الشيخ عبد السلام ياسين من القومة إلى الدّولة المدنية بينما كنت لا زلت مشدوها بالحراك السياسي لشبيبة المغرب في 20 فبراير، شبيبة متوثّبة مفتوحة القلب والعقل على مستقبل مغربي أفضل، تسلك على طريق نضالها برباطة جأش وعفوية لا كيدية فيها، وأحيانا باحتقانات اجتماعية دون احتقانات تاريخية، لفت انتباهي وضع العدل والإحسان الملتبس داخل هذا الحراك. وضعية هي الأغرب بعد كمون طويل في نشاط هذه الجماعة. وليته كان رأيا برأي كما سارت عليه ركبانها ردحا من زمان موسوم بالكآبة السياسية والسلبية المفرطة ، بل ألفينا أنفسنا أمام عبثية مفتوحة على كل احتمال وسعيا لرجّ مكتسبات الاستقرار من دون وضوح في المطالب أو منطق في الإقناع. فسقف المطالب غير المعلنة للجماعة يفوق كل السقوف بما فيها أعلاها في صفوف شباب عشرين فبراير. وقعت الجماعة اليوم في فتنة الذّهاب باستقرار الأوطان إلى الحافّة بمناورات ندرك أنها لن تحقّق لها رغبتها في الخلافة على منهاج النبوّة أو قومة جند الله وهما المطلبان الأثيران للجماعة. وليتنا أدركنا مطلب الجماعة وتعرفنا على ما تريده من دون (ولدنة) سياسية !؟ وشخصيا أزعم أنّني لم أعد أفهم شيئا من مطالب الجماعة ومواقفها ، فضلا عن الاقتناع بهذا الهذيان السياسوي الذي لم يعد يرضيه من واقعنا شيئا. منذ سنوات أدركت أن عمر هذه المنظومة الصوفيولوجية قصير قصر انسدادنا في انتظار عهد جديد يرمي بكل مركبات العهد القديم عرض الحائط ويفتح كوّة للمستقبل بروح الشّباب. والأعمى وحده من لا يحصي للمغرب مكاسب لم تبلغها اليوم حتّى ثورات ما سمّي بالربيع العربي. وكانت لديّ رغبة لمناقشة الكثير مما تضمنته كنانيش الجماعة من رؤى في الدّين والسياسة والمجتمع لأنّني ألفيت فيه الكثير من " كلمة حقّ يراد بها باطل". لكنّني عزفت عن ذلك في انتظار أن يستنبت الرشّد في تربتها و يحصل تغيير من ذات الحركة يوما ، حينما تكتشف عوار أطاريحها المبنية على العناد وعدم الاعتراف أو تقوم انتفاضة الشّباب من داخل هذا الأسر والخدر. وبأنّ عوامل التعرية في أزمنة السياسة والاجتماع كافية لعزل فكر آمن بلعبة السّياسة لكنه لم يؤمن بقواعدها.كما لاحظنا أن نقاد هذه الجماعة لم يقفوا على جوهر الأزمة في خطاب مركب يملك صاحبه النّطّ عبر محطّات عديدة بإنشاء لا يترك أثرا لمنطق مقنع. يهمّني اليوم أن أتناول هذا الخطاب بالحدّ الأدنى من النّقد ما دام لا رادّ لعناد الشيخ وثورجيته التي لم تعد حقّا في كبير. كان العهد بخطاب الشيخ رفض الثورة وتعويضها بالقومة احترازا من وقوع الخلط في القيمة والمحتوى الرّباني للقومة ، بما يوحي أنّ صاحبنا لن تجده يوما في مواطن الضّرب تحت الحزام والنزول عند شرائط الخداع السّياسي بكل صنوف التّدليس المشروع منه وغير المشروع. أليس شيخنا هو من حرّم التّقية والسّرية في العمل كما رفض كل صنوف الممارسة السياسية التي تلتقي مع لعبة الفضلاء الديمقراطيين وكذا المدنّسين الديمقراطيين ؛ لعبة جاهلية تأباها القومة النّقية كالمحجّة البيضاء لا استناد فيها على دهماء العامة وغير التّائبين، قومة الصّلحاء والمهديين؟! وذلك كلّه قبل أن تضعنا ويكيليكس وما أدركناه قبل الويكيليكس من أوثق مصادرنا ، بأنّ القومة يعدّ لها داخل السفارات الأجنبية استقواء على حرمة البلاد واستقلالها؛ حاشا أهل القومات النقية أن يتطاولوا على شرف أوطانهم استقواء بالخارج ولو بغمزة حرباء أو إشارة غادر؛ هلاّ أدرك الشيخ صاحب المنهاج النبوي بأن من أهم صفات النبوّة أن " النبيّ لا يقتل بالإشارة"! لكنّ جند القومة اليوم باتوا يرخّصون لأنفسهم في مدّ اليد إلى الأجنبي ، كما لو كانوا يعيشون في مخيّمات للاّجئين ، بينما لا زلنا نتمنّى لو نحظى بجزء من سبعين جزء من راحة شيخ الطّائفة العدلاوية وحريتها في الاجتماع والانتجاع. وبعد ذلك لا تهمّ تفاصيل لعبة الكاش كاش مع نظام تستفزه ويستفزها دون أن يبلغ الاستفزاز وطره. فضّت بكارة الطهرانية السياسية لدعاة "القومتجية" منذ نسّقوا حراكهم مع الخارج. وحينها لم يتعلّم شيخ الطّائفة القومتية سنّة علي بن أبي طالب لمّا نادى في القوم درء للفتن ما ظهر منها وما بطن: لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين وكان الجور فيها عليّ خاصّة. لكن الخطاب القومتي فضّل الانتقاء ، وبات يلعب بالنّار. يتعذّر على أي مراقب، سواء أكان من داخل التجربة الإسلامية أو خارجها، أن يعالج حالة تنظيم العدل والإحسان نشأة وتطورا من دون أن يواجه صعوبات حقيقية. تتنامى هذه الصعوبات طرديّا مع مرور الزّمن ، ممّا يطرح سؤالا حول ما إذا كانت لا تزال أمام هذه الحركة آفاق حقيقية نتيجة التطور الجاري حثيثا حولها أم أنّنا أمام انسدادات في الآفاق وعجز كبير عن الاندماج ، ليس في المشهد السياسي هذه المرّة بل الاندماج في منطق الأشياء. إنّنا كنّا دائما أمام تجربة فريدة لا تشبه سائر التنظيمات الإسلامية ولا حتّى الأحزاب السياسية. وقد شكّلت هذه الفرادة أهم عنصر من عناصر أزمتها القاتلة فيما فضّلت الجماعة الاستكانة إلى فرادتها مستأنسة زاهية. غير أنّ المتأمّل في تجربة هذه الحركة ومجمل أدبياتها سيخرج بانطباع واضح ، هو كونه أمام طريقة سياسية أكثر مما هي طريقة صوفية. والطريقة هنا تحمل دلالة الشكلانية الصّوفية وأسلوب الدّروشة في الاستقطاب السياسي والتعبئة الحركية والتأطير الأيديولوجي ممّا يضمن استمرارية النّمط المشيخي نفسه في تجربة تنظيمية يفترض أن تواجه استحقاق آليات انتخاب القيادة. تفرض الشكلانية الطرقية تغييبا ممنهجا لهذا السؤال وتكرّس معنى جديدا للقيادة وفقا لعلاقة الشيخ والمريد . ولطالما استهوت شيخ الطريقة السياسية في تنظيم العدل والإحسان عادة إسداء النّصيحة إلى من يهمّه الأمر برباطة جأش روكية وتألّه حلاّجي لا يخشى في السلوك الخطأ لومة لائم ، جاعلا من هذه الهواية شرعة ومنهاجا. وقد كان فيها ناصحا وقاضيا مع شيء من الاستفزاز، كان ولا يزال هو رصيد الشيخ ومريديه في هذا التشكيل الحركي ، وبمثابة كيمياء الوجود والاستمرارية في زمان سياسي يتغيّر وهم لا يتغيّرون . حيث شاؤوا أن يعارضوه معارضة أنطولوجية بينما بدا أنهم حريصون على تأبيده فرقا من التّغيير، لمّا كانت رغائبهم أن يقيسوا السياسة بالتصوف الطرقي ليجعلوها سياسة طرقية تأبى المعرفة والكلام وترضى بالدروشة والانزواء ونبذ المشاركة في دنيا مغرب شاؤوا له أن يظل فصلا من فصول تراجيديا مستدامة مهما تغّير الحال وتنوع