الصحافيون الشرفيون المتقاعدون يسلطون الضوء على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية    التضخم السنوي في المغرب يسجل 2.4% في 2024    ارتفاع أسعار الذهب لأعلى مستوى في 11 أسبوعا وسط ضعف الدولار    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    "أزياء عنصرية" تحرج شركة رحلات بحرية في أستراليا    الكاف يؤكد قدرة المغرب على تنظيم أفضل نسخة في تاريخ كأس أمم إفريقيا    إحباط محاولة تهريب تسعة أطنان و800 كلغ من مخدر الشيرا وتوقيف ستة مشتبه فيهم    مراكش: توقيف 6 سيدات وشخص لتورطهم في قضية تتعلق بالفساد وإعداد وكر لممارستة    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    وهبي: مشروع قانون المسطرة الجنائية ورش إصلاحي متكامل له طابع استعجالي    تصريحات تبون تؤكد عزلة الجزائر عن العالم    حماس تنعى منفذ عملية تل أبيب المغربي حامل البطاقة الخضراء الأمريكية وتدعو لتصعيد المقاومة    ترامب يصفع من جديد نظام الجزائر بتعيين سفير في الجزائر يدعم الموقف المغربي في نزاع الصحراء    أبطال أوروبا.. فوز درامي لبرشلونة وأتلتيكو يقلب الطاولة على ليفركوزن في مباراة عنيفة    شح الأمطار في منطقة الغرب يثير قلق الفلاحين ويهدد النشاط الزراعي    تداولات الإفتتاح ببورصة الدار البيضاء    تنفيذا للتعليمات الملكية.. تعبئة شاملة لمواجهة موجة البرد في مناطق المملكة    الجفاف وسط البرازيل يهدد برفع أسعار القهوة عبر العالم    وزارة التربية الوطنية تبدأ في تنفيذ صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور موظفيها    الدريوش تؤكد على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للمضاربات في سعر السردين    عادل هالا    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    رئيس جهة سوس يقود حملة انتخابية لمرشح لانتخابات "الباطرونا" خلال نشاط رسمي    فرنسا تسعى إلى توقيف بشار الأسد    بنما تشتكي ترامب إلى الأمم المتحدة    كيوسك الأربعاء | الحكومة تنهي جدل اختصاصات كتاب الدولة    خديجة الصديقي    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    الكشف عن النفوذ الجزائري داخل المسجد الكبير بباريس يثير الجدل في فرنسا    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    توقعات طقس اليوم الأربعاء بالمملكة المغربية    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    نقاش مفتوح مع الوزير مهدي بنسعيد في ضيافة مؤسسة الفقيه التطواني    الكنبوري يستعرض توازنات مدونة الأسرة بين الشريعة ومتطلبات العصر    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    أمريكي من أصل مغربي ينفذ هجوم طعن بإسرائيل وحماس تشيد بالعملية    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"العدل والإحسان" ومرشدها بين حقائق الواقع وأوهام السيد ادريس هاني 3/4
نشر في هسبريس يوم 10 - 02 - 2012


بسم الله الرحمن الرحيم
"التصوف" أم"الإحسان" أم "سلوك الحلاج"
