تقديم كثرت في الآونة الأخيرة الدراسات والبحوث والمقالات التي تتناول الفكر الإيديولوجي لجماعة العدل والإحسان، خصوصا شقه الصوفي الذي يؤطر قادتها ومناضليها ،وتصدر عنه اجتهادات الشيخ عبد السلام ياسين مؤسس الجماعة ومنظرها ، الذي اعتبره أحد الباحثين ب:"صاحب طلب لما هو أعلى من النبوة، وزعم بالأخذ عن الله بلا واسطة"(سعيد لكحل :من الدروشة إلى القومة ص:4) . فقد نالت هذه الجماعة حصة وافرة من هجوم التيارات العلمانية واليسارية وحتى الإسلامية ، بعد أن سجلت تواجدا وازنا وملفتا في أكثر من محطة نضالية، وتظاهرة وطنية وإسلامية ، و برهنت عن قدرة عجيبة على اكتساح القواعد الشعبية والطلابية و استقطاب رموزها؛ رغم بساطة الفكر السياسي الذي يؤطر قادتها ، والمشروع المجتمعي الذي تقدمه وهي تخوض معركة هوياتية كبرى ، لإثبات الذات ، ومجابهة الخصوم التاريخيين، الذين بدؤوا يتساقطون الواحد تلو الآخر، بعد أن نفقت بضاعتهم الفكرية، وعجزوا عن إقناع الجماهير الشعبية بمشاريعهم المجتمعية . لقد حاولت أغلب الدراسات والبحوث المناوئة لهذه الجماعة ، بعد أن فشلت التيارات السياسية التي تمثلها في المنازلة الميدانية لها ، أن تلتقط مواقع الضعف، ومواطن الخلل في فكرها الإيديولوجي للإتيان بها من القواعد ،وإسقاط صرحها العنيد الذي عجزت رياح الاستبداد والاعتقال والإقصاء المخزني أن تسقط أبراجه العالية .فكان تركيزها منصبا على الجانب "المبهم "في فكرها الإيديولوجي. وهو الجانب الذي تُؤسَّس فلسفته على منطق "غيبي لَدُنِي" يستعصي تحليله على المنطق العلمي التجريبي، بل يقفز على كل محاولة للضبط والمعايرة والفهم، لارتباطه بالعلاقة الأثيرية الروحية التي يحصل المريد على أسرارها بعد مزاولته لرياضات روحية محددة، وطقوس تعبدية معينة. فصاحب هذا "الفكر" قد يندفع ليصرح بأقوال ،ويقوم بأفعال تجعله محط الطعن والنقد ؛ لصعوبة الجزم بصحتها، ولغرابتها وفرادتها . مما يجعل "الفكر" المنبثق من هذه "الماورائيات" – حسب هذه الدراسات – فكرا أسطوريا طوباويا يفتقد لمبرر الوجود بله التحقق . كما يجعل "مزاوله" إنسانا غير عاد – بل مريض- ليس يرجى منه أن يكون صاحب مسؤولية أو سلطة على الناس لصعوبة التعامل والثقة فيمن يجعل حياته وعلاقاته بالآخر مرتهنة إلى هذه الغيبيات، بل يجعل كل أقواله وأفعاله المستندة إليها، هي عين الصواب، والحق الأبلج الذي لايقبل أي رفض أو طعن . فالعديد من هذه البحوث والكتابات، المغرضة منها والمنصفة، العربية منها و الغربية، عالجت موضوع المكاشفات والكرامات والرؤى في "الفكر" الإيديولوجي لهذه الجماعة بأساليب ومناهج مختلفة، كما حاولت استكناه حقيقتها والوقوف على أهميتها ودورها في مفصلة التعالق بين التربوي/ التصوف ،والسياسي / الشورى ، والاحتجاجي / القومة ، في منهج هذه الجماعة ، في محاولة لفهم هذا التراكم المعرفي والحركي الذي شكل ديناميتها وقوتها. فأفلحت في مقاربته حينا وفشلت أحايين كثيرة ، وذلك حينما خدعتها الأدلة والبراهين العلمية في النقد والنقض ، فأخذت تتوسل بأحكام الإدانة والرفض ، فحادت عن المنطق العلمي الذي يستدعي "التوقف" في هكذا حالات. بيد أن هذه المقالات والبحوث لا يمكنها أن تشفي غليل القارئ المسلم