الوجود وانهدّت الجبال. فلا يزال شيخ الطريقة السياسية يراود أطاريحه تباعا وقد عاصر ثلاثة ملوك، اثنان منهم صاروا في دار الحقّ والثّالث شابّ غضّ العود طريّ الطموح ، جاء حينما جاء لا يحمل من عقد العهد القديم إلاّ حكايات جيله من سائر المغاربة ، أنذاك، لم يجد فيه الشيخ الهرم الذي أكل الزمان عقله وصوابه وحتّى دينه خصما موضوعيّا يجاريه في لغة الاستفزاز وعبثية التراجيديا العدلوية لشيخ لم يعد مقنعا في أرذل العمر. فلم يكن خصمه هذه المرّة يحمل من عقد الحقب الخوالي ولا ثقافتها السياسية ما كان قد علق في ثنايا خطاب شيخ الطريقة السياسية. سادس دستور وثالث ملوك ودورات من الإصلاح والاجتهاد السياسي ؛ لا شيء ظلّ على جموده طيلة هذه الرّحلة من الصراع السياسي سوى منهاجا سمّاه صاحبه على حين غفلة من الرّسل: منهاجا نبويّا. في كلّ هذا الإصرار على اختزال المغرب والإسلام في هذا الطقس السياسي الفريد لجماعة باتت قابلة أن تتخلّى حتّى عن منهاجها النبوي لو أنّها مكّنت ولو على دبّابة أجنبية من بلوغ أهدافها السّياسية ، ظهر لنا بعد سنوات من النّظر والتّأمل في هذه الظّاهرة (السوبرا سياسية) ، أنّنا أمام إحياء لموقف الرّوكي معكّر صفو الاجتماع السياسي المغربي. المائز هنا أنّ الروكي الجديد هو أطولهم عمرا وأكثرهم حظوة واستهتارا بالمعقول العقلي والدّيني. تبدأ حركة الرّوكي من موقف خوارجي وحبّا للزعامة واستهتارا بالاستقرار ولكنّها نزولا عند خصوصية المغرب تروغ من التّصوف كما يروغ نظائر لها في المغرب الوسيط والحديث، حيث كان أشهرهم بوحمارة العنيد. وعادة ما تقود حركة الروكي إلى المجهول ، لأنها تحتفظ ببرنامج ضمير وغاية خفية. كما اعتاد الرّوكي أن يفرّ إلى الأمام ويخلط الأوراق ويقبل بالانتحار والاستعمار ولا يقبل بالشراكة والاستقرار. وهل حصد المغرب من الروكي سوى خور العمران واستدعاء الاستعمار في ظرف وسمه الحجوي الثعالبي بانتحار المغرب بيد ثواره من جماعة الروكي. من طبيعة الرّوكي أن يشيطن الواقع الذي يعيش فيه برسم الدولة داخل الدّولة ، وأن لا يرضيه شيء البتة. ولذا مهما بلغ التغيير فهو لا يراه، لأنه مكتفي بدولته السّرّية وله في جماعته المريدة ما يعوّض إفلاسه السّياسي ويغنيه عن مجتمع غير مريد. يدعونا الموقف الفقهي والأخلاقي والسّياسي أن ننظر إلى التحوّلات التي تجري من حولنا برؤية موضوعية فيها الكثير من التقوى وفصل الاحتقان الذّاتي عن الموضوع. إذ لا يعقل أن تزداد عدميتنا وتتضخّم رفضويتنا للواقع كلّما طرأ جديد وحدث تغيير كما لو أن لا شيء تغيّر في دنيا المغرب. هنا تتجلّى بوضوح سيكولوجيا الروكي المقهور، حيث كلّما تغيّر الواقع كلّما نما وتورّم لديه الاحتقان. ويبدو لي أن شيخ الطريقة السياسية غير راضي على أن العالم يتغيّر من حوله بمنطق التّاريخ ومكره لا بمنطق حالم عبوس قمطرير،لم يعد لدعواه التراجيدية موضوعا مثيرا. ولك أن تتأمل نهاية الروكي منتحرا لما تصدمه حقائق الواقع المتحوّل. ربّما استأنس الروكي بما كان من آراء أهل السوسيولوجيا حول التكوين الجماعي والسياسي المغربي من أنه ثابت أو بطيء الحراك. وفجأة وجد الروّكي أن المغرب بات شابّا من كلّ الجهات، لا شأن له بشقاوة