لست أدري لماذا اختار السيد إدريس هاني أن يماثل بين حركة السيد عبد السلام ياسين وبين حركة شخصين انتهت حياتهما بالقتل هما "الروكي بوحمارة" و"الحسين بن منصور الحلاج"،فهل خرج "التوقيع الشريف" بأن ياسين سيلقى نفس المصير؟ أو هو تمنٍّ لأن يلقى نفس المصير؟ وهل ثمة أوجه شبه بين "سلوك الحلاج" والسلوك التربوي الذي رسمه مرشد"العدل والإحسان" للجماعة؟ والإجابة على هذه الأسئلة يقتضي التدقيق في التصور التربوي للجماعة حتى يفهمه السيد هاني جيدا إن كان نشدان الحقيقة هو هدفه وبغيته،لنبدأ بسلوك الحلاج،فبضدها تتميز الأشياء،ولد الرجل المثير للجدل سنة 244ه وقتل سنة 309ه ،بنى نهجه الصوفي على جملة أمور:
- أخذ النفس بالزهد والتقشف الشديدين،وتعمد التعرض لحر الشمس وقر البرد،ومخالفة أوضاع الناس العادية في النوم والجلوس
- الانعزال والعزلة عن المجتمع
- التعبير عن أحواله وخياراته بلغة ملتبسة ومفتوحة على بحر من التأويلات
- النظر إلى العالم بمنظار اتحادي حلولي
عن أبي يعقوب التهرجوري قال :"دخل الحلاج مكة أول دخلة وجلس في صحن المسجد سنة لم يبرح من موضعه إلا للطهارة والطواف ولم يحترز من الشمس ولا من المطر وكان يحمل إليه في كل عشية كوز ماء وقرص من أقراص مكة وكان عند الصباح يرى القرص على رأس الكوز وقد عض منه ثلاث عضات أو أربعة فيحمل من عنده "1،إن هذه الأنماط والأشكال ليس لها علاقة من قريب ولا من بعيد بالتسليك التربوي لأنها تجافي سنة المربي الأعظم عليه الصلاة والسلام،ولا يصح إطلاق اسم السلوك عليها أصلا،لأن السلوك طريق شاق وطويل والفرق بينه وبين"التصوف التبركي" كالفرق بين الشجرة التي تتعهد بالسقي والتشذيب فتثمر وتنفع الناس،والشجرة التي تنبت في البرية لا يتعدى نفعها أن تصير كلأ للبهائم والحيوانات.
نقف الآن على قياسات السيد هاني لسلوك"العدل والإحسان" على ما سماه "سلوك الحلاج" لنستنطق نصوص مرشدها لنرى:
- هل يعتمد السيد ياسين أساليب العزلة والدروشة في تصوره التربوي؟
- هل يقول بالحلول والاتحاد؟
- هل يستخدم لغة ملتبسة للتعبير عن مواقفه؟
السيد هاني حسم أمره وأجاب دون أن يستنطق أي نص ،وهذه مقتطفات من إجاباته:
- "ولطالما استهوت شيخ الطريقة السياسية في تنظيم العدل والإحسان عادة إسداء النّصيحة إلى من يهمّه الأمر بتألّه حلاّجي"
- " دخل السيد ياسين السياسة من غير مدخلها الطبيعي: تدبير المدينة، فخلط بين معنى تدبير النفس وتدبير العقل وتدبير المدينة.،فكان أن خلط أخماس بأسداس و أسس طريقة سياسية تعمل على منحى الدّروشة والسلوك من دون إعمال عرفان ونظر".
- "حينما تصبح الدّولة المدنية شطحة حلاّجية"
- "هل يعلم شيخ جمعية العدل والإحسان أي خطر على الإسلام وصواب العقل المسلم من اقتحام عقبة السياسة بمفاتيح الدّروشة ورابطة الشّيخ والمريد"
- " والوعكة في مسالك السلوك صعبة مستصعبة،ومنها أن يقف السّالك في منتصف الطريق فيكون أمره حلاّجيا لا يجد غضاضة في أن يعلن أنه هو الله،حينما تتضخّم الأنا يحبط السّفر على مشارف الفناء،والحلاّج لم يستشعر الفناء إلا كذبا،إذ لم ينس أناه وهو ينادي: أنا الله،ولا أتردّد في اعتبار تجربة السيد ياسين نطّا حلاّجيا لم تكتمل معه السفرات الأربعة التي تعيد الصّواب للسّالك وتعيد له صحوه وتجعله يجري في عالم يمتد من الخلق بلا قيد إلى الخلق بالحقّ".
