المغرب يتوعد بالرد الحازم عقب إحباط محاولة إرهابية في المنطقة العازلة    وسط موجة من الغضب.. عودة الساعة الإضافية من جديد    ترامب يدعو لخفض أسعار الفائدة: الفرصة المثالية لإثبات الجدارة    وزير الخارجية الفرنسي يزور الجزائر بعد أشهر من التوتر بين البلدين    الرجاء حامل اللقب يودع كأس العرش على يد الاتحاد الاسلامي الوجدي    الرجاء يفتقد خدمات بولكسوت في "الديربي" أمام الوداد    آسفي .. توقيف شخصين من ذوي السوابق القضائية لهذا السبب    طقس الأحد.. أمطار متفرقة ورياح قوية بهذه المناطق من المغرب    الجديدة.. توقيف مبحوث عنه اعتدى على سيدة بالسلاح الأبيض وسط الشارع    المغرب التطواني ينتصر على الوداد الرياضي برسم ثمن نهائي كأس العرش    إصابة أربعة أشخاص في حادث اصطدام سيارة بنخلة بكورنيش طنجة (صور)    الاتحاد الإسلامي الوجدي يقصي الرجاء    اعتصام ليلي بطنجة يطالب بوقف الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة    منتدى يدعو إلى إقرار نموذج رياضي مستدام لتكريس الريادة المغربية    مأساة بحي بنكيران.. وفاة فتاة يُرجح أنها أنهت حياتها شنقاً    بلاغ جديد للمنظمة الديمقراطية للصحة – المكتب المحلي للمركز الاستشفائي الجامعي ابن سينا – الرباط    يوم غضب أمريكي تحت شعار "ارفعوا أيديكم".. آلاف الأميركيين يتظاهرون ضد ترامب في أنحاء الولايات المتحدة    "لن أذهب إلى كانوسا" .. بنطلحة يفضح تناقضات الخطاب الرسمي الجزائري    توقيف أربعيني بطنجة روج بمواقع التواصل لعمليات وهمية لاختطاف فتيات    أمن طنجة يفند أخبار اختطاف فتيات    حركة حماس تشيد بموقف المهندسة المغربية ابتهال أبو سعد واصفة إياه ب"الشجاع والبطولي"    باريس سان جرمان يحرز بطولة فرنسا    طنجة تتصدر مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية.. وهذه توقعات الأحد    طنجة .. وفد شبابي إماراتي يطلع على تجربة المغرب في تدبير قطاعي الثقافة والشباب    هذا ما يتوقعه المغاربة من المعطي منجب؟    المغرب يرسخ مكانته كحليف تاريخي و إستراتيجي في مواجهة سياسة ترامب التجارية    تحالف استراتيجي بين الموريتانية للطيران والخطوط الملكية المغربية يعزز الربط الجوي ويفتح آفاقًا جديدة للتعاون الإفريقي    الدار البيضاء تستحضر ذكرى 7 أبريل 1947.. محطة مشرقة في مسار الكفاح الوطني والمقاومة    جهة الداخلة وادي الذهب تستعرض تجربتها التنموية في المنتدى العالمي السادس للتنمية الاقتصادية المحلية    فرنسا: خسائر ب15 مليار دولار بسبب التعريفات الجمركية الأمريكية    العودة إلى الساعة الإضافية وسط رفض واستياء واسع بين المغاربة    الفكر والعقل… حين يغيب السؤال عن العقل المغربي في الغربة قراءة فلسفية في واقع الجالية المغربية بإسبانيا    الأسرة الكروية المغربية تودّع محسن بوهلال بكثير من الحزن والأسى    دعم الدورة 30 لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط ب 130 مليون سنتيم    رحلة ترفيهية في القطب الجنوبي تقيل نائب الرئيس الإيراني    أداء أسبوعي خاسر ببورصة البيضاء    انطلاق الدورة الربيعية لموسم أصيلة الثقافي الدولي بمشاركة فنانين من