الحيزبون فكان أن نصب له التّاريخ قشرة موز لن يقوم بعدها أبدا. يبدو أن الجماعة باتت محرجة من وتيرة التّطور والتغيير ، بينما وطّنت نفسها على مغرب ثابت لا يتغيّر لتستمر العبثية التّظلمية للجماعة البكّاءة التي ترفض النّظر إلى الواقع بعين الحق والإيمان. لقد كنّا دائما نتحفّظ على هذا الخطاب العجائبي لشيخ راقته طريقة الروكي بوحمارة حتّى استحمر وعينا بمطارحات تنقر في لحاء ذكاء المتلقّي كما يفعل " نقّار الخشب" ، حتّى ازداد التباسا ما كنّا نراه وما نشاهده من تشقلبات هذا الخطاب الذي استصغرنا إيماننا أمام شطحه في التّعالي بالمتداني والتّصويف لما ليس موضوعا للتّصويف ، حتّى إذا حلّ علينا الربيع العربي ، قالوا بكل بساطة: إنكم أيّها المغفّلون ، لم تفهموا قصدنا منذ رسالة " الإسلام أو الطوفان"، بأن مرادنا من القومة والخلافة ما هو إلاّ الدّولة المدنية، هكذا ، وكان ربّك غفورا رحيما!؟ أهي الملهاة بعد طول اصطناع للمأساة أم استغباء للرأي العام وعربون تدليس على شباب 20 فبراير؟! تغيّر (اللّوك) وشذّب القوم لحاهم ليتشبّبوا أكثر برسم الربيع العربي قبل حلول خريفه، وقالوا أشياء أنزلتهم من نقاء الطريقة إلى الفهلوة السياسوية. وهؤلاء إذن هم حقّا جند الله ثقافة وأخلاقا وزحفا!؟ أيعقل ذلك بعد سنين طويلة من الكاش كاش. بتعبير مغربي وعربي أصيل أيضا هو " طنز" في الكلام السياسي الجديد للطريقة العدلاوية. باتت الخلافة الرّاشدة في هذا المنظور المغالط تطلّ بدرّتها العمرية من واشنطن وباريس وإسبانيا وأقبية السفارات وليس من مزاعم المنهاج العدلاوي الآيس من القومة لقلّة النّصير وتراجع مكنة الاستقطاب وتورّم الأحلام الكاذبة. وإذا شئنا قلنا أنّنا اليوم أمام كبرى المفارقات: مفارقة كذّاب كريت. أي إذا صدقوا كذبوا وإذا كذبوا صدقوا. فحتى 2009م حيث لم يستطع كل هذا المحفل الحالم أن يرى رؤية صادقة تتعلّق بالربيع العربي، كان شيخ الطريقة قد سعى لتفصيل مغزى القومة والخلافة ومهام جند الله في كنّاشه الموسوم ب" إمامة الأمةّ". وفيها لا وجود لأدنى احتفاء بالديمقراطية ولا لسمو الاتفاقيات الدولية على القوانين المحلّية ولا للتعدّدية وغيرها من سائر ما كان في نظر الشيخ ومريديه من آثار الجاهلية المعاصرة. وهي المطالب التي رفعتها شبيبة 20 فبراير وبسحر ساحر تبنّتها الجماعة في تدليس أيديولوجي كبير جعل المراقب لهذه الحركة وخطابها أمام صدمة المفارقة. ما أثارني حقّا هو سقوطهم في ضرب عاري من العبثية السياسية والدّينية النّاشئة من الاحتقان والكراهية الشخصية ، والمساهمة في الهدر الحركي والسياسي لشريحة من الشّباب والخروج عن دعوى حفظ الاستقرار إلى الضّرب تحت الحزام ورهن استقرار البلاد والعباد لرغبات شيخ يعاند في الوقت بدل الضّائع. ولو أدرك هذا النّفر من القومتيّين أي شرّ يداهم البلدان عند انفراط عقد استقرارها لأدركوا أن هذا الفقه الذي يبعثهم إن هو إلاّ فقه خوارجي ، لما علمت من أنّ حفظ النّظام العام أولوية فقهية لا تقايض بالمجهول و أحلام اليقظة وإيحاءات الأجنبي. ولا يزال شيخ الطريقة السياسية على عدم اعترافه بالتطور الذي يشهده المغرب ولم يتنازل عن سلطاته المطلقة في القول والموقف قيد