- " المصيبة أن الرحلة الحلاّجية للشيخ ياسين من شأنها أن تحدث حصرا في المعقول السياسي، وهو سبب يبعث على هذه النزعة الرفضوية المستدامة المخيّمة على الجماعة"
إجابات ولا إحالة واحدة ولو على نص واحد يشهد لهذه الاستنتاجات ويبين المنحى الحلاجي المدَّعى في كتابات مرشد الجماعة،بل مجرد مزج غريب بين اصطلاحات ذات حقول دلالية متباينة،فما العلاقة بين الدولة المدنية و"الشطحة الحلاجية"؟وما العلاقة بين تجربة السيد ياسين و"النط الحلاجي" مع العلم أن جل تراث الحلاج نثرا وشعرا كان يدور حول موضوع واحد هو"التوحيد"(بحسب فهمه هو)؟وما العلاقة بين إسداء النصيحة و"التأله الحلاجي"؟ أما إجاباتنا فتقتضي رسم أمور:
أولا:الوضوح وفخاخ اللغة
إن الكثير من الاختلاف حول التصوف له ارتباط قوي باللغة،سواء من حيث تسمية"التصوف"نفسها،أو من حيث التعابير التي يفصح بها المنتسبون إليه عن مشاعرهم وأفكارهم،ولقد استُحدثت في تاريخنا عدة مصطلحات شكلت متاريس مفهومية حالت دون النفاذ إلى حقيقة ولب كثير من العلوم،وهذا ما يسميه السيد عبد السلام ياسين بجناية المصطلحات،ومنها مصطلح "التصوف"،والمعروف أن الخلاف التاريخي الذي استحكم بين الفقهاء والمتصوفة من أهم أسبابه "جناية المصطلحات" وهو ما أكده السيوطي رحمه الله بقوله:"واعلم أن دقائق علم التصوف لو عرضت معانيها على الفقهاء بالعبارة التي ألفوها في علومهم لاستحسنوها كل الاستحسان،وكانوا أول قائل بها،وإنما ينفرهم منها إيرادها بعبارة مستغربة لم يألفوها"2.
والانحراف الذي طال اللغة التي عبَّر بها بعض المتصوفة عن المعاني التي يرومونها هو "الشطح"، وقد قال أبو حامد الغزالي في تعريفه: "الشطح نَعْنِي به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية، أحدُهما الدعاوي الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المُغني عن الأعمال الظاهرة، حتى ينتهِي قوم إلى دعوَى الاتحادِ وارتفاعِ الحجابِ والمشاهدةِ بالرؤية والمشافهة بالخطاب. فيقولون: قيل لنا كذا، وقلنا كذا، ويتشبَّهون بالحلاج الذي صُلِبَ لأجل إطلاقِه كلماتٍ من هذا الجنسِ، ويستشهدون بقوله: أنا الحق، وبما حُكِي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: سبحاني سبحاني(...) الصنف الثاني من الشطح كلماتٌ غير مفهومة، لها ظواهر رَائِقَةٌ، وفيها عبارات هائلة، وليس وراءَها طائل(...) ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يُشَوِّشُ القلوب، ويُدهش العقول، ويحيِّرُ الأذهان"3
ولِزَجر المعجبين بهذه الشطحات قال الإمام الرفاعي:" أي سادة! تقولون: قال الحارث! قال أبو يزيد! قال الحلاج! ما كان الحال قبل هذه الكلمات؟! قولوا: قال الشافعي، قال مالك، قال أحمد، قال نعمان. صححوا المعاملات البَيْنِيَّة، وبعدها تفكهوا بالمقالات الزائدة. قال الحارث وأبو يزيد لا ينقص ولا يزيد! وقال الشافعي ومالك أنجح الطرق وأقرب المسالك. صححوا دعائم الشريعة بالعلم والعمل وبعدها ارفعوا الهمة للغوامض من أحكام العلم وحكم العمل...لا أقول لكم:تفلسفوا، ولكن أقول لكم : تفقهوا؛ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"4 . وحمل التغالي في التعميم البعض على تكفير جميع المتصوفة لأن من بينهم الممخرقين والقائلين بالاتحاد والحلول والتعطيل وأصحاب الشطحات،ولقد كان ابن القيم رائعا لما تنزه عن ذلك التعميم الظالم فقال: "وهذه الشطحات (شطحات بعض الصوفية) أوجَبَتْ فتنة على طائفتين من الناس، إحداهما حُجِبت بها محاسنُ هذه الطائفة (الصوفية)، ولُطْفُ نفوسهم، وصدق معاملاتهم. فأهْدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساءوا الظن بها مطلقا. وهذا عدوان وإسراف، فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملةً، وأهْدِرت محاسِنُه، لفسدت العلوم والصناعات والحِكَمُ، وتعطلت معالمها،والطائفة الثانية حُجِبوا بما رأوه من محاسن القوم، ولكفاء قلوبهم، وصحَّة عزائمهم، وحسن معاملاتهم، عن رؤية عيوب شطحاتهم ونقصانها. فسحبوا عليها ذَيْلَ المحاسن، وأجْرَوْا عليها حكم القبول والانتصار لها. واستظهروا بها في سلوكهم،وهؤلاء أيضا معتدون مفرطون، والطائفة الثالثة - وهم أهل العدل والإنصاف- الذين أعْطَوْا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح. بل قَبِلوا ما يُقْبَل، وردوا ما يرد"5
