إذا كان التاريخ والسياسة والفقه لم يستسغ أحدها هذا الكوكتيل الإنشائي للجماعة، فإنني أعتقد أنّ سلوك أهل الله الحقيقيين نفسه براء من هذا الشّطح الصوفيولوجي. هل يعلم شيخ جمعية العدل والإحسان أي خطر على الإسلام وصواب العقل المسلم من اقتحام عقبة السياسة بمفاتيح الدّروشة ورابطة الشّيخ والمريد؟! ولنسمعه رأينا في ذلك عساه يتذكّر إن نفعت الذكرى: كيف وجب على السياسي أن يفهم مدارك أهل السلوك وأفهام أرباب العرفان. وهل وجب عليه أن يتعالى ليعانق حقيقتهم في حاق التفاني في الوحدة أو وجب أن يتدان أهل العرفان ليعانقوا شؤون الخلق في حاق التعالق بالكثرة. وهل في مكنة الباحث أن يقيم مقارنة ويصطنع تقاربا أو اندماجا بين المعجم السياسي وبين المعجم العرفاني. ومن المدعو أن يفهم الآخر أكثر ويقترب من الآخر أكثر ؟ كيف يتسنى للسالك أن يقرأ حروف السياسة ويستوعب حقل السياسة ويتفهم سلوك السياسيين؟ وهل لنا أن نتصور سياسة تخضع لقانون السفرات الأربع؟ وكيف نتصور سياسة تفنى وسياسة تصحو؟ وما الذي يضمن أن لا تتحلّج سياستنا فتشط حتى تعانق شطحها فتعلن في منتصف الرحلة: أنها هي الله، معاد الله . طبعا الأمر يتعلق بالتداني في السياسة . وهل في السياسة حقيقة ومجاز..ظاهر وباطن..حقيقة وشريعة..فناء وصحو ، تماما كالذي تقرر عند أهل السلوك؟ ففي السياسة المتداولة في عالم الخلق ، لا ننشد رقيا روحيا قدر رقينا النظمي والحسي. ليس في أجندة السياسة إصلاح ضمائر الأفراد والسمو الروحي بهم. وهي تنزع للتفصيل أكثر وللتكاثر أكثر. تعشق الجزئي وتغفل الكلي. ترقى بعوارض الخلق وتغفل عن مقوم ماهيتهم وجوهرهم . حتى الغداء الروحي الذي تعنى به يجب أن يجري بمقاييس مادية ليست إلا ذلك الحد الأدنى من استعداد الخلق لملأ جوعة خياله الحسي. ومع ذلك فقد فسدت السياسة وفسد الخلق. وحينما كان العارفون يرون أنه لو اطلع السلطان على ما هم فيه من نعمة لجالدوهم عليه بالسيوف، أنّى للساكن في لوعة عالم الخلق أن يفهم آخرة السلاك الذين أقاموها في دنيا الخلق بالحق. فهل لنا أن ندنو لندرك ما وراء رموز العارف ومعجمه المستقيل عن عالم السياسة ما يمكن أن يقدمه للسياسة أو لنقل لإنقاذ السياسة من انحطاط الخلق في دورة الخلق بغير الحق؟؟ أما أهل العرفان والسلوك، فمنطلقهم إشراق تلك الحروف العالية، يرقون بها ويحلقون فوق آثار تلك الحروف الدانية. يتسلقون سفحا من ال"قاف" التي ببكة . الذي حمل الأمانة ولم يشفق منها شأن الجبال جميعا. فلم يدرك من قوله الثقيل إلا ما زاد الخلق خفة فهم وشوق إزاء حقائق الملكوت . هي دعوة للتخلق بأخلاق الله. أي التعقل والتبسط في تعقل الحقائق لتندك فيهم الأضداد. ويسمون في الفهم ويطوون مسافات المعرفة طي من أدرك كلي الحروف في الحرف الواحد وكلي المعنى في المعنى الجامع جوامع الكلم . فتكون الكلمة اسم وفعل وحرف حقيقة وفي آن واحد ، كمن أدرك كلي الكلام من النقطة تحت الباء. يعرفون ويقدرون عالم الخلق كخطوة لمعانقة