ذ. إسماعيل العلوي كثيرة هي حسنات هذا الربيع العربي الذي غمرتنا نسائمه، ففضلا على أنه كشف عن معادن الرجال في هذه الأمة فظهر التبر والتراب، وظهر الرجال وأنصاف الرجال وأرباع الرجال وأشباه الرجال ولا رجال، حسب تعبير الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد كشف هذا الربيع عن حجم الفساد المستشري في مؤسساتنا كالسرطان، وكشف عن حربائية هذه الأنظمة العربية، وعن نفاق الأنظمة الغربية، وكان أيضا فرصة لأمثالي لفهم قضايا مختلفة ومتعددة،ومن بينها قضية هذا المقال.
فكثيرا ما توصف جماعة العدل والإحسان في المواقع الإلكترونية وبعض الجرائد بأنها صوفية، ويأتي النعت في سياق التشهير والقذف وتحريض الغوغاء على هذه الجماعة، فالصوفية جميعهم عند عموم العوام - وحتى عند بعض أنصاف المتعلمين والمتفيقيهين- ضالون مبتدعون خرافيون فاسدوا العقيدة، يشربون الماء الحار، ويأكلون اللحم النيئ، ويطوفون بالأضرحة، ويتراقصون كالمجانين، يبيحون الاختلاط والمعازف، ويتبركون بالقبور ويذبحون لغير الله.
ويحرص النظام المغربي، الذي يحرض علماءه الرسميين وخطباءه وإعلامييه وتياراته الدينية المجندة من زعماء السلفية التقليدية كالشيخ المغراوي والشيخ الأمين بوخبزة وغيرهم على إلصاق تهمة "التصوف" بجماعة العدل والإحسان "جماعة الخرافة" والضلالة وغيرها من الأوصاف، فتؤلف المؤلفات وتعد البرامج وتحبر الخطب وتنشأ المواقع لتفضح "جماعة الخرافة" وتكشف عوراتها للناس فالعدل والإحسان يقدسون شيخهم ويؤمنون بالخرافات وهلم جرا.
لكن في الآن نفسه ترعى الدولة "التصوف" وتسبغ عليه من المكرمات والهبات مالا يعد ولا يحصى، فحيثما وجدت زاوية في بيت مضر أو وبر - حتى في أصقاع ومجاهل إفريقيا- إلا وصلتها صلة أو أعطية ملكية. فلا أفهم هذا التناقض كيف لنظام يعتبر صوفيا طرقيا حتى النخاع اعتقادا وسلوكا وهوى فالأسرة العلوية تيجانية ووزير الأوقاف المسؤول عن السياسة الدينية، بوتشيشي قادري يدعم "الصوفية" ويحاول "ترسيم " عَقْدِ الأشعري وفقه مالك وطَريقَةِ "الجُنَيْدِ السَّالِكِ"، ويدافع عن التصوف السني ويقيم المهرجانات لرجال التصوف ويحرص على إحياء المواسم في الأضرحة والقبور.وفي نفس الوقت ينكر على العدل والإحسان "صوفيتها".
هذا التناقض الغريب ألجأني إلى البحث في مراجع التصوف ومصادره المعتبرة، وفي ما كتبه عنه خصومه قديما وحديثا، فقرأت عن أصل التصوف واسمه وشرعيته وتاريخه ومصطلحه ومدارسه ورجاله وسلاسله وطقوسه وجغرافيته في العالم الإسلامي. فخلصت:
* أن الناس يخلطون بين "الطرقية" و"التصوف" والفرق بينهما شاسع * أن ما يروجه التيار السلفي الوهابي والتيمي الذي غزا المغرب على عهد الوزير المدغري -لأسباب لم تعد خافية- في غالبه إدعاءات لا تستند إلى دليل. * أن تيار "التصوف" هو السائد في الأمة وأن هذه التيارات المعادية له هي أقلية شاذة في تاريخ الإسلام. * أن القضايا الخلافية بين هذا التيار وغيره من التيارات الإسلامية كثيرة وقديمة ومستساغة، ولكل فريق أدلته القوية نقلا وعقلا.
كما رجعت إلى ما كتبه الأستاذ عبد السلام ياسين عن "التصوف" خاصة في كتابه الموسوعة "الإحسان" فوجدت العجب العجاب. فالجماعة التي توصف بالصوفية تنتقد "الصوفية" بشكل عميق ودقيق غير مسبوق، وتعرض لكل قضايا التصوف بشكل علمي موضوعي راق، وتسجل مجموعة من المؤاخذات على التصوف، بداية من الاسم والمصطلح مرورا بالسلوك وبعض مظاهره الطقوسية البدعية المنحرفة، مع وقفات مشرقة ولاذعة للتصوف الفلسفي، وصولا إلى انتقادها الشديد لتواطئ بعض فرق الصوفية مع الاستعمار أو الأنظمة الاستبدادية.وفضحها للتدليس على الناس باسم الدين والدروشة و"التفوقير" والشعبذة .ففهمت بعد كل ذلك لماذا يصر النظام المخزني على "إلصاق تهمة التصوف" بجماعة العدل والإحسان بمعناها القدحي الذي بيناه رغم أنها أبعد ما تكون عن ذلك.
فعندما ترفض الجماعة أن تنساق وراء الاستبداد، وترفض أن تكذب على الشعب، وحين اختارت أن لا تنخرط في "إسلام الدولة" الداعي إلى الخنوع والخضوع، الذي يعتبر كل مطالبة بالحق خروجا عن إجماع الأمة وشقا لعصا الطاعة، وحين رفضت التمويه على الاستبداد الذي تعانيه الأمة باسم الدين وباسم البيعة وباسم إمارة المؤمنين، وحين تمردت على النظام المغربي الذي نجح في رهن كل الفاعلين به وتدجينهم إما ترهيبا أو ترغيبا أو استغباء، وعندما تأبى الآن –وسابقا- أن تنخرط في هذا "الحلف المقدس" بين مؤسسات الإسلام الرسمي (وزارة الأوقاف المجالس العلمية) والإسلام الحركي (التوحيد والإصلاح) والإسلام السياسي (حزب العدالة والتنمية) والإسلام الشعبي (الزوايا والطرق على رأسها البوتشيشية) والإسلام السلفي( المغراوي الفزازي) المصوتة جميعا على الدستور بنعم "لا مشروطة" فهي ليست فقط صوفية في عرف المخزن وأتباعه بل هي بوذية مريخية ينبغي أن تباد!!! وسيظل المخزن يصر أنها صوفية لأن له أسبابه الخاصة ومنها:
1- ليخدع البسطاء والعوام ويمنعهم من التعاطف مع مشروعها. 2- ليؤجج الصراع بين السلفية الصادقين والصوفية رغم أنهم لا يجرؤون على مهاجمة البوتشيشية مثلا. 3- ليصرف عن الناس عن قضاياهم الجوهرية. 4- لأن العدل والإحسان أرادت أن تخرج بالتصوف من عباءة النظام وتنهي احتكار الدولة له وسيطرتها عليه خاصة وأنه كان يشكل تهديدا شعبيا للسلطة المركزية تاريخيا. 5- لأن العدل والإحسان جاءت بقراءة تجديدية لا تفصل "التصوف" عن حركية التغيير داخل المجتمع، فعوض أن يتحول التصوف من وسيلة لتدجين الأتباع والمريدين صار وسيلة لتغيير النظام.
وسنظل نقاوم كل سياسات الاستحمار، حتى تزهر ورود الربيع العربي في بلد المغرب.