سبع دول    الفئران قادرة على استخدام مبادئ الإسعافات الأولية للإنعاش    دعوات للمشاركة المكثفة في مسيرة "الرباط الوطنية" للتنديد بالمحرقة المرتكبة في غزة    عرض مناخ الأعمال وفرص الاستثمار في المغرب خلال ملتقى بباريس    سفير جمهورية السلفادور: المملكة المغربية تعد "أفضل" بوابة للولوج إلى إفريقيا    'مجموعة أكديطال': أداء قوي خلال سنة 2024 وآفاق طموحة    شركة "رايان إير" تُسلّط الضوء على جوهرة الصحراء المغربية: الداخلة تتألق في خريطة السياحة العالمية    في قلب باريس.. ساحة سان ميشيل الشهيرة تعيش على إيقاع فعاليات "الأيام الثقافية المغربية"    "نفس الله" عمل روائي لعبد السلام بوطيب، رحلة عميقة في متاهات الذاكرة والنسيان    وكالة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية: النظام التجاري العالمي يدخل مرحلة حرجة مع فرض الولايات المتحدة رسوما جمركية جديدة    بحضور عائلتها.. دنيا بطمة تعانق جمهورها في سهرة "العودة" بالدار البيضاء    الوزيرة السغروشني تسلط الضوء على أهمية الذكاء الاصطناعي في تعزيز مكانة إفريقيا في العالم الرقمي (صور)    الوديع يقدم "ميموزا سيرة ناج من القرن العشرين".. الوطن ليس فندقا    تكريم المغرب في المؤتمر الأوروبي لطب الأشعة.. فخر لأفريقيا والعالم العربي    دراسة: الفن الجماعي يعالج الاكتئاب والقلق لدى كبار السن    دراسة: استخدام المضادات الحيوية في تربية المواشي قد يزيد بنسبة 3% خلال 20 عاما (دراسة)    خبراء الصحة ينفون وجود متحور جديد لفيروس "بوحمرون" في المغرب    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    









نهاية مؤلف "نهاية أسطورة"
نشر في هسبريس يوم 01 - 12 - 2017

بعد الضجة الإعلامية التي أثارها كتاب "صحيح البخاري نهاية أسطورة"، كانت ردت فعل الناس تجاه هذا الكتاب غير طبيعية، وهذا ما يبرز لنا قلة الوعي الاجتماعي، وغياب حرية الاختلاف، خصوصاً بعد منع توقيعه، وتهديد مؤلفه..
ما دفعني إلى كتابة هذا المقال، هي الأفكار والقضايا التي طرحها الكتاب، والتي ظلت حية في الواقع الاجتماعي، وظلت محل تساؤل لدى عامة الناس؛ رغم الضجة الإعلامية المعاكسة حول الكتاب، والسرقات العلمية التي تُوّجَت بها هذه الدراسة، لكن إذا لم تناقش أفكار هذا الكتاب، ولم يُحسَم فيها من حيث المنهج العلمي، ستولد من جديد مع كتاب آخر، فالأفكار هي كالإنسان تتجدد باستمرار.
رغم المناقشات السابقة لبعض هذه الأفكار، إلا أنني اخترت مناقشة الأسس المنهجية التي يقوم عليها هذا الكتاب، لأن الكثير من الشباب، جعلوا من هذه الأفكار مرجعاً لهم للطعن في السنة النبوية، والأحاديث، والروايات بشكل عام.
في قراءتنا لأيّ دراسة أكاديمية أو بحث علمي، أول شيء نناقشه هو المنهج، ولا نناقش النتائج، فإذا كان منهج الكتاب ومنطلقاته ومبادئه التي اعتمد عليها صحيحة، كانت نتائجه صحيحة؛ وإذا كان منهجه غير علمي، كانت نتائجه غير علمية، ولو كانت نتائج البحث منطقية في نظر القارئ، (فالمنهج الأرسطي على سبيل المثال وإن كان منطقياً في نتائجه، لكنه منهج غير علمي في عصرنا، ونتائجه خاطئة ومتجاوزة بعد غاليلي ونيوتن وانشتاين).