عالم الملكوت. فهم يرون حسّهم حاجبا وخيالهم حاجبا وعقلهم لم يتجرد كفاية. فمن ثقل تلك الأوزار انحطت أفهام الخلق طرّا. و تكاثفت الحجب فاظلمّت الدنيا وحالت دون رؤية البصر وحدّة البصيرة. فليس يرون بين يدي الخلق إلا قرآنا نزل تفصيلا وتكثيرا لما لمّ لمّا جميلا في لوحه المحفوظ. لا ندرك من حقائقه إلا ما يدركه قلب أحاطت به الأقفال، فإذا بما يسّر للذكر تعذّر ذكره وما نزل بلسان القوم غابت حقائقه حتى بات في مرتبة الأعجمي. والحال أننا نحن الذين ملأنا الدنيا ظلاما وأحطنا القلب أقفالا. السياسي لا يرى إلا القريب. بينما العارف يرى البعيد. فكيف أمكن للسياسي أن يتعالى فيرى البعيد وكيف للحكيم أن يتدانا فيرى القريب. تلك هي المسألة؟! وكما في السياسة سياسوية كذلك في السلوك سلوكوية. فما نبغيه من خلال هذه المحاولة الوقوف على حقيقة أخرى، تتصل بالمهام المطلوبة من أهل الدين إن هم أرادوا أن يقفوا على أغوار من الفهم يدفعون به ملل العالم من أشكال الخطاب الديني الساذج والانسدادات العظمى التي أوقفت سير الحقائق الدينية وتطور الأفهام الدينية حتى ما عادت تليق برشد البشرية البتة. لنقل إنها أزمة انسداد في الفهم الديني، انحطت معها الأذواق وتجسمت معها الحقائق في أدنى أشكال التجسم الساذج وتراجعت معها القيم والأخلاق إلى أن بات الدين ضربا من الخطاب الأجوف وسلوك أهل الدين ضربا من الممارسة المملة والغبية والمنافقة. يحدث هذا عند أهل الأديان جميعا. ويحدث في محيط عامة الخلق وخواصها. فساد ديني عند الأباعد عن الدين وهو فساد دونما عند الأقارب من أهل الدين. البحث عن الفهم الديني خلف النصوص التفسيرية وأنماط الممارسة الدينية المسطحة هو آفة العصر وآفة الاجتماع الديني ، وهو اليوم بلغ مداه المأساوي مع خطاب جماعة فقدت موازين الفقه والعرفان والاجتماع السياسي. إنني أحاول أن أنحت هذا المفهوم على خطورة شأنه وحقارة ما دونه، لأنه يتنزل منزلة جوهر مشكلات الفكر الديني والممارسة الدينية في عالم الخلق. إنني أقصد بتخليق الدين بكل بساطة أن نجعل الدين لله ويكون الدين لله وهذا لا يتحقق إلى بإعادة إخراج الدين من مملكة الخلق إلى ملكوت الخالق. خروج منهجي يحرر الفهم الديني من سلطة الحصر وإعادة اكتشاف المعنى العميق للدين، معنى أرقى مما تتعبد عليه البشرية اليوم وفهم أكبر مما يتيحه الخيال البشري. هذه الإمكانية ظلت موجودة على مدى تاريخ الأديان. غير أن قلة قليلة أدركت أهمية التعمق في فهم الدين ، حيث لا مخرج من الفوضى ولا من التحجر الديني إلا بتعميق ذلك الفهم. ومن هنا أزعم أنّ ليس للشيخ سوى عجرفة حلاّجية. والمحتوى يطلعكم عليه أهل الله. حينما ذكرت ابنته المصونة في حضرته ذات جولة انتجاعية في غابة المعمورة ، أن غابة المعمورة لم تكن تستحق هذا الاسم حتّى اليوم لمّا زارها الشيخ وجماعته، كان هذا مما تقشعر له الأبدان عند أهل الله. وي وي ، كم من ولي لم يدركه هؤلاء الأدعياء ممن طاف في هذه المعمورة؟! لكن