حاولتُ، في مقالي السّابق («"صحيح البُخاريّ" أمام باطل "عَبَدة الأهواء"!»)، أن أُبَيِّن أنّ هُناك تِسْعَ شُبهات كُبْرى كثيرًا ما يَلُوكها الذين ابْتُلوا بالطّعْن في "الحديث" و"السُّنّة" النَّبَويَّيْن باسم "العقل" و"العلم" من دون تَبيُّن كافٍ من قِبَلهم. ولا شكّ في أنّ كُلّ قارئ نَبيهٍ يُدْرِك أنّ مُناسبةَ ذلك المقال تَتمثّل في الجدل المُثار أخيرًا من جرّاء ما وَرَد في كتاب «صحيح البخاري: نهاية أسطورة» لصاحبه "رشيد أيلال" (2017)، وهو كتابٌ أتى كثَمَرة لكُلّ الأعمال التي سَبقته إلى الخَوْض في نفس الموضوع ابتداء بالحركة الاستشراقيّة (بالخُصوص في وَجْهها المُنْتصر للتُّراث اليهوديّ-المسيحيّ) وانتهاءً بأدعياء «الفِكْر الحُرّ» أو المُتستِّرين خَلْفه. وإذَا كان من حَقّ كُلّ قارئٍ أن يَنْتقد ما يقرأ بحَسَب ما يبدو له تماما كما من حقّ كُلّ كاتب أن يُفكِّر ويُعَبِّر بحسب ما يَرْتئيه لنفسه، فإنّ الرِّهانَ الأكبر لاستعمال "العقل" عُموميًّا يبقى قائمًا في أن تُراعى مُقْتضَياتُ "العَرْض" و"الاعتراض" بعيدًا عن آفات «خطاب اللَّغْوَى» كرُكامٍ من الأقوال تُرْسَل بلا تَبْيِين مُحْكَم أو تَدْليل مُناسب. وفي إطار حَقّ النّقْد الذي يكاد أدعياءُ «الفِكْر الحُرّ» يَزْعُمونه كامتياز حَصْريّ خاصّ بهم، يأتي هذا المقال الذي ستَتْلُوه - بإذن اللّه تعالى- مقالاتٌ أُخرى. وبخصوص الكتاب المذكور، لا بُدّ من التّنْبيه على أنّ نَقْدَه يُمْكِن أن يَتمّ من مَداخل مُتعدّدة ومُتباينة. وأجدُني أُفضِّل، ابتداءً، أن أَنْظُر في النّتائج التي ظنّ "رشيد أيلال" أنه تَوَصّل إليها، وفي ما يُمْكِن أن يَترتّب عليها من آثار قريبة أو بعيدة. ولعلّ هذا المدخل في النّقْد يُعَدّ أوضح وأسهل من غيره. إنّ قارئ ذلك الكتاب سيرى أنّ الأمرَ فيه يَتعلّق باستدلال طويل قد يَصحّ، تَجَوُّزًا، أن يُسْتعاد باختصار على النّحو التّالي: 1- كُلّ المَرْويّات المنسوبة إلى "الرّسول" (صلّى اللّهُ عليه وسَلّم) نُصوصٌ تاريخيّة لا قُدسيّة لها؛ 2- تَمْحيص تلك النُّصوص بواسطة الآليّات العِلْميّة والعقلانيّة يكشف عن كونها تَحْمِل في مضامينها تناقُضاتٍ وخُرافاتٍ تُعارض مُقْتضياتِ "المنطق" و"العقل" وتُخالف صريحَ النُّصوص القُرآنيّة؛ 3- ذلك التّمْحيص النَّقْديّ قام به "مُثَقّفون" و"باحثون" من خارج المُؤسّسات الدِّينيّة و، أيضا، "فقهاء" و"مُحَدِّثون" ينتمون إلى هذه المُؤسّسات (كالأزهر)؛ 4- «صحيح البُخاريّ» من الكُتُب التي تَعرَّضتْ لكَثيرٍ من النَّقْد؛ 5- أَبْرَزَ نقدُ «صحيح البُخاريّ» أنّ فيه أحاديث مُناقضة ل"العقل" و"العِلْم" و"القُرآن"، وأحاديث مَنْحُولة ومأخوذة من الإسرائيليّات؛ 6- رغم ذلك النّقْد الذي تعرض له «صحيح البُخاريّ»، يَظَلُّ مُعظم