وعليه، سنقف سريعاً مع عنوان الكتاب (صحيح البخاري نهاية أسطورة)، لننتقل بالقارئ إلى دراسة المنهج والأفكار التي تأسس عليها هذا الكتاب، لنحسم بشكل علمي في حقيقة فرضية نهاية أسطورة البخاري وبنائها العلمي.
عنوان الكتاب له دلالات مُسبقة، تعكس الخلفية الفكرية، والتصورات الخاطئة، التي تحكم البنية النفسية والفكرية للكاتب في علاقته مع "صحيح البخاري"، فالعنوان من الناحية الشكلية يطغى عليه الجانب الإيديولوجي.
أما مضمون العنوان "نهاية أسطورة"، لا نجد له علاقة أساسية بمضمون الكتاب، فالكتاب لم يتناول "صحيح البخاري" سواء من حيث المنهج الذي بُني عليه، أو من حيث الصَّنعة الحديثية؛ وإنما حاول التعامل مع الإمام البخاري وكتابه، بكلام عامي من صفحات التواصل الاجتماعي، وشبكة الإنترنت، والموسوعات الإلكترونية، التي لا ترقى إلى مستوى التخصص في الموضوع.
من جهة أخرى، لم يخضع الكتاب لمنهج علميّ في الاستدلال على فرضية أسطورية "صحيح البخاري".. فقد مزج بين إنكاره لعلم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، وغيرها من العلوم التي تتأسس عليها الرواية الإسلامية، وفي نفس الوقت اعتمد على الروايات الإسلامية لإثبات طرحه، دون أن يميز بين الصحيح والضعيف، وهذا خلل في المنهج والمنطلقات والتصورات.
أما من حيث القضايا، فالكتاب عموماً ينطلق من ثلاثة أفكار أساسية، يبني عليها الكاتب فرضية أسطورية الإمام البخاري وكتابه الصحيح، فإذا سقطت إحدى هذه المنطلقات، سيسقط البناء الذي أسس عليه فرضيته؛ وبالتالي سأحاول مناقشتها سريعاً:
المنطلق الأولى: منع التدوين في عصر النبوة، حيث يقول في سياق حديثه عن علماء الحديث: "وبعدها يطلعون بوجوههم الوقحة على الناس ليسردوا عليهم أحاديث وآثار في منع كتابة وتدوين الأحاديث، في (سكيزوفرينيا) غريبة جداً... والأخطر من ذلك أن هؤلاء الشيوخ لم يطرحوا على أنفسهم ولو لحظة في خلوة مع الذات، لماذا تأخر تدوين السنة لحوالي مائة سنة على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي بهاته القيمة في التشريع "1.
لم يفرق الكتاب بين عملية التدوين وعملية الجمع، فتدوين القرآن (مثلاً) كان في عصر النبوة، أما جمعه في مصحف واحد فكان بعد موته صلى الله عليه وسلم.. كذلك الأحاديث النبوية تم تدوينها في عصر النبوة، لكن عملية جمعها كانت في عصر عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- الذي أمر بجمع ما تم تدوينه من قِبل الصّحابة والتّابعين.
لم يصح أيّ حديث في سياق النهي عن كتابة الحديث، سوى حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه الإمام مسلم في "مسنده الصحيح"، مع اختلاف بين البخاري ومسلم في رفعه ووقفه. والإمام البخاري في صحيحه بوَّب باباً سماه (باب كتابة العلم)، ذكر فيه جملة من الأحاديث التي تؤكد تدوين الأحاديث النبوية في عصر النبوة، ومن ذلك الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو، الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلاّ حق"2 ،والذي قال فيه أبو هريرة رضي الله عنه: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثاً عنه مني، إلاَّ ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب"3، ويقول عبد الله بن عمرو عن صحيفته: "هذه ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد"4، وذكر الإمام البخاري في نفس الباب صحيفة علي بن أبي طالب، والصحيفة التي كُتبت لأبي شاه، وغيرها من الصحف التي ذُكرت في مواضع أخرى، فلو أن صاحب الكتاب قرأ "صحيح البخاري" كاملاً، لما أنكر تدوين الحديث في زمن النبوة.