من يملك من داخل الجماعة أو خارجها أن يسكت ابنة الشيخ ؟! إنّ للسلوك بلغة من دونها تشقى النفس وتراود مكانها. وخير السلوك ما كان سفرا حقيقيا. وخير السفر ما اجتاز المراحل برمتها. والوعكة في مسالك السلوك صعبة مستصعبة. ومنها أن يقف السّالك في منتصف الطريق فيكون أمره حلاّجيا لا يجد غضاضة في أن يعلن أنه هو الله. حينما تتضخّم الأنانا يحبط السّفر على مشارف الفناء. والحلاّج لم يستشعر الفناء إلا كذبا. إذ لم ينس أناه وهو ينادي: أنا الله. ولا أتردّد في اعتبار تجربة السيد ياسين نطّا حلاّجيا لم تكتمل معه السفرات الأربعة التي تعيد الصّواب للسّالك وتعيد له صحوه وتجعله يجري في عالم يمتد من الخلق بلا قيد إلى الخلق بالحقّ. فلا زالت الأنانا شاخصة في نظرة السّالك. ولهذا الفشل في إتمام السّفر الرّوحي تبعات وآثار تظهر في السّياسة تحديدا. وحدهم أهل العرفان أدركوا أن السياسة مجال للاجتهاد والفقه يطلّ عليها العرفان إطلالة خفيفة. فالفاشلون في إتمام السفرات الرّوحية وحدهم يعجزون العمران بتطلّبات طوباوية تفوق التكليف الاستغراقي للنّوع. لذا كان أهل السلوك من أمثال ابن عربي في الفتوحات وصدر المتألهين في مفاتيح الغيب يعتبرون أن بناة العمران البشري والحضارة والمدنية هم أهل الذّنوب لا جند الله المحلّقين في الملكوت. ونفهم هذه الحقيقة بصورتها الواقعية مع ابن خلدون الذي ربط بين العمران المدني والرّقة التي تطرأ على الحضارة وتجعلها أكثر تطلّبا للكماليات. المصيبة أن الرحلة الحلاّجية للشيخ ياسين من شأنها أن تحدث حصرا في المعقول السياسي، وهو سبب يبعدث على هذه النزعة الرفضوية المستدامة المخيّمة على الجماعة. يدعونا الشيخ ياسين إلى أن لا صلاح للمجتمع إلا بعد قيام القومة. والقومة ينجزها جند الله وأولياؤه. وإذن لنطوّل بالنا قليلا كي نفهم بالمفهوم أن العدل والإحسان لن تنخرط في العملية السياسية مهما بدت الإصلاحات السياسية، بل ستنخرط فيها كطليعة قومة بعد أن يصبح كلّ من في الأرض يحلّق في الملكوت. وهل يا ترى نحتاج في مثل هذه الحالة إلى دولة أصلا؟! وهل وجدت الدّول إلاّ لتدبير نقائص الخلق وإدارة شؤونهم على ندرة في الخيرات وشحّ في المصالح والسّياسات؟! فهل أدرك الشيخ ياسين بأنّ الدولة ضرورة في العمران تنتفي الحاجة إليها في عالم الملكوت؟! إنها إذن قيامة السيد ياسين وليس قومته! ولو كان ياسين ملهما لأدرك هذه الحقيقة كما أدركها أهل المعرفة والسلوك، آخرهم محمد علي فاضل شارحا دعاء عرفة للإمام الحسين ، حينما يقول:" فنحن نرضى بفعل الله وإيجاده وقضائه ، لما في إيجاده(أي الكافر) من الخير من عمارة الدنيا التي هي مزرعة الآخرة لأهلها، فإن قوام الدّنيا ونظامها لا يكون إلاّ بنفوس قاسية ساهية لاهية مكّارة غدّارة (...) ولو لم تكن هذه النفوس الخسيسة التي همّها الحياة الدّنيا ويرون (ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) وكانت النفوس كلّها همّها الآخرة ومعرفة