الشُّيُوخ والفُقهاء والمُحَدِّثين مُتمسِّكين بصحّته حيث يعتبرونه «أصحّ الكُتُب بعد كتاب اللّه» ويُشْهِرُون سلاح التّفْسيق والتّكْفير والزَّنْدقة في وَجْه من يُنْكِر ما وَرَد فيه من أحاديث تُعارض «كتاب اللَّه» المُوحى إلى نبيّه؛ 7- مُعْظَم الشُّيوخ يَعُدُّون «صحيح البُخاريّ» كتابًا فوق "النّقْد" و"العِلْم" و"العقل"، بل فوق "القُرآن" نفسه؛ 8- أنا (رشيد إيلال) بَحَثْتُ – كغيري من الباحثين- في أحاديث «صحيح البُخاريّ» فوَجَدْتُ مئات منها تَتضمَّن كوارث خطيرة، بعضها يُسيء إلى مقام الألوهيّة، وبعضها يُسيء إلى مقام النُّبوّة، وبعضها يُسيء إلى مقام الإنسان وإلى المرأة بالخصوص؛ 9- حينئذٍ، ثار في ذِهْني سُؤالٌ عن أصالة «صحيح البُخاريّ» وعَمّنْ يَكُون أَلَّفَه؛ 10- يَقُودنا البحثُ إلى أنّ ما يُسمّى «علم الحديث» ليس سوى علمٍ زائفٍ، فهو لا يستوفي شُرُوط المعرفة العلميّة لعَدَم وحدة موضوعه (عدم تَحْديد معنى "الحديث" بدقّة تُمَكِّن من التّمْييز بين «كلام اللّه» و«كلام البشر») ولعَدَم قابليّة منهجه للاختبار التَّجْريبيّ (طريقة "المُحَدِّثين" تَعْتَمِد على الأهواء الشّخصيّة والمذهبيّة وعلى الانتقاء المِزاجيّ)؛ 11- «علم الحديث» قائمٌ على تناقُض أساسيّ: إثبات أحاديث نبويّة تَمْنَع الصّحابةَ منعًا قَطْعيًّا من تَدْوين كلام "الرّسول"، وإيجاد أحاديث أُخرى تُجيز تَدْوينه؛ ممّا يَدُل على أنّ "المُحدِّثين" كانوا أوّل من خالف "الحديث"؛ 12- كتابة "الحديث" (بما هو كلام البشر) اتِّهامٌ لكتاب اللّه بالنَّقْص، بل جَعْلُه مُساويًا لكلام البشر؛ 13- «علم الحديث» يَجْعلُ "السُّنّة" قاضيةً على «كتاب اللّه» ("القُرآن")، بحيث تُعَدّ ناسخةً لآياته وأحكامه؛ 14- "الأحاديث" نتاجٌ لصراعاتٍ وحُروب بين "الصّحابة" من حيث انتماءاتهم القَبَليّة والطّائفيّة والسياسيّة، فهي أحاديث وُضِعَتْ لتَبْرِير مواقفهم وآرائهم وأوضاعهم؛ 15- "الأحاديث" تَجْعَل "الصّحابة" مُقَدَّسين وفَوْق كُلّ انتقاص أو انتقاد كأنّهم من "الأنبياء"؛ 16- البحث في سِيَر "الصّحابة" يُبَيِّن أنّهم لَيْسُوا عُدُولًا، لأنّهم كانوا مُختلفين ومُتنازعين يَتّهِمُ بعضُهم بعضا؛ 17- أدّى "الحديث" إلى جنايةٍ كُبرى تَتمثّل في هَجْر «كتاب اللّه» والنِّيابة عنه في تَشْريع الأحكام وتقرير العقيدة وبيان العبادات، بما يُفيد أنه يَضَعُ دينًا آخر لا علاقة له ب"القُرآن"؛ 18- "محمد بن إسماعيل البُخاري" يُعَدّ الشّخصيّة الدِّينيّة الأكثر تأثيرا في التاريخ الإسلاميّ؛ 19- رغم الثّناء المُبالَغ فيه على شخصيّة "البُخاريّ"، فإنّ سيرته عبارةٌ عن أحلام وأوهام وخُرافات لا تُوافق الواقع ولا يُصَدِّقها العقل؛ 20- التّقْديس الذي أُحيطتْ به شخصيّةُ "البُخاريّ" كان الغَرَض منه تَقْديس