ولذلك فالأستاذ ياسين لا يريد أن يثير معركة حول الأسماء فيقول:" لست أدعو إلى التصوف، ولا أحب الاِسم والشكل لأني لا أجدهما في كتاب الله وسنة رسوله"6،ويستعيض عنه بالمصطلح النبوي"الإحسان"،فالتصوف الحقيقي والخالص من الزوائد البدعية ليس شيئا آخر غير مجاهدة النفس للترقي في مدارج الإيمان والسعي إلى تحصيل المرتبة الثالثة في الدين:مرتبة "الإحسان" التي هي "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"،وذلك السعي يتطلب حركة جماعية مقتحمة هاجمة على الواقع بأدوات الوقت،يحدو أفرادها تحقيق خلاصين اثنين:خلاص فردي يهم الفرد،وخلاص جماعي يهم الأمة والمجتمع،فأين شطح الحلاج من هذا يا سيد هاني؟
"السلوك الاقتحامي" و"التبرك الدروشي"
لقد حدث تطور خطير آل بمعاني الإحسان والتطهر والتزكية إلى نوع من "تصوف الرسم" كما سماه بعض العلماء،ويقصد بصوفية الرسم المتشبهون والمتبركون والمنتسبون بالآداب واللباس والزي فقط،وهذا هو التصوف الذي تريد الكثير من الأنظمة ومنها النظام المغربي نشره والترويج له،أي التصوف التبركي المنعزل عن الاهتمام بالشأن العام للناس،والمزكي بإطلاق لسياسات الحاكمين وإن خالفت الشريعة والحقيقة،وهو تصوف أوصى كذلك معهد"راند" الأمريكي في أحد تقاريره بإشاعته ودعم طُرقه في إطار الحرب على الإرهاب وقطع الطريق على حركات الإحياء الإسلامي الجادة،والتبرك هو"التصور المُغْلَق لدائرة التربية، والتبرُّك غير السلوك، التبرك سجّادة ومجلس كان يتصدره الشيخ المؤسس، فلما توفاه الله جلس مجلسه على سجادته "وارث" من أبنائه الدينيين أو الطينيين، واستمر في تقليد الأب الروحي للجماعة، وحافظ على التقاليد، واجتهد داخل المذهب التربوي، واتخذ لنفسه ولمن معه سقفا بشريا بينه وبين الله ورسوله، وحرص ألا يُزاد حرف على "وظيفة" الشيخ الراحل وأذكاره. وهكذا تكونت مدارس وطرق، في طيها العارفون بالله أحيانا، وفي طيها المريدون، وفي طيها أصحاب الأحوال والكرامات، وفي طيها كل شيء إلا التجديد "7 وأضيف :وفي طيها الدراويش الذين استغلتهم الثعالب الشابة والعجوزة في دوائر الحكم "فحجوا" إلى الدار البيضاء ليرددوا "ورد": "الله..الله نعم للدستور"،وهذا التصوف"التبركي" نال من "العدل والإحسان" انتقادا للكثير من تصوراته وممارساته:
انتقدته لأنه وظف سياسيا في القديم والحديث لذلك " تتميَّز نفوسُنا غضبا على الدكاكين المتاجرة في الدين باسم التصوف"8
وانتقدته لأن"بعض المنتسبين للتصوف انزلقوا في الدروشة والمسكنة، وبعض النصابين باسم التصوف لبَّسوا على الناس بتواضع كاذب"9
وانتقدته لأنه استحدث أشكالا غير شرعية أدت إلى ظهور انحرافات "فدخل تحت المرقعة التي كانت شعارا للزهد مرتزقةٌ باسم الطريق. وتبدأ الزاوية أو الخانقاه مدرسة علم وتربية في حياة الرجال المؤسسين، فلا تلبث أحيانا أن يدخلها بعدهم الانحراف"10،وإلى ظهور خرافات لذلك قال السيد ياسين: " إن جناية المنامات والحكايات على العقل المسلم جنايةٌ حقيقيّة في صفوف العوام. ولمّا تقلَّصَ ظل العلماء وضعفت إفاداتهم التربوية راجت الخرافة ونَفَقَتْ في أسواق العِرافة والشعوذة والسحر وتعبير المنام، يتصدّى لتعبيره بالرأي الكالِّ والفهم السقيم والنية الكاذبة كل من هب ودب، وتُبنى عليه العزائم والأعمال، ويَفْصِل في الأمر العويص ظهورُ شبحِ شَيْخٍ لحالم مُتَبَرِّعٍ أو لمُتحلِّم محترف،وكان للشيطان، ولا يزال، الحفلةُ الكبرى في خطوطه الهاتفية، يوحي إلى أوليائه في المنام ما عجز عن تفهيمه لبلداء أنصاره وأتباعهم في اليقظة"11.