الله لخربت الدّنيا ولم تتيسّر هذه الصنائع من اختراع هذه السّفن والمراكب التجارية ك"الشّومان دوفير" واتوموبيل والمراكب الهوائية والتلغراف وزالتلفون وسائر الصنائع. ولذا لم ينقل من الأنبياء والأولياء اختراع أمثال هذه الصنائع التي ينتفع بها أهل الدنيا ، بل منعوا منها وقالوا: إنما الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمّروها. ولذا ورد في الحديث القدسي: إنّي جعلت معصية بني آدم سببا لعمارة العالم". وعلى هذا مسلك العارفين في الرضى بوجود الكافر مع بغض كفره ، لأنّ وجوده خير للمؤمن سواء في عمارة الأرض أو لما يترتّب على التّدافع معه من حسنات، ممّا يرتفع معه الاحتقان والحقد باسم الله ،كذبا. فلولا وجود أهل المعاصي بهذا المعنى كما عند صاحب الفتوحات وكذا صاحب مفاتيح الغيب وشواهد الربوبية، لفسدت الأرض وخرب العمران. وحتى الإمام الخميني الذي أقام دولة بعنوان ولاية الفقيه والذي سعى الشيخ ياسين للتماهي مع تجربته من موطن الإنشاء لا العلم، لم يتسلّط على أذهان أصحابه من منطلق العرفان الذي كان فيه من كبار المحدثين، بل قاد البلاد بلغة الصناعة الفقهية والقانونية واحتفظ بأسرار العرفان لنفسه. فإقحام التّصوف في الدّولة في غياب فقه اجتهادي على أصوله آفة من آفات من لم يحرزوا نجاحا في السلوك ولا اجتهادا في الفقه.لم أقف بعد طول نظر على مقنع في سمته الصوفي عرفانا وسلوكا. فليس في غمرات مطارحاته عمق عرفاني يطير بالمعاني خلف منطق التسطيح والخرافة والشعبوية. وليس في نهجه الطّرقي ما يعزّز سمت الزّاهدين. إن استخفاف الشيخ بالعرفان النّظري واستناده على الطرقي وهو الساعي لتكوين نخب قيادية تقوم قومة جند الله، نابع من رغبة في تسطيح المعنى العميق للسلوك العارف. وهو فصل تعسّفي ما أنزل الله به من سلطان. فالشيخ الذي خرج من الطريقة ابتغاء السياسة ، حافظ على مسلك الدروشة في حفظ ميزان الشيخ والمريد. لكنه رفض أن يكون خروجه طلبا للنظر العرفاني لتعميق السلوك وتثقيفه. فمع هذا الأخير تخفّ المريدية ويتفرّد الشيخ بدل أن يتسلط أو يعيش بين المريدين ويمشي ، حتى لو كان ليس في كبير ، في موكب من الأتباع والمرافقين ، كأنّه لم يقرأ عن موقف علي بن أبي طالب الذي استشهد به في كل شيء إلاّ في هذا المورد، حين قال بأن خشخشة الأقدام خلف الرجال مفسدة للقلوب. والشيخ عاش دائما في أمان ولا حاجة لكل هذه الشّبيحة المرافقة المأخوذة بموضة المرافقة كما لو كان وضع شيخنا وضع هنية في غزّة. بينما حينما كانت صور شيخ القومة تغمر مواقع اليوتوب في ذروة الاصطياف والاستجمام، كان الملك الشّاب يقطع المغرب طولا وعرضا مدشّنا وبانيا ومعتنيّا بالأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة في السهوب والمرتفعات والقرى والأرياف عبر الفصول الأربعة بحرها وزمهريرها. فكيف تريد للمغاربة أن يتعلّقوا بشيخ يدعوهم للحلم بقومته ولا يتعلّقوا بملك يقود أوراشا على الأرض . بينما لو رسمنا بورتريه