وعليه، فتدوين السنة كان في زمن النبوة، ولم يتأخر إلى ما بعده كما يظن الكاتب، والذي تأخر هو عملية جمع ما تم تدوينه وحفظه؛ يقول ابن شهاب الزهري: " أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السُّنن فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرضٍ له عليها سلطان دفتراً "5.
فمنطلق إنكار تدوين الأحاديث النبوية في زمن النبوة، هو منطلق غير علميّ من أساسه، ولا يمكن بناء فرضية نهاية أسطورة البخاري عليه؛ والأدلة في تأكيد عملية التدوين كثيرة، اكتفيت بذكر الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو.
المنطلق الثانية: إنكار علم الرجال، معتمداً على تدوينة على الفايسبوك خالية من البناء العلمي للموضوع، حيث يقول: "يقول الدكتور عماد حسن رحمه الله، في مقالة له نشرها على صفحته الفيسبوكية بعنوان خرافة علم الرجال"6. ثم يقول: "إن علم الحديث الذي يدعيه الشيوخ ما هو إلاّ علم الكذب وسلق البيض"7.
يقال قديما.. من جهل شيئاً أنكره، ومن جهل شيئاً عاداه، والجهل يفعل بصاحبه ما يعجز العدو عنه، فلولا منهج المحدثين الذي قام على علم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، لقال من شاء ما شاء؛ فعلم الرجال تأسس على يد الليث بن سعد (ت175ه)، وابن المبارك (ت181ه)، وابن ربيعة (ت202ه) وغيرهم، وكل هؤلاء من جهابذة رجال العلم في زمانهم، واستمر خط التأليف والتأصيل فيه إلى القرن 9 الهجري مع الحافظ العراقي (ت806ه)، وتلميذه ابن حجر العسقلاني (ت852ه)، وبعده تلميذيه الحافظ السخاوي (ت902ه)، وجلال الدين السيوطي (ت911ه).
وعلم الرجال هو نابع من علم الجرح والتعديل، الذي تأسس على يد عبد الله بن عباس (ت68ه)، وأنس بن مالك (ت93ه) رضي الله عنهما، ومن كبار التابعين سعيد بن المسيب (ت94ه)، وبذلوا جهوداً في التأليف للحد من خطورة الوضع (وضع الأحاديث كذباً) الذي هدَّد المصدر الثاني للتشريع. فكيف ينكر صاحب كتاب "نهاية أسطورة" كل هذه العلوم التي كتب فيه العلماء تَواتُراً عبر الأجيال، والمكتبات الإسلامية تزخر بهذه المؤلفات التي يصعب عدها لكثرتها، فهذا من عجيب الأساطير التي جاء بها كتاب "نهاية أسطورة" ؟! وصدق من قال: "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب".
المنطلق الثالثة: القول بأسطورية شخصية البخاري وكتابه "الجامع الصحيح" بسبب غياب المخطوط الأصلي للكتاب، حيث يقول: "نتحدى هؤلاء الشيوخ المداحين، أن يقدموا لنا المخطوطة الأصلية التي خطها الشيخ البخاري عندما كان يؤلف كتابه الجامع الصحيح... لا يوجد في العالم أجمع مخطوطة واحدة بخط محمد بن إسماعيل البخاري، لصحيح البخاري"8. ويقول "إن صحيح البخاري كتاب مجهول المؤلف، لا أصول له، ولا حقيقة لوجوده، فهو كتاب لقيط، جمع بين طياته أهواء أناس، وضعوا فيه ما أرادوا ليبرروا أفعالهم، ويؤسسوا عليها كهنوتهم"9.