وَدَّ السيد هاني لو انغلقنا في دائرة "التصوف التبركي" حتى لا نتسبب له في صداع الرأس،بل نستهلك جهودنا في أكل الأفاعي وشرب الماء الساخن والمشي على الجمر،عنذئذ فقط لن نكون خرافيين،أما وقد ولجنا ميدان السياسة-التي هي من صميم ديننا- فتلك ذروة الخرافية،وللسيد هاني تعامل خاص مع مسألة المعقول واللامعقول،فهو إن كان بصدد تفكيك مقالات اختياره المذهبي وسياقاتها التاريخية يسقط في قاع قاع اللامعقول،وإن كان بصدد تفكيك مقالات خصومه فهو هنا يمتشق حسام المعقول والمنطق، وفي هذا المضمار لست أدري لماذا نسي السيد هاني أن "يُتْحف" السادة القراء- ليستكمل جميع فصول الحملة التشويهية- ببعض الرؤى التي تُسعفه في الحكم"بخرافية" (العدل والإحسان) ولا شك أنه سيجد بغيته في موقع الخرافة الذي أتى على ذكر الكثير منها.
وارتباطا بمسألة الدروشة يسأل السيد هاني " هل في مكنة الباحث أن يقيم مقارنة ويصطنع تقاربا أو اندماجا بين المعجم السياسي وبين المعجم العرفاني. ومن المدعو أن يفهم الآخر أكثر ويقترب من الآخر أكثر ؟ كيف يتسنى للسالك أن يقرأ حروف السياسة ويستوعب حقل السياسة ويتفهم سلوك السياسيين؟" ويجيب نفسه بالقول:" في السياسة المتداولة في عالم الخلق ، لا ننشد رقيا روحيا قدر رقينا النظمي والحسي. ليس في أجندة السياسة إصلاح ضمائر الأفراد والسمو الروحي بهم" وهو جواب ينم عن علمانية مُقَنَّعة يمكننا أن نرجعها إلى تصور كنسي قروسطوي لا إلى تصور إسلامي شامل،وبالمقارنة مع كتابات أخرى للسيد هاني نخلص إلى القول إن الرجل يعمل على "تثوير"الدين في دائرة مذهبية معينة،ويعمل على تحنيطه في دائرة مذهبية أخرى مخالفة، مما يعني أنه غير ملم بما يكفي بتطور النقاش في المشهد الفكري العالمي حول علاقة السياسة بالأخلاق،ولغير المُلِمِّين كتب السيد ياسين "رسالة تذكير" حيث قال:" جماعة العدل والإحسان حزب سياسي أم تناومٌ ودروشة ؟ هي جماعة بَشَّرت بتغيير المجتمع، فما بالها تتَفيأ ظلال البركات المستفاضة والأنوار المعترَضة ؟ أهروباً من ميدان المقارعة إلى سلامة المهادنة ؟ كلاّ، وإن إزالة الغموض عن بعض العيون الغَمِصَة الرَّمِصَة هدف أول من مذكرتي ورسالتي هذه"،نعم السياسة لوحدها لا تصلح الضمائر ولكنها تمثل مِحَكَّات للتدين،واختبارا لصدقية الثبات على المبادئ،والتدين الصحيح لا المغشوش هو الذي يمثل ضمانة لعدم انزلاق السياسة إلى معاني النفعية والانتهازية والنفاق فإذا "بالضد يخفي ضده، واذا باللفظ ضد المعنى في لغة السياسة. واذا بالظلم يلبس قلنسوة العدالة، واذا بالخيانة ترتدي رداء الحمية بثمن زهيد ويُطلق اسم البغي على الجهاد في سبيل الله ويسمّى الأسر الحيواني والاستبداد الشيطاني حرية"12 وإن الانهماك في الأعمال السياسية » الدائرة رحاها على المنافع وحش رهيب،فالتودد إلى وحش جائع لا يدر عطفه بل يثير شهيته،ثم يعود ويطلب منك أجرة أنيابه وأظفاره"13.