أنملة، بينما تنازل الملك عن الكثير من سلطاته ، ساعة أعلن عن تأييده للدستور الجديد الذي جاء ثمرة لمشاورات مع الأحزاب السياسية وسهرت عليه لجنة مكوّنة من شخصيات أيّا كان الاعتراض عليها ، عرف عنها أنها نشأت وتكوّنت خارج ثقافة المخزن وسلطته. وأيّا كان النقاش حول الدستور الجديد : مع أو ضدّ ، ففيه ما لا يمكن نكرانه من التعديل. لكن ما يلفت النظر ها هنا أن الشيخ ياسين لم يتنازل عن شيء من سلطانه ولا شيء من عناده ولا شيء من قداسته. هكذا بدا الموقف السّلبي من الدستور الجديد نابعا من إحساس بالخطر القادم، لا سيما بعد أن تتعرض الجماعة نفسها لسؤال النزاهة والشّفافية بعد دسترة المجلس الأعلى للحسابات وهيئة النزاهة والشفافية وتحقيق دينامية سياسية من شأنها أن تملأ الفراغ السياسي وتعيد للسياسة دينامية جديدة وأملا ، يزعج تجربة عاشت على سبيل الرّفضوية المطلقة والرعي على شوارد العزوف السياسي والاحتقان والتهميش . يبدو مستقبل هذه الجماعة حرجا؛ ذلك لأنّ الجماعة باتت تخفي ضعفها في هذا الحراك المطلبي لشباب لا يحلمون كما يحلم شيخ الطريقة السياسية. وما هذا التّصعيد في اللّهجة والخطاب سوى تعبير عن إحساس بانقضاء النفس الأخير لجماعة بدأ يتّجه مسارها نحو الانحدار. فهي جماعة لن تجد بعد اليوم فراغا سياسيا ولا هوامش لممارسة الإقناع والتبشير. فما يجري اليوم هو تحوّل أيضا في الثّقافة السياسية والطموح. ستجد الجماعة صعوبة في إنجاز مهمة الإقناع في مجتمع مفتوح غير هارب في أحلام اليقظة السوداوية. كما أن ما حدث خلال العشرين فبراير وما بعدها ، تراجع في القاعدة الجماهيرية للجماعة. فقد اختاروا (التشعبط) في ذيل شبيبة طالما نعتوها بدهماء العامة. وقد ازداد هذا الإحساس بالضّعف بعد تراجع الاحتجاجات عشية إعلان خارطة طريق الإصلاحات والتعديل الدستوري في الخطاب الملكي خلال التاسع من مارس. أي ملاحظ يستطيع أن يكتشف أن أعراض الهسترة عند الجماعة تزداد طرديّا عند بلوغ أي إنجاز سياسي أو تحقيق أي مكسب حقوقي واجتماعي في المغرب. لقد كان همّ الجماعة أن لا تظهر بضعف نفوذها الجماهيري بعد أن لم تعد سيّدة الشّارع. وبالمختصر المفيد ستشهد الوقائع أنّ الخاسر الأكبر في كلّ ما جرى ويجري اليوم في المغرب هي جماعة العدل والإحسان. وهي تفعل اليوم المستحيل لكي لا يظهر عليها هذا الضعف وفقدان البريق ، بل تحوّلت في مشهد الربيع العربي إلاّ كومبارس يحمل شعارات شباب الفايسبوك ويشاركهم بكلّ ما لديه من قاعدة شعبية فيما يوحي للرأي العام وجماعة العشرين فبراير بأنه لم ينزل للشّارع سوى جزء من جمهوره. كان الشّيخ قد قضّى سنين من السوداوية السياسية والتّذرع بالتربوية الجماعية قبل أن يفيق الشّارع المغربي على حقيقة أخرى، وهو أنّ شاكيرا في مهرجان موازين استطاعت أن تستنفر في ليلة واحدة جمهورا عريضا فاق أنصار الشيخ المريد. لا أثر لهذا الكيان في السياسة والمجتمع، فهل يخشى إن هو قبل باللعبة السياسية أن يظهر ضعفه في الانتخابات؟!