وهذه مجازفة علمية كبيرة، لأن فرضيته تقوم على غياب المخطوط الأصلي، فإذا ظهر المخطوط المفقود، سينتهي كتاب "نهاية أسطورة"، كما انتهت الكثير من الحقائق التاريخية بعد ظهور (مخطوطات البحر الميت وغيرها)، وما غاب عن الكاتب أنه يوجد في الفاتيكان ما يعادل 20 مليون مخطوط إسلامي، ناهيك عن ما سرقه نابليون من مصر، وما سرقه المستعمر من بغداد والمغرب العربي من كنوز علمية، أما ما أتلفه من مخطوطات علمية وتاريخية، وما أحرقه من تراث المسلمين، فلا يمكن إحصاءه.. ولو انطلقنا من هذه الفرضية فإننا سنقول بخرافة وأسطورية سقراط وأفلاطون وأرسطو، وغيرهم من أعلام الفكر الغربي (اليوناني)، لأن جل كتبهم تفتقر إلى المخطوط الأصلي.
من جهة أخرى إذا اعتمدنا على نفس منهج الكتاب في الاستدلال على أسطورة الإمام البخاري وكتابه، فإننا سنقول بأسطورية "القرآن الكريم" أيضاً، لغياب المخطوط الأصلي الذي كان عند حفصة بنت عمر –رضي الله عنها- والذي قيل بأنه أُحرق.. فهل غياب المخطوط الأصلي "للقرآن الكريم" هو حجة قوية ترقى إلى مستوى القول بأسطوريته، وأسطورية الصحابة الذين كتبوه ؟.
إن المنهج الذي يتأسس عليه الكتاب، والمنطلقات التي بنى عليها فرضية "أسطورة صحيح البخاري" لا ترقى إلى درجة إسقاطه أو الإعلان عن نهايته.
يجب التنبيه إلى أن الإمام البخاري لم يروي أيّ حديث في صحيحه، وإنما خرَّج الأحاديث وحققها ودققها متناً وسنداً، وكتابه "صحيح البخاري" هو عملية نقدية للرواية الإسلامية، كما أن موطأ الإمام مالك هو عملية نقدية، سعى فيها لتجاوز ما أخل به سلفه، واجتنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، وشواذ ابن مسعود؛ فالمدرسة الحديثية التي أعلنها عمر ابن عبد العزيز، لم تكتفي بالجمع فقط، وإنما دققت وحققت ما أخذته عن جيل الصحابة والتابعين.
والعلماء -رحمهم الله- عندما اتفقوا على أن "صحيح البخاري" هو أصح كتاب بعد كتاب الله، لم يقصدوا ما في البخاري من حيث "الدراية"، وإنما قصدوا منهج الإمام البخاري في التحقيق والتدقيق والضبط في التحمل والأداء، حيث يُعتبر منهجه هو أقوى وأدق مناهج علم الحديث في تاريخ المدرسة الحديثية؛ لذلك محاولة إسقاط "صحيح البخاري" يكون بإسقاط منهجه، وليس بمجرد نقد بعض الروايات فيه. وهذا ما يتحدى به "صحيح البخاري" جميع منتقديه على مر التاريخ، فالمنهج الذي تأسس عليه طيلة 16 سنة، جعله يصمد في وجه كل منتقديه سواء من المحدِّثين والمستشرقين وغيرهم.
كما يُعتبر هو الأصح كذلك من حيث طريقة نقله عبر الأجيال، "فصحيح البخاري" لم يُنقل إلينا عن طريق الوجادة (إيجاد نسخة في المكتبة ونقلها)، وإنما نُقل إلينا إما قراءة من الشيخ أو سماعاً منه، وتواتر نقل "صحيح البخاري" عبر سلسلات تاريخية، نقلاً في السطور وحفظاً في الصدور، وروايةً بالسّند، وتدقيقاً في المتن، ونقداً، ودراسةً، وتحقيقاً، وشرحاً، واستدراكاً؛ فكل عصر كان له دور في حفظه إلى أن وصل إلينا. فكما تواتر نقل "القرآن الكريم" شفاهة وحفظاً في الصدور والسطور، كذلك تواتر "صحيح البخاري"، لهذا نقول أن الكتاب هو أصح الكتب بعد القرآن الكريم من حيث منهج نقله وتواتره وحفظه من الخلط والدَّس والافتراء..