إن ثمة مخالفون للعدل والإحسان تفهموا رؤيتها لعلاقة السياسي بالعرفاني،أو السياسي بالدعوي ولم يمنعهم ذلك الخلاف من التقييم المنصف لمجمل كتابات السيد ياسين،وفي هذا الباب نسوق كلام السيد عبد الإله بلقزيز؛ففي حوار له مع "المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية" الذي يوجد مقره في طهران قال:" ...غير أن الموقف يختلف حين ننتقل إلى تيار مغربي إسلامي آخر هو: حركة "العدل والإحسان" التي تجد في كتابات مرشدها الشيخ عبد السلام ياسين مادتها الفكرية والايديولوجية الأساس،والحقيقة أن ياسين وضع في حوزتها مادة ثرية، هي عبارة عن مجموعة من الكتب،وهذه الغزارة في الإنتاج واكبها اهتمام منه بمختلف القضايا والتحديات الفكرية والسياسية: المزمنة والطارئة، الأمر الذي جعل من نصوصه كتابة حيّة متواصلة مع أسئلة جمهوره السياسي العريض لا مجرّد تعاليم سياسية محنَّطة.
وإذ يلحظ القارئ في نصوص عبد السلام ياسين عمقاً وجاذبية نادرتين، تكشفان عن موسوعية معرفية حقيقية: أصولية وحديثية، يستطيع أن يفهم تلك الكاريزما التي أحاطت بشخصيته لدى مريديه، والتي لا يمكن ردُّها فقط إلى التضحيات التي قدَّمها (السجن مرتين، الإقامة الجبرية)، لأن كثيرين قدموا أضعاف تلك التضحيات دون أن تكون لهم قامة ياسين في وعي جمهورهم، ولا أن يكسبوا الاعتراف من خصومهم نظير الذي كسبه ياسين من خصومه: في السلطة وفي المجتمع.
تطغى في كتابات عبد السلام ياسين مسحة راديكالية حَدِّية عزَّت لها الأشباه لدى أكثر المفكرين والسياسيين غلوّاً في الوطن العربي، ومن مختلف المشارب والاتجاهات! وهي راديكالية ذات قاعدة عَقدية، وليست محض خيار سياسي. فنصوصه تميل إلى تحكيم الثوابت والمبادئ، وعدم المساومة عليها تحت أي ظرف، باعتبارها أصولا شرعية غير قابلة للتقليب والتكييف. ولا يعني ذلك بحال أنه لا يطأ أرض السياسة وفلسفة الواقع والممكن، بل هو منغمس فيها أشدّ الانغماس، ويتقن جيّداً إدارة شؤونها: من بناء نموذج نادر للتنظيم ("المنهاج النبوي") إلى فتح الحوار مع الحداثيين (حوار مع الفضلاء الديمقراطيين")، غير أنه يخوض في بحر السياسة مسترشداً ببوصلة عقدية لا يحيد عن إشارات توجيهها" 14 .