عن حال الشيخ وأوضاعه لاكتشفنا أي مسافة وجب أن يقطعها المريد المسكين بين ما سطره الشيخ لجند الله من جماعته وما هو عليه من رغد العيش و يسر الحال، في بلد يكاد لا يتصوّر لفقرا الطريقة وأسرة المعلّمين أنّ يسكنوا قصور السويسي ويركبوا فاخر السيّارات ويتنقلّوا بين فاره المصايف والمنتجعات. وفي عهد هذا الملك تحسنت أوضاع الشيخ وتحوّل إلى ملك صغير عاضّ على ملك جماعة العدل والإحسان التي لا توجد فيها شورى ولا انتخاب القيادة ولا شفافية ولا رقابة. وبعد أن ملأ الصحائف حثّا على الزهد واندكاك الطبقات من أبرز سمات دولة القومة، بات اليوم يستمتع بوقته أكثر من الملك ، بينما السواد من مريديه من شغيلة الضواحي والكادحين من الذين لا عهد لبعضهم بالشبع، يفكّرون ويحلمون ويدفعون من قوتهم وقوت أولادهم ثمن انخراطهم في خزينة الشيخ ذي الموكب الذي لا يناظره فيه موكب من شيوخ الطريقة أو الأحزاب السياسية أو حتى الأمراء. وحبّذا لو ذكر في كتبه ما كان من عيش علي بن أبي طالب : كيف أعيش مبطانا ولعل في اليمامة من لا عهد له بالشبع.. أو قوله: أأبيت مبطانا وحولي أكباد تحنّ إلى القدّ. وبعد أن بشّر العالم بعظمة التدبير المالي في دولة القومة الآتية في كتابه " في الاقتصاد" ، إذ يؤكّد: " كيف يكون حلالا أن يموت بعض المسلمين جوعا وبعضهم تخمة"(في الاقتصاد :124). أو حينما يقول:" على دولة القرآن أن تروض المال حتى يصبح أليفا وأن تطوعه ليكون خادما مطيعا لا جبارا يقصم ظهر المستضعفين" (م ، ن : 66). وهذا أصدق ما ينبؤ عنه واقع الحال. فلقد روّض مال الجماعة ليكون مطواعا لمنتجعات الشيخ وحاشيته بينما ليس للمريدين من الطبقات السفلى من النّاس سوى البهجة والفرجة على سفريات وجولات الشيخ من على اليوتوب. في هذا الكتيب من الاقتصاد السياسي للجماعة يذكّرنا الشّيخ بأن تبذير الثروة والإسراف في استهلاكها هو أخبث جرائم الاقتصاد الجاهلي. وزاد توضيحا " الصورة الأشنع للتبذير هي التي تتجاوز سلوك الفرد يأكل كثيرا وينفق في غير منفعة الى السلوك الاجتماعي ، وهي صورة التبذير والاسراف في النفقات الترفية"(م ، ن : 108) . وهكذا تستعلي الطبقة المترفة ويفسد العمران ويصبح الترف حاجة وضرورة. وغير بعيد كانت ابنة الشيخ قد حثّت الشباب في الحراك المطلبي لفتح أسواق الشغل بأنّ دور الجماعة أن تربّي وتعلمهم كيف يصبرون ولا ييأسوا. وحينها نبّهنا إلى هذا اللّون من الاقتصاد السياسي للجماعة ، إذ تربّي على الصّبر . وهذا مفاد ما سبق من حديث الشيخ بأن الخطر حينما يتعدّى الترف الحياة الشخصية إلى المجتمع. أي لا حرج أن يكون هو من المترفين بينما الخطر أن يتحوّل ذلك التّرف إلى الجماعة. ثم لا ندري تحت تأثير أي مفارقة ننادي بحرمة التفاوت الطبقي إذا كان الشيخ يعيش أرقى من مريديه الفقراء. وهذا يعني أنّ الشيخ تأسّى بأئمة الصّالحين الهداة في مزاعمه القومتية لكنه لم يتأسّ بهم في مجاهدتهم ورضاهم بالعيش عيشة الأدنى من مريديه؛ تأسّى