أما من حيث الدراية، لم يعتبر "صحيح البخاري" معصوماً بكل حرف فيه، فقد تعرض له علماء الحديث بالنقد والتمحيص، حتى كتب المحدث الكبير أبي حاتم الرازي (ت327ه) أول نقد علمي لصحيح البخاري سماه "الأوهام الواقعة في البخاري" وهو متخصص في الجرح والتعديل والعلل، كما ذكر الحافظ ابن عدي الجرجاني (ت365ه) في كتابه "الكامل في الضعفاء" كل من تكلم فيه ولو كان من رجال الصحيحين، وغيرها من الدراسات النقدية التي تناولت "صحيح البخاري" عبر العصور، وهذا يعكس النضج الفكري لدى علماء الحديث، حيث لم يسمح لهم منهجهم أن يُسَلِّموا بكل ما فيه من حيث الدراية، لكنهم احترموا مكانة "صحيح البخاري" لأنهم عرفوا قدره؛ بخلاف كتاب "نهاية أسطورة" الذي حاول أن يهدم ما تم بناءه منذ قرون معتمداً على فرضية غير مؤسَّسة. وصدق من قال: "ما أهانَ أحدٌ كتابَ عِلم إلاّ لجهله بما فيه"10.
وعليه، فالحركة النقدية أمر ضروري لتطور العلم واستمرار الدين، شرط أن يكون هذا النقد واعياً بالتاريخ وخصوصيات العلوم ومناهجها؛ فكل نقد ل "صحيح البخاري" إذا أُطر خارج المنهج، وخارج الصنعة الحديثية، سيكون مجرد كلام تسود به الأوراق - لتباع للناس بثمن باهض-.
فالعلوم الشرعية تخصص دقيق، تميزت به الأمة الإسلامية، والمستشرقين أنفسهم عجزوا عن مجاراة علماء الإسلام في هذا المجال، بل وأُعجبوا من دقة هذه العلوم، ومنهم المستشرق الألماني تيودور نولدكه في كتابه (تاريخ القرآن).
على العموم، الكاتب خرق مراحل البحث العلمي، وانطلق من مقدمات خاطئة ترفض علوم الحديث (علم الرجال، علم الجرح والتعديل، علم الرواية والدراية، علم مصطلح الحديث، طرق التحمل والأداء، الخ) وحاول من خلال عقله نقد "صحيح البخاري" الذي تأسس على هذه العلوم، وهذه معادلة لا تستقيم.
ختاماً.. نحن في حاجة لأقلام مسؤولة عما تكتبه، فالسرقات العلمية أمر لا يليق بمن يريد إسقاط "صحيح البخاري"، وأخطر ما في البحث العلمي هو النقد بدون توثيق. لذلك من العيب أن يسعى الإنسان إلى الشهرة أو التجارة ويكون من الذين {يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}11 في قضايا علمية دقيقة، يصعب على غير أهل التخصص مناقشتها.
وبالتالي، فالإمام البخاري -رحمه الله- ستظل مكانته العلمية شامخة، لما قدمه من تضحيات صادقة، وجهود جبارة، في سبيل جمع الأحاديث النبوية، وتحقيقها وتدقيقها وتمحيصها،{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}12.
الهوامش:
1- صحيح البخاري نهاية أسطورة، ص21.
2- رواه الإمام أحمد في مسنده 2/163، والدارمي في سننه- باب من رخص في كتابة العلم 1/103، وأبو داود في كتاب العلم 4/60.
3- صحيح البخاري، كتاب العلم: 3،باب كتابة العلم: 39، رقم الحديث: 113.
4 - جامع بيان العلم وفضله 1/73.
5- المصدر السابق 1/76.
6- صحيح البخاري نهاية أسطورة، ص 45.
7- المصدر السابق، ص 126.
8- المصدر السابق، ص 163، 164.
9- المصدر السابق، ص 280.
10- تقييد العلم، ص 191.
11- آل عمران:188.
12- الرعد:17.
*باحث متخصص في الفكر الإسلامي والأديان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.