التواق لمعرفة حقيقة هذا" الفكر" ،والتمييز بين ما يصح منه وما لايصح، ما دامت تمتح أسس ومبادئ ومعايير الدراسة والتفسير من نظم ومناهج عقلانية قاصرة عن فهم واستيعاب كل ما هو غيبي لَدُنِي . فالشق الأساس من هذا" الفكر" غير قابل أن يكون مُحْتَكَما إلى مناهج عقلانية وضعية . لذلك وجدنا بعض الباحثين – طلبا "للسلامة الفكرية"- يحيلون ما استشكل عليهم من هذا "الفكر" إلى أهله من العلماء الذين نذروا أنفسهم للبحث في مثل هذه المواضيع ، في حين ركزوا دراساتهم على البحث في الجانب المُؤَسِّس للمذهبية السياسية لهذه الجماعة ، ومدى جدوائية هكذا "فكر" في تجسير العلاقة بين ما هو صوفي غيبي عرفاني ،بما هو سياسي اجتماعي. حيْرة القارئ: إن القارئ العادي الذي لا يمتلك نواصي الأصول والأدوات والمعايير الشرعية التي ستُقدره على المعالجة العلمية لهذا "الفكر" ، قد يصبح ضحية "فكر" غيبي لدني غير منضبط بضوابط الشرع ، فيعتقد فيه الحق الذي لا يُمارى ، فيَضِل ويُضَل !! فالشائع في الإصدارات الصوفية للشيخ ياسين أن غالبيتها مملوء بقضايا أحوال لا تصلح أن تنشر في كتاب؛ إذ هي أذواق يستحيل التعبير عنها بألفاظ العامة ؛ لأنها من المكنونات والأسرار التي " لا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطإ صريح"(المنقذ من الضلال ،أبو حامد الغزالي ،ص:54). فقد أخطأ الشيخ ياسين حينما أودع كتبه ومؤلفاته شيئا من هذه المكنونات والأسرار اللَّدُنِيَّة وجعلها مشاعا بين يدي القراء يُقَلِّبونها في حيرة ، ولا يدرون أيصدقون أمورا تستعصي على عقولهم التي رانت عليها أغشية المادة ، وطال عليها الأمد ، ومن تم يعطلون عقولهم مناط تكليفهم ، وسر تميزهم ؛ أم يردونها ويردون معها كل ثقتهم في الشيخ وجماعته ومشروعه المجتمعي الذي جعله مرتهنا إليها !؟. فللعلوم – كما قال تاج الدين السبكي - :"دقائق نهى العلماء عن الإفصاح بها خشية على ضعفاء الخلق ، وأمور أخرى لا تحيط بها العبارات ولا يعرفها إلا أهل الذوق ، وأمور لم يأذن الله في إظهارها بحكم تكثر عن الإحصاء"(طبقات الشافعية 6/251). كما أخطأ مريدوه – وهذا أخطر- حينما استغلوا مواقع الجماعة الإليكترونية لنشر رؤى ومشاهدات غالبيتها غير منضبط إلى أصول شرعية سليمة ، بل مردود شرعا باتفاق ؛ من دون تجشم المشرفين على هذه المواقع مهمة الرقابة الشرعية لما ينشر فيها مما ليس له أصل في شرع الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم-!!( من قبيل الرؤى التي ذكرت في حضرة الشيخ وأقرها أو سكت عنها دون اعتراض ، كتلك التي ترفعه إلى مصاف الأنبياء والرسل ، بل تجعل هؤلاء مجرد سدنة و خدم على أعتابه ، و كذلك ما ذكره الشيخ- نفسه- في حضرة مريديه من أن بعض الإخوان الذين لا يشك في صدقهم أخبروه أن أمه –أي أم الشيخ المتوفاة - تحدثهم من قبرها . و كذلك أغلب الرؤى التي جاءت معززة لرؤيا 2006 ، وغيرها من الرؤى التي تفتقد إلى سند شرعي يرفعها إلى مصاف الرؤى المعتبرة شرعا...). من أجل ذلك ارتأينا أن نقدم هذه القراءة التأصيلية كيما نضع القارئ الكريم أمام مبادئ شرعية كبرى تكون موئله في الاحتكام ، ودليله في الحكم على ما جاء من هذا الفكر في كتابات الشيخ عبد السلام ياسين وأقوال مريديه. ولقد