بهم فيما ليس من شأنه ولم يتأسّى بهم فيما هو من تكليفه. وإذ يدعو الحاكم إلى التزام سنّة الرسول (ص) في التواضع للأمة وزيارة الناس وغشيان أسواقهم لحاجة يقضيها بنفسه ولتبليغ الدعوة ومراقبة الأحوال (إمامة الأمة : 20) ، كما زعم أيضا أنّ " المطلوب منك أن تمحو الخصوصية الطبقية وتقاتل العجرفة الإدارية وأن تكون مع العامة قلبا وقالبا" (ن، م 33)، فإن شيخ الطريقة العدلاوية دنى فتدلّى من مجتمع النخبة المترفة وسكن بين جنبيها، وأنّى للمريد بلقياه، لمجرّد أن تغيّر الحال. وها هو مع ذلك يحيلنا إلى علي بن أبي طالب حينما يصفه شيخ الطريقة السياسية :" لم يتغيّر رضي الله عنه في أحواله المعاشية"(م ، ن 33). فحياة الترف يا شيخنا تناقض سلوك التصوف وسلوك قادة جند الله وتناقض كل ما وصفت به دولة القرآن.أم تقولون ما لا تفعلون؟! يكفي أنهم أخطئوا النبوءة في عام 2006م مع أن حلمهم كان جماعيا، يحلم كبيركم ثم سرعان ما تأتي أحلام المريدين كحاشية وشروح لأحلامكم. ومن حسن الحظّ أن أحلامهم المليونية لم تصادف 2011م مع الربيع العربي إذن لاهتزت أرضهم وربت وأعلنت القومة وخرج المهدي المنتظر في موكبه من بين قصور وفلل حي السويسي ليبشّر المستضعفين في الأرض بأنّ الساعة ساعتهم وبأنّ الله منّ على الذين استضعفوا في الأرض ، وليجعل منهم الأئمة ويجعل منهم الوارثين. وحتى هنا كانت القومة في الربوع العربي لكنها في المغرب مرت بسلام . لقد أخطئوا الفكر والسلوك والنبوءة والحلم... ومع ذلك لا زال الشيخ مصرا على المضي في مسار يحيط به الغموض والالتباس في اتجاه المجهول. فإن كان لا يجد ما يسره في هذا الرهان وهو يعيش عيشة راضية على حساب صندوق الجماعة، فإن جيلا جديدا من الشباب الحالم بمستقبل أفضل ، سيشقى حينما يفيق يوما على أفق مسدود وبعد أن تأكل أعصابه سنوات التخدير والانتظار. لا يوجد برزخ في خطاب الجماعة بين الحقيقة والخرافة. يتحلّق شباب مريد حول الشيخ ، وتبدأ رحلة الكاستين ستار لمعروض من أضغاث أحلام. شيخ اللجنة المنظمّة يحني الرّأس مطرقا، ولا يرفض أيّ حكاية من تلك الحكايات كما لو أنّها حقّا جميعها جزء من سبعين جزء من النبوّة. وسيظل الأمر على حاله ما دامت أحلام المريدين تزفّ له نبأ وحيانيّا بأنّه خليفة الله في الأرض. فلو صدقه مريد برؤيا تحرج الشيخ لأعلن نهاية المسابقة. لا نلوم هذه الأحلام التي يعبّر عنها مريدون لا يميّزون بين الرؤى وأضغاث أحلام.. بل اللّوم على من يستمتع بهذه البشارات من دون تدخّل لتصحيح الاعتقاد وتهذيب السّلوك. قبل أزيد من ربع قرن خاطبني مريد من الطريقة الياسينية: السفينة تسير وعليك أن تلتحق بها اليوم قبل فوات الأوان. قالها ومن بريق عينيه ما يوحي أنها سفينة نوح من ركبها نجا ومن رغب عنها هلك. قلت له: ترى ما أدراني أنها تسير نحو شلاّل!؟ يبدو لي أنّني اكتشفت أنّ ما قلته يومئذ تندّرا يتحقّق اليوم بالملموس. اليوم أشرفت سفينة الحلاّج المغربي على شلاّل عميق؛ ويا ساتر!