لقد أتى السيد هاني بمثال خاطئ لا يسعفه في التدليل على ضرورة تجنُّب العرفان لممارسة العمل السياسي وهو مثال الخميني فقال:" حتى الإمام الخميني الذي أقام دولة بعنوان ولاية الفقيه والذي سعى الشيخ ياسين للتماهي مع تجربته من موطن الإنشاء لا العلم، لم يتسلّط على أذهان أصحابه من منطلق العرفان الذي كان فيه من كبار المحدثين، بل قاد البلاد بلغة الصناعة الفقهية والقانونية واحتفظ بأسرار العرفان لنفسه. فإقحام التّصوف في الدّولة في غياب فقه اجتهادي على أصوله آفة من آفات من لم يحرزوا نجاحا في السلوك ولا اجتهادا في الفقه" ،فهل حقا "لم يتسلط الخميني على أذهان أصحابه من منطلق العرفان"،والحقيقة أن عامة الناس لا يتفاعلون كثيرا مع لغة الصناعة الفقهية والأصولية بقدر ما تنفع صاحب هذه اللغة في رسم خطوات ومنهاج العمل،وترتيب الأولويات،وتبسيطها للناس في معرفة تعلُّمية لا عالمة،وفي أحوال سلوكية قوامها الزهد الصحيح الذي لن يتردد صاحبه في الجود بالنفس،فيتشرب الأصحاب معاني الإقدام والجرأة والشجاعة والثبات على المبادئ،فالخميني-الذي لا شأن لنا بمناقشة معتقده فالرجل أفضى إلى ما قدم- لم يحتفظ بأسرار العرفان لنفسه كما ادعى السيد هاني،بل بلغة العرفان كان يخاطب أنصاره ويخاطب حكومة الشاه وقدمه راسخة في السياسة،فقال:"عند القيام بتأدية أي عمل عليكم أن تسلو قلوبكم أنكم في محضر الله"15 وقال أيضا " انتبهوا أيها الناس،انتبهي أيتها الحكومة،انتبهوا فجميعكم في محضر الله،وجميعكم ستحاسبون غدا،لا تمروا على دماء شهدائنا دون اكتراث" 16
ولا أظن أن السيد هاني يجهل إشادة الخميني بالحلاج في شعره ،وهذه أبيات منه:
" خلصتُ من نفسي و قرعتُ طبل «أنا الحق» و مثلَ المنصور صرتُ شارياً رأس الصليب"17
" ما دمت ابن منصور تطوف حول "انا الحق"
تثير الضجيج و الهياج دون أن ترى جمال الحبيب"18
إذا فما الذي يمنع السيد هاني من أن يسم- ولا نريده أن يفعل ذلك- نثر وشعر الخميني"بالنط الحلاجي" و"الشطحة الحلاجية" و"سلوك الحلاج" أم أن هذه النعوت مذخرة للسيد ياسين وحده.
وخلاصة القول إن سلوك"العدل والإحسان" يمكِّن من اجتثات أهم عائق نفسي في طريق التغيير هو عائق الخوف من المخلوق لاسيما الحاكم،وإن أعظم الإثم الذي يبوء به الحكم الفاسد هو أنه ينزع من القلوب الخوف من الله ويحل محله الخوف من الحاكم ومن الناس، وبذلك ينفلت الإخلاص من القلوب وتنتشر آفات النفاق والتملق والمجاملة والوشاية والتلذذ بالخضوع والقبول بالاستعباد والاستبداد،ومظاهر الدروشة الطرقية واعتزال الشأن العام لأن الخائفين يفقدون الثقة في الجميع،ولذلك فالحكم الفاسد "لم يُسقط من أيدينا الشورى والعدل فقط، بل أذهب من قلوبنا معنى الإحسان الذي به يعبد المحسن ربه كأنه يراه. احتل الخوف من الناس، وهو جبن سافل، مكان المزية العظيمة : مزية الخوف من الله العلي العظيم"19. وفي لجة السياسة "لن نستعيد الوحدة الضائعة، ولا الشوكة المخضودة المكسورة، ولا الشورى ولا العدل إن لم نُعِدْ تربية أنفسنا على الإيمان والإحسان"20،هذا هو السلوك الاقتحامي المنهاجي وليس بالسلوك الحلاجي يا سيد هاني.
الهوامش
1 أخبار الحلاج،ابن باكويه،ص 26- 27
2 السيوطي، تأييد الحقيقة العلية ص 21.
3 الغزالي،إحياء علوم الدين،1/36
4 الرفاعي،البرهان المؤيد،ص 86- 87
5 ابن القيم،مدار السالكين،2/39
6 الإحسان،
7 الإحسان
8 الإحسان1/345
9 نفسه 1/489
10 رجال القومة والإصلاح 94
11 كتاب الإحسان1/34
12 النورسي،رسائل النور/اللوامع،ص849
13 نفسه،ص 850
14 رسالة التقريب - العدد ??، مصطفى مطبعه چي 1421 ،إيران
15 الكلمات القصار،مواعظ وخطب من كلام الخميني،ص16
16 نفسه،ص 17
17 الخميني،سيبوي عشق،طهران،ص15
18 الخميني،الفناء في الحب،ص 21
19 عبد السلام ياسين،نظرات في الفقه والتاريخ ص 49
20 نفسه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.