اعتمدنا – كما سيلاحظ القارئ الكريم – على أقوال الإمام المجتهد أبي إسحاق الشاطبي(+) (ت790ه) العالم الأصولي الكبير الذي تميز بالقوة في الدين ، والبعد في النظر ،والعمق في التفكير ، والذي جمع إلى كليات الشريعة جزئياتها ؛ فاعتمد في إصدار الفتاوى ، وتقويم الاجتهادات والرجال على مبادئ كلية ، وأصول عامة . فهو – إلى جانب ذلك - يعتبر من أجرء العلماء ، المشهود لهم بالعلمية ، الذين خاضوا غمار هذا الموضوع الشائك، بالنبش في تفاصيله المبهمة ، وأسراره الخفية ، بحس أصولي متقدم ، ونَفَس مقاصديٍّ عميق ؛ حيث فسر أشد وأدق حالاته استعصاء بما يتفق وقواعد الشريعة ، بعد أن علم أن أئمة الصوفية ، المعتبرين لدى الأمة ، لم يجهلوا هذه القواعد ؛ بل عليها بنوا طريقتهم ، وأسسوا لسلوكهم. كما اعتمدنا أقواله – من جهة أخرى- لأن عليه إجماعا لدى مختلف أطياف الحركة الإسلامية ، بدءا بأشدها اعتدالا إلى اكثرها تطرفا؛ فهو شيخ "المعتدلين" ، من دعاة المشاركة السياسية ، في فقه المقاصد والموازنات ومراتب الأعمال ، وشيخ رافضي التصوف من دعاة المقاطعة والتبديع والتسلف؛ في فقه البدع والمحدثات . موافقة الشرع هي الأساس: إن اعتبار هذه المكاشفات والرؤى والأخذ بها استنادا إليها ، يبقى رهينا بوافقتها للشرع الحنيف وعدم خرمها لأصل من أصوله ، أوقاعدة من قواعده .يقول أبو إسحاق الشاطبي في معرض حديثه عن حكم العمل بالرؤى و المكاشفات :" إن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية . فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق في نفسه بل هو إما ضلال أو وهم ، وإما من إلقاء الشيطان .وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه.وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع ،وذلك أن التشريع الذي جاء به الرسول – صلى اله عليه وسلم- عام لا خاص(...) وأصله لا ينخرم ولا ينكسر له اطراد ، ولا يحاشى الدخول تحت حكمه مكلَّف. وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة فهو فاسد باطل " (الموافقات2/266). ومن أمثلة الرؤى والمكاشفات التي لا يصح العمل بها أو التصرف بمقتضاها " مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة فرأى الحاكم في منامه أن النبي –صلى الله عليه وسلم – قال له :" لا تحكم بهذه الشهادة فإنها باطل ". فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها في أمر ولا نهي ، ولا بشارة ولا نذارة ، لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة( يقصد قاعدة الأخذ بشهادة العدلين )" (الموافقات2/267).كذلك من حصلت له المكاشفة أن ماء معينا نجس أو مغصوب وليس عنده غيره ، أو أن الشاهد الفلاني كاذب ، أو أن المال لزيد و قد ثبت بالحجج المادية المحسوسة أنه لعمرو ، وهلم جرا " فلا يصح العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر " (نفسه 2/267).