لم يقولوا لنا إن مشكلتنا هي شخصية وهستيرية مع شخص الملك ، كي لا تختلط المطالب التاريخية للشعب مع هذا الهوس الكيدي الذي أفقد الجماعة وضوحها ومصداقيتها. كما لم يقولوا لنا هل يريدونها قومة تهرق فيها دماء الشباب في الشوارع، وإذن لم تدفعون بغيركم إلى الشّارع وأنتم هاهنا قاعدون؟! كما يخشون من المستقبل، لأنّ الأوضاع الجديدة ليست في صالح عزلتهم. فمسألة التمويل مثلا، لا زالت مطروحة في غياب الشفافية الكافية في تنظيم يهمّ المستضعفين من أتباعه أن يعرفوا كيف تصرف أموالهم. ومثل هذه الشّفافية تكون أولى في الأزمنة الصّعبة درءا للشبهات. كما أنّه فتحت أمامهم ملفّات تخص سمعة بعض قياداتهم، ليس آخرها ما نقل من أخبار عن السيدة نادية ياسين في وسائل الإعلام. وإذا كان من الممكن أن يلوذ البعض منهم بقياس ما حدث بواقعة الإفك، فإنّه لا غرو أنّ الرّأي العام ينتظر جوابا يرضيه. فحتّى في حادثة الإفك كان لا بدّ أن يتدخّل الوحي لتكذيب الإشاعات ولم يترك الأمر من دون إجابات في مجتمع معنيّ أخلاقا وفضولا بفهم ما يجري. وفي مثل هذه الحالة هل إنّ الجماعة تنتظر نزول آية البراءة من السماء ؟!. إنّ الوضعية السياسية والمالية والأخلاقية التي تفرض تحدّيا كبيرا على الجماعة ، تؤكّد على أنّ الآفاق باتت تضيق أمامها أكثر فأكثر. وأنّ عهد الدستور الجديد سيكون فتحا سياسيا للجميع سوى الجماعة التي كتب عليها في الزبور من بعد الذّكر أنها ستعاند عنادا سيزيفيا عبثيا.كان السيد ياسين مريدا في طريقة معروفة قبل أن يعلن انشقاقه منها بعد أن تكوّنت لديه فكرة عن دور الروكي الجامع بين الطريقتين: الصوفية والسياسية. كان يسعى لتأسيس طريقة جديدة بقيمة مضافة وجدت في ثقافة الروكي ما يميّزها عن غيرها. دخل السيد ياسين السياسة بافتعال مغامرة إعلامية ظلّ وفيّا لمفاعيلها وتبعاتها. ولا يزال مرتهنا للأثر التّاريخي لرسالة الإسلام أو الطوفان ، بينما باتت رسالته هذه متداولة في سائر الأوساط. وقد صار لهذه الرسالة الكلاسيكية وهجا خاصّا حجب شهرة باقي رسائله ، كما حجب الخبز الحافي رواية الشّطّار.كما دخل السيد ياسين السياسة من غير مدخلها الطبيعي: تدبير المدينة. فخلط بين معنى تدبير النفس وتدبير العقل وتدبير المدينة. فكان أن خلط أخماس بأسداس و أسس طريقة سياسية تعمل على منحى الدّروشة والسلوك من دون إعمال عرفان ونظر. والقارئ في تصوّره للدولة والسياسة والديمقراطية والاقتصاد وما شابه لا يقف على تخوم حقيقية بين الحقائق والمعارف والقطاعات. إذ هو إنشاء يخفي الفوضى والتّيه والالتباس الفكري والفقهي والسّرقات الأدبية، يشفع له كونه شيخ طريقة سياسية تقرأ آراؤه في العادة ، بعيدا عن فريضة النّقد، ويتلقّاها أصحابها تلقّيّ المريد. وطبيعي في مثل هذه الحال لا يمكن أن ينمو الوعي السياسي ، لأنّ المقام مقام تسليم الوعي والروح لشيخ الطريقة. كان قد سعى في وقت سابقا حتى لمّا كان يحضّر نفسه للانشقاق عن الطريقة البودشيشية للاتصال بكلّ من عبد الكريم مطيع و كمال ابراهيم، الذين لاحظا عليه أنه يريد جرّهما إلى مشروعه داخل الزّاوية وليس العكس. لو نجح يومها في مخطّطه الاستقطابي وفي حلمه بوراثة المشيخة ، لكان قد قلب الطريقة رأسا على عقب . لكن حركيته أنذاك في الاستقطاب باءت بالفشل كما كان دائما الحظ العاثر والأحلام الكاذبة التي كانت قديمة في تاريخ هذه التجربة، أدّت إلى هذا المنعطف. ويعود الفضل في إعادة تشكيل