المنتسبين للتصوف من لديه وعي كبير بالتوظيف الغربي والاستغلال العلماني للتراث الصوفي، لكن على العموم فالتدين الفرداني لدى الصوفي، وبُعده عما يدور حوله سياسيا واجتماعيا وفكريا، وقبوله بالذوبان في بوتقة الآخر الغربي، وقابليته للتخلي عن كثير من الأصول الشرعية التي تشكل إزعاجا لدى المتبنين للمنظومة الغربية، إضافة إلى عقيدة الحلول والاتحاد التي تسقط معها كل التكاليف الشرعية ويغيب معها مفهوم الحلال والحرام، والولاء والبراء.. عوامل ساعدت وأسهمت في دفاع التيار اللاديني، ومن قبله المستشرقون ومراكز الدراسات الغربية، عن الصوفية، وغضهم الطرف، بل إيجاد مبررات، لعدد من أساطيرهم وخرافاتهم التي لا يقرها شرع ولا عقل ولا فطرة سليمة. توفي البخاري رحمه الله نهاية القرن الثالث الهجري، وبالضبط (256ه/869م) ولازال كتابه إلى اليوم يطبع ويقرأ ويشرح ويدرس، بل يترجم إلى لغات أخرى ويلقى قبولا في العالم أجمع، وما ضرّه طعن المغرضين، ولا افتراء المستشرقين، ولا جناية العلمانيين اللادينيين.. سيبقى البخاري شامخا.. وستمر الأيام والسنون بسرعة، وسنتذكر بعدها ونتندر أنه جرى في سنة كذا أن طعن نكرة لم يتجاوز مستوى الإعدادي في الجامع الصحيح للإمام البخاري.