وفي هذا رد صريح على أولئك المغرضين الذين يتهمون أحكام الإسلام بالغيبية والطوباوية !! أما ما نقل عن بعض أرباب المكاشفات والكرامات المعتبرين عند أهل الملة من الامتناع عن أكل أو تناول أشياء كان جائزا لهم في الظاهر تناولها اعتمادا على ما كوشف لهم من حقيقتها . من ذلك ما يحكى عن بعض خواص القوم أنه كانت لهم علامات عادية أو غير عادية يعرفون بها الحلال والحرام؛ كأبي الحارث المحاسبي الذي كان له عرق في بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة ، تحرك؛ فيمتنع منه وغيرها من الحكايات(راجع الأمثلة في الموافقات2/268-269). فهذه الحكايات وما يدخل في معناها ، غير قادح فيما تقرر آنفا . وبيان ذلك في رد الشاطبي على من اعترض بها على ما أصل في هذا الحقل. قال – رحمه الله- :" لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ماذكر صوابا، وعملا بما هو مشروع على الجملة. وذلك من وجهين : -أحدهما- الاعتبار بما كان من النبي –صلى الله عليه وسلم – فيه. فيلحق به في القياس ما كان في معناه، إذا لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي – صلى الله عليه وسلم- من حيث كان من الأمور الخارقة، بدليل الواقع . وإنما يختص به من حيث كان معجزا(...). و- الثاني- على فرض أنه لا يقاس – وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى ، إذ الجاري عليها العمل بالقياس- ولكن إن قدرنا عدمه فنقول: إن هذه الحكايات عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي ، وهو اجتناب حزاز القلوب الذي هو الإثم. وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر منها هذا النمط.وقد قال عليه الصلاة والسلام:" البر ما اطمأنت إليه النفس ، و الإثم ما حاك في صدرك"(رواه أحمد والديلمي بإسناد حسن).فإذا لم يخرج هذا عن كونه مستندا إلى نصوص شرعية ،عند من فسر حزاز القلوب بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم ، ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية.وكلامنا في مثل /مسألة ابن رشد وأشباهها(...)". إلى أن يقول في تفسير امتناع هؤلاء عن أكل أشياء كان جائزا لهم تناولها بالظاهر :" نقول : كان المتناول مباحا له فتركه لهذه العلامة كما يترك الإنسان أحد الجائزيْن لمشورة أو رؤيا أو غير ذلك (...)فكذلك نقول في الماء الذي كوشف أنه نجس أو مغصوب.وإذا كان له مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر ، بل يصير متنقلا من جائز إلى مثله(أي إذا كان عنده غيره بحيث لا يصير إلى التيمم). فلا حرج عليه، مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف إعمالا للظاهر ، واعتمادا على الشرع في معاملته به، فلا حرج عليه ولا لوم ؛إذ ليس القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرا شرعيا ، ولا أن تعود على شيء منه بالنقض. كيف وهي نتائج عن الإتباع .فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع أو يعود الفرع على أصله بالنقض ، هذا لا يكون البتة(...). فإن الخوارق إن جاءت تقتضي المخالفة فهي مدخولة قد شابها ما ليس بحق ، كالرؤيا غير الموافقة.كمن يقال له:" لا تفعل كذا " ، وهو مأمور شرعا بفعله، أو "افعل كذا"، وهو منهي عنه. وكثير ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب(...)ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء"(نفسه،2/270-273). العظماء من الصوفية لا يلتفتون إلى هذه الأمور: من أجل ذلك ، آثر الكثير من أرباب الأحوال ترك الاستناد إلى هذه الخوارق ، واكتفوا باقتباس ما كان فيها من الفوائد المعينة لهم على ما هم بسبيله ؛ فأظهروها تقوية لليقين ، وتحقيقا لمعاني شرعية مبرأة من حظوظ النفس على غرار ما فعله سيد الأولياء – صلى الله عليه وسلم- حين خُيِّرَ بين الملك والعبودية ، فاختار العبودية ، وخير في أن تتبعه جبال تهامة ذهبا وفضة ،ولم يختر ذلك ؛ بل اختار الحمل على مجاري العادات : يجوع يوما فيتضرع إلى ربه ، ويشبع يوما فيحمده ويثني عليه، حتى يكون في الأحكام البشرية العادية كغيره من البشر.ولم يجعلوها –أبدا- وسائل وسبلا ومطيات لركوب "الظهور " ، وتحقيق الأمنيات ، ونيل الحظوات ، في عوالم المال والأعمال والسياسة ،كما هو حال الكثير من مخرفي هذا الزمان ؛ [ بل كان منهم (أي أرباب الأحوال ) من استعاذ منها ومن طلبها والتشوف إليها ، كما يحكى عن أبي يزيد البسطامي . ومنهم من استوت عنده مع غيرها من العادات، من حيث شاهد خروج الجميع من تحت يد المنة](الموافقات1/357-358). وقد أشار العلامة ابن خلدون إلى هذا المعنى في معرض حديثه عن الكشف حيث قال :"... فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا هذا التصرف ، ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه. بل يعدون ما وقع لهم من ذلك محنة يتعوذون منه إذا وقع لهم. وقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – على مثل هذه المجاهدة ، وكان حظهم أوفر الحظوظ،لكنهم لم يقع لهم بها عناية" (المقدمة،3/1101). من أفعال المبتدعة والزنادقة: لكن رغم منافحة الشاطبي عن أهل هذه الحقائق ، وتأويله لصنائعهم بما يتفق والشرع الحكيم؛ لم يترك – لله ذره- هذا الحقل مجالا للأهواء ، وموطنا للبدع والمحدثات ، يدخله كل من هب ودب ممن انتسبوا إلى طريقة القوم ، وتحلوا بزيهم ، مستغلين شعبيتهم ، وثقة الجمهور فيهم ، فمرروا كل خبيث وفاسد ، وأحلو ا الحرام ، ونشروا الفساد ، وآمنوا بالحلول والاتحاد ؛ وهم الزنادقة المبتدعة . وإليهم يشير بقوله :" ... استجازوا لمن ارتسم في طريقتهم إباحة بعض الممنوعات في الشرع بناء على اختصاصهم عن الجمهور(...)وهذا باب فتحته الزنادقة"( الموافقات ،2/248-249). وفي كتابه القيم "الاعتصام" الذي خصه لفقه البدع والمحدثات ، قال في ذات المعنى:" فكثيرا ما نرى المتأخرين ممن يشتبه بهم ، يرتكب من الأعمال ما أجمع الناس على فساده شرعا . ويحتج بحكايات هي قضايا أحوال ، إن صحت ، لم تكن فيها حجة لوجوه عدة ، ويترك من كلامهم وأحوالهم ما هو واضح في الحق الصريح ، والاتباع الصحيح . شأن من اتبع من الأدلة الشرعية ما تشابه منها "(الاعتصام،1/74) شرط صحة هذه الفهوم: لذلك اشترط – رحمه الله – شرطا أساسا يعتبر الأخذ به بمثابة المعيار الذي يعرف به صحيح هذه الفهوم من زائفها . وهذا الشرط هو أن يعرض كل ما جاء عن القوم من هذه الأمور على الكتاب والسنة، فإن قبلاه صح، وإن لم يقبلاه رد ولم يصح.قال – رحمه الله- :" نعرض ما جاء عن الأئمة على الكتاب والسنة ، فإن قبلاه صح ، وإلا لم يصح.