هذه الجماعة للفراغ الحركي الذي حدث بعد انحلال الشبيبة الإسلامية، حيث ساعد جزء من بقايا الشبيبة في تحويل جمعية الشيخ ياسين المحدودة النفوذ والقليلة الحيلة إلى تنظيم حركي . فالفضل كل الفضل يعود إلى هؤلاء وليس إلى سواهم في نشأة هذا المكوّن. عكف بعدها على أعمال المودودي وسيد قطب والندوي والهضيبي والترابي والقائمة تطول. وكان لا بدّ أن يحتوي في خلطته السياسية كلّ هذا الخليط المتجانس وغير المتجانس. فحينما بدأ شيخ الطريقة التبشير بالقومة ومعالمها لا شيء من فصولها كان يشير إلى غير الخلافة على منهاج النبوة. ويومها تقلب المزاج الفكري ونطّ عبر أشكال من موديلات الحكومات. ففي البدء كان الخطاب على شيء من الإجمال تحت تأثير مفهوم الحاكمية في صيغتها المودودية والقطبية. وما كتابه حول الخلافة والملك إلاّ تمثّلا للمودودي في كتابه الذي حمل العنوان ذاته. يومها ستكتشف أنّ القومة هي دعوة للحاكمية معها يكفر العوام وتصبح الدّيار جاهلية. ولأنه سعى للتّميّز بالخطاب وتلطيف نهج التكفير فضّل الحديث عن الأمة المفتونة لا الجاهلية. وأيّا كان الوصف إذ لا مشاحة في الإصطلاح ، فقد كان المغزى هو نفسه أي أنه مع القومة نقبل التّوابين منهم فقط بينما نجري أحكام القومة على من لم تتحقق فيه الاستثابة. وأحسب أنّني تعرفت على هذا المعنى منهم يوم كانت القومة في إخراجها المودودي، إذ سعى من كان يروم استقطابنا في هذا التنظيم الذي لا زال يثير استفهاماتي ، إلى أن لا معنى لمناقشة تلك التفاصيل من صور الحكومة، التي أجاب عنها بعد سنين شيخ الطريقة نفسه في كتابه: إمامة الأمة. كان الإجمال والالتباس يجد تعويضه أنذاك في طغيان فكرة الحاكمية بفهمها القطبي الذي كان يستبعد الحديث في تفاصيل الدولة الإسلامية المنشودة وعدم العناية بمسائلها إلاّ بعد قيامها على هذا الإجمال. وبان لأبناء الحركة الإسلامية المطّلعين على الخطاب القطبي أنّ مفهوم القومة كان يحمل المغزى ذاته. وهذا لم يمنع من تهذيب بعض سلوك جند الله المخوّلين بالقومة أن يتشرّبوا في جهة السلوك لا جهة التّصور لمفهوم القومة نهج الهضيبي في دعاة لا قضاة ، لتستمرّ لعبة التّمثّلات والتماثلات لسعيد حوى في جند الله ثقافة وأخلاقا وزحفا من إخوان سوريّا غير المختلف كثيرا عن سرور ، إلاّ في خلطته السلفية الصّوفية. ومنذ قيام الثورة الإيرانية حسب الشيخ ياسين قومته صنوا لولاية الفقيه بإعجاب منقطع النظير رغم الفوارق الموضوعية . وقد غمر مجلته (الجماعة) بإنشاد وإكبار للثورة وقائدها قبل أن يعود ويبحث عن موضة جديدة في استعراض مشروع قومة ظلّت عالة على رؤى حركية مستعارة. ثم سرعان ما غمرته أدبيات الترابي والغنوشي واستمر به الحال على هذه الإلتقاطية إلى أن تحولت الخلافة على منهاج النبوة إلى الدولة المدنية على منهاج مونتيسكيو بين عشية وضحى الحراك الشبابي لعشرين فبراير. وبقي في أنفسنا شيء من حتّى ، لأن السؤال الذي ظل يراودنا: هل هي مراجعة غير معلنة؟ أم هو طنز كلامي في السياسة والدّين أم هو تدليس كما عرف لدى بعض المحدّثين؟ وهذا هو السّبب وراء هذه المعالجة؛ إذ كان الأمر سيكون منطقيا ومقبولا لو أن جماعة العدل والإحسان توجّهت للرأي العام وأعلنت عن مراجعة الشجعان، ووضّحت لنا قبل أن توضّح للدهماء كيف نزل عليها الوحي مجدّدا بهذا التصريف العجائبي لمفهوم قومة دوّخت بها البادي والغادي. ألسنا جزءا من ذلك الرأي العام حينما يحدّثنا ناطق عنهم أنّنا لم نكن نفهم مراد الجماعة من الخلافة بأنها ليست سوى الدولة المدنية!؟ ماذا عسى الباحث أن يقول أمام هذا اللّون من الاستخفاف بالعقول والاستهانة بالأحلام. ولكنه أسلوب بوحمارة في الاستحمار. وبات واضحا أنّ هذا الصنيع هو أخ توأم للتدليس. فالخلافة التي تورط فيها خطاب الجماعة باتت ثقيلة ، حتّى أنّ الإخوان المسلمين أنفسهم أدركوا ثقلها المثالي وحادوا عنها . وقد ظلّ العدل والإحسان وحزب التحرير وحدهما من لم يفطما عنها فغرقا في حرج شديد. لكن خشية منهم من فوات القطار وبعد أن رأت الجماعة في تجربة حزب الإخوان في مصر بعد الثورة ما رأت، استعارت الموقف من دون مراجعة، في مبادرة محكومة بالتقليد والتبعية ، غيّروا محتوى الخلافة حتى لا يضطروا لحرق سائر تراث شيخ الطريقة المفعم بمطلب الخلافة الراشدة، فقالوا أن المغاربة بمن فيهم الخبراء بخطاب الحركة الإسلامية وحتى من أتباعهم الذين استكانوا لهذا المعنى حتى ورود 20 فبراير بأنهم لم يفهموا معناها، ما عدا بعض من الرّاسخين في العلم من هيئة الإرشاد الذين يتغيّر أعضاء الكونغريس الأمريكي ولا يتغيّرون. وكنّا في سالف عهد قد وقفنا على مفارقة هذا الاحتفاء منقطع النّظير بالخلافة على منهاج النبوّة كما نظر إليه شيخ الطريقة السياسية. فأدركنا أنّ الأمر مع تأمّل عميق فيه الكثير من المغالطات الفقهية والتّاريخية ناهيك عن السياسية. لقد فعل فعله ابن تومرت مع فارق كبير، في ادعاء المهدوية لنفسه بعد أن لم يدّعيها لنفسه إلاّ مجانين عصور الأمة والباحثين عن التّسلط الروحي على الخلق بلا حق. وهي من أنكر الدعاوى التي يمكن أن يوحي بها فكر أو شخص لنفسه بينما هي أمر جلل يخصّ في الاعتقاد المسلم كل الدنيا والعالم. ولقد منح لنفسه ما لم يدّعيه أحد لنفسه من مسألة الاختيار الإلهي حتّى أنّه استأنس كثيرا بكل البشارات التي زفّها له الحالمون من مريديه بأنّه خليفة الله في الأرض. وللأبدان أن تقشعرّ من فرط هذه الجرأة على اللّه التي لا نراها إلاّ عند كلّ روكي متحرّف أو حلاّجي مدّعي. وكلّ تمسّحاته بأهل البيت إن هي إلاّ إشهار للسّيف عليهم حينما اغتصب شأنية أئمتهم الهداة ومنح لنفسه من الخصائص ما فاق خصائص الإمام عليّ عند شيعته. فسرّاق الله من بني شيبة لهم نظائر من سرّاق الولاية. وليس في وسعنا التفصيل في هذه الهرطقة الجديدة التي تدانت بالخلافة لتجعل منها الدولة المدنية. هذا يعني أن الجماعة كانت تجهل طيلة هذه السنين المعنى العظيم للخلافة التي هي شأن له صلة بالمثل الأعلى ، وبأنّها فوق الدولة وشأن يفوق كل الحلول الدنيا التي جعلت للسياسة والدول. فالذّين ابتكروا الديمقراطية والدولة المدنية إنّما فعلوا ذلك من باب الحدّ الأدنى من الحلول لأزمات الاجتماع السياسي وليس الحلول الأمثل. وأرجئ القارئ للوقوف عند ظاهرة الخلافوبيا إلى مقالتنا حول التّسلط كملهاة من مجلة وجهة نظر (العدد 49) للوقوف على هشاشة المنظور الذي حمله هؤلاء عن الخلافة بهتانا وزورا.