فكذلك ما رسموه من الأعمال وأوجه المجاهدات وأنواع الالتزامات "(الاعتصام،1/158). وفي موضع آخر من هذا الكتاب الماتع فصل ما أجمله – ههنا – حيث قال :" كل ما عمل المتصوفة المعتبرون (...) لا يخلو أن يكون مما ثبت له أصل في الشريعة أم لا . فإن كان له أصل فهم خلقاء به كما أن السلف من الصحابة والتابعين خلقاء بذلك. وإن لم يكن له أصل في الشريعة فلا عمل عليه. لأن السنة حجة على جميع الأمة ، وليس عمل أحد من الأمة حجة على السنة. لأن السنة معصومة من الخطإ ، وصاحبها معصوم(...) . فالصوفية كغيرهم ممن لم تثبت لهم العصمة ، فيجوز عليهم الخطأ والنسيان والمعصية كبيرتها وصغيرتها"(الاعتصام،1/157). ونحن – بدورنا- نقول ، وعلى مهيع ما جاء على لسان العالم الجليل أبي إسحاق الشاطبي : إن كل ما جاء به الشيخ عبد السلام ياسين في كتاباته وأقواله ، من الفهوم والعلوم والأذواق والكرامات والكشوف الخاصة به أوبغيره ، وكل ما يعرضه أتباعه في مواقعهم الإليكترونية من مشاهدات ورؤى ؛ فليعرض على الكتاب والسنة ، فإن قبلاه صح وإن لم يقبلاه رُدَّ ولم يصح، لأن كل الناس يؤخذ من أقوالهم ويرد ؛إلا صاحب الرسالة – صلى الله عليه وسلم- .فالشيخ وجماعته ليسوا أنبياء ولا معصومين ،فأقوالهم وأفعالهم محكومة بالشرع ،وليست حاكمة عليه . ولا علينا إن قام لنا الدليل على خلاف ما يقولونه أو يدعونه ، ولم يقم لنا الدليل لصالحه ؛ فالسنة هي الحاكمة في هكذا أمور .إذ كل ما أعطيته الأمة من الكرامات والتأييدات والأسرار ، وإن كانت غير مسبوقة من حيث شكلها وصورتها ، ولا نقل عن الرسول – صلى الله عليه وسلم- مثلها ، فهي أفراد وجزئيات داخلة تحت كليات ما نقل عن الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم- ومقتبسة من مشكاته ، وكل ما كان على خلاف ذلك فهو ضلال وخرف ليس له في الصحة مدخل ، ولا في كرامات الحبيب منبع. فلا يتوهمن متوهم أنه حصل على خير بدون وساطته – صلى الله عليه وسلم- ، كيف و هو القدوة العليا التي يهتدى بها ، والسراج المنير الذي يستضاء به في سلوك الطريق. خاتمة: فالصحيح- إذن-من هذه الفهوم والأذواق والأسرار ، من رؤى ومكاشفات وكرامات وما شاكل ، هو ما وافق شرع الله وسنة رسوله ،لا ما وافق هوى فلان أو عقل علان . والمردود منه ما عدِم أصلا من الدين ، لا ما استعصى على منهج ، أو حار دونه عقل. فهذه رسالة نوجهها إلى كل الكاتبين في هذا الموضوع كيما ينتهجوا هذا المنهج ، ويسيروا هذا المسير ، وهم يعالجون قضايا التصوف عموما ، وما ذكر منها في كتب الشيخ عبد السلام ياسين على وجه الخصوص . وهي كذلك رسالة نوجهها إلى كل من جعل القرآن والسنة وراء ظهره ، وعقله القاصر رشيده ودليله ؛ فاستنكر من هذه الفهوم ما لا حجة له ولا برهان على بطلانه اللهم إلا قصور عقله على بلوغ مراده .وإلا فليفكر في غيب الله – عز وجل- بمنهجه المادي القاصر هذا ، وسيجد النتيجة كفرا به تعالى .والعياذ بالله !! -------------------- (+) هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي.ولد بشطبة وهي مدينة تقع جنوب غرب بلنسية، وترعرع بغرناطة.يعتبر أحد أئمة العلم المالكي .جمع – رحمه الله- إلى الأصول والفقه ، التفسير والحديث والأدب واللغة والتصوف والمنطق والكلام... له مؤلفات كثيرة ونفيسة من أشهرها كتاب "الموافقات" الذي حظي باهتمام الدارسين بشكل ملفت .ولا غرو في ذلك فقد أكمل به وضع المنهج الأصولي على حد تعبير الدكتور سامي النشار. توفي – رحمه الله- سنة 790ه/1388م .