كتابه حتّى يَصير مثل "القُرْآن" فلا يَجُوز للمُسْلِم إنكار شيء منه لكيْ لا يقع في الكُفر؛ 21- حِفْظ "البُخاريّ" خُرافةٌ تَجْعَلُه فوق مَقام "الرّسُول" الذي كان يَنسى؛ 22- من النّاحية الحِسابيّة، لا يُمْكن ل"البُخاريّ" أن يَحْفَظ ستمئة ألف حديث، لأنّ جمع هذا العدد يَتطلَّب عُمره بكامله؛ 23- كَوْن "البُخاريّ" لم يُثْبِتْ في صحيحه سوى سبعة آلاف حديث من أصل ستمئة ألف يَجْعَلُه أكبر مُنْكِرٍ ل"الحديث"، فهو إمّا كاذب وإمّا اختار "الأحاديث" التي تُوافق هَواه؛ 24- ليس هُناك إجماعٌ على اعتبار «صحيح البُخاريّ» أصحّ كتابٍ بعد "القُرآن"، لأنّ "الشِّيعة" (وهم نسبةٌ مُهمّة من المُسْلِمين) يُكذِّبُون ما جاء فيه، ولأنّ بين العُلماء من يُفضِّل عليه كتاب "المُوَطَّأ" للإمام "مالك" مُعتبرينه الكتاب الأوّل في "السُّنّة"، ولأنّ هُناك "مُحَدِّثين" كثيرين انتقدوا «صحيح البُخاريّ» (منهم "مُسْلم" و"أبو زرعة الرّازي" و"أبو حاتم" و"الترمذيّ" و"الإسماعيليّ" و"الدّارَقُطْنيّ" و"ابن حَزْم" و"ابن تيميّة" و"الغُماريّ" و"الأَلْبانيّ")؛ 25- "البُخاريّ" مَجْرُوحٌ ومَتْرُوك "الحديث"؛ 26- "البُخاريّ" كان فارسيًّا لا يَعْرِف العربيّة؛ 27- النُّسْخة الأصليّة ل«صحيح البُخاريّ» المكتوبة بخطّ يده غير موجودة في أَيّ مكتبة من مكتبات العالم؛ 28- كتاب «صحيح البُخاريّ» لا يَتّصل اتِّصالًا تامًّا ب«محمد بن إسماعيل البُخاريّ»؛ 29- ليس صحيحًا أنّ "البُخاريّ" تَلقّى عنه كتابه تسعون ألفًا من تلاميذه، لأنّ تَعْليمَ وتَلْقينَ هذا العدد يَحتاج إلى أكثر من سنوات عُمره؛ 30- مات "البُخاريّ" قبل أن يُتِمّ كتابه؛ 31- تَدَخَّلَ تلاميذ "البُخاريّ" فغَيَّرُوا في كتابه عدّة أشياء؛ 32- أقدمُ نُسْخة ل«صحيح البُخاريّ» مُتأخِّرة عن وفاة "البُخاريّ" بأكثر من مِئَتَيْ عام، وهي لا تَحْمِل اسم ناسخها؛ 33- تختلف نُسَخ ورِوايات «صحيح البُخاريّ» بشكل واضح في مَواضع كثيرة؛ وإذَا ثَبَتتْ كُلُّ هذه المُقدّمات (وفقط إِذَا ثَبَتتْ كقضايا تحتمل الصِّدْق والكذب)، فإنه يَصِحّ أن يُسْتنتَج منها ما يلي: أ- مُؤَلِّف «صحيح البُخاريّ» مجهولٌ، إِذْ لا وُجود لمخطوطة واحدة له أو حتّى جُزْء من مخطوطة بخَطّ يده أو خَطّ أحد تلامذته؛ ب- «صحيح البُخاريّ» كتابٌ غير مُكتمل في الأصل، ممّا جعل تلاميذ "البُخاريّ" يَتصرَّفُون فيه بالزّيادة والحَذْف؛ ت- إِذًا، «صحيح البُخاريّ» كتابٌ زائفٌ تمامًا، «فهو كتابٌ لَقيطٌ، جَمَع بين طَيّاته أهواء أُناس وَضَعُوا فيه ما أرادوا ليُبرِّرُوا أفعالَهم، ويُؤسِّسوا كَهنُوتهم، [...]» (ص. 280)؛ ث- ما يَثْبُت على «صحيح البُخاريّ» (ككتاب من دُون أصل مخطوط يَصِلُه بمُؤَلِّفه) يَنْطبق على كُلّ كُتُب "الحديث" بلا استثناء (ص. 243)؛ د- بثُبوت زَيْف «صحيح البُخاريّ»، يَثْبُت زَيْفُ كُلّ ما يُسَمّى «الحديث النّبَويّ» أو «السُّنّة النّبَوِيّة». ذاك مُلَخّص اسْتدلال "رشيد أيلال" في كتابه، وتلك هي النّتائج المُباشرة المُترتِّبة عليه (لم يُصَرِّحْ بها جميعا). وقد نُسَلِّم بصِحّة هذا الاستدلال كمُقدِّمات مُثْبَتة تَسْتلزم نتائجَها الأكيدة من دُون أَيِّ إِشْكال. وعليه، فإنّ ما عُرِف عند عُلماء المُسْلِمين باسم «صحيح البُخاريّ» يَصيرُ في حُكْم المَعْدُوم بحسب "رشيد أيلال"، ممّا يُؤَكِّد نهاية الأُسطورة المُتعلِّقة بكتاب «صحيح البُخاريّ» بصفته أَصحّ كُتُب "الحديث" أو، كما يقول جمهور عُلماء المُسْلِمين، «أصحّ كتابٍ بعد كتاب اللّه». ولذا، فلا يبقى إِلّا "القُرآن" بصفته «كتاب اللّه» المقطوع بصِحّته وتَواتُره. لكنّ المُشْكلات الحقيقيّة بالنِّسبة إلى كُلّ مُسْلِمٍ مَعْنيٍّ حقًّا بحِفْظ دِينه لا تَبتدئ إِلّا على أساس قَبُول تلك النّتيجة الكُبرى. فإِذَا ثَبَت زَيْفُ «صحيح البُخاريّ» بما هو «أصحّ كُتُب الحديث»، فإنه لا يَتأكّد فقط أنّ كُلّ ما يُعْرَف باسم «الحديث النَّبَويّ» أو «السُّنّة النَّبَويّة» يَصيرُ زائفًا، بل يتأكّد أنّ كُلّ ما نُقِل إلينا عن طريق "الصّحابة" غير العُدُول وعن طريق «العُلَماء المَزَيَّفِين» إنّما هو هُراءٌ مَحْضٌ، مِمّا يَقْتضي أنّ "القُرآنَ" نفسَه لا يُمَثِّلُ «الوَحْي الإلاهيّ»، بل هو نَصٌّ تاريخيٌّ من وَضْع أُولئك البَشر بكُلّ أهوائهم ونَواقصهم! ولو صَدَّقْنا "رشيد أيلال" في ظَنّه بأنّ "القُرآن" هو وَحْده الذي يَفْرِض نفسَه في «الإسلام/الدِّين»، فما الذي يَترتّب من نتائج على هذا القول (وبغَضّ النَّظَر عن مدى صحّته في سياق اتِّهام "الصّحابة" بعدم العَدالة وتَزْيِيف علم "المُحَدِّثين")؟ لا بُدّ، أَوّلا، من الانتباه إلى أنّ "الرّسول" نفسَه لن تَعُود له أَيّ أهميّة بعد أنْ صار "القُرآنُ" بين أيدي النّاس، فهو ليس أكثر من «ساعي بَرِيد» انْتَهَتْ مُهِمّته بمُجرّد ما بَلَّغ "الرِّسالة" إلى من يَهُمُّه الأمر (من الذين يَحِقّ لهم أن يَقْرَؤُوها إنْ شاؤُوا، وأنْ يَقْرَؤُوها كيفما يتراءى لهم!). وهكذا، فبَعْدَ إِثْبات بُطْلان «علم الحديث» وإِنْكار وُجود "الحديث" و"السُّنّة" النَّبَوِيَّيْن، يَصيرُ بِوُسْع المرء أن يُرَتِّب - عقب النّتائج السّابقة- النّتائج التّالية: ذ- لا مجال للوُثُوق بعدالة "الصّحابة" وتابِعيهم؛ ر- لا سبيل لإثبات صِحّة "القُرآن" كنَصّ نُقِلَ بالتّواتُر؛ ز- يَمْتنع أن يُعَيَّن «الإسلام/الدِّين» كأُصول اعتقاديّة وفُرُوض تَعَبُّديّة ثابتة ثُبُوتا قَطْعِيًّا؛ س- يَمْتنع أن يَحْصُل الإجماع حول أَيِّ حُكْم شَرْعيّ في "القُرآن" الذي لا يَعُود - في مُعْظَمه- سوى آيات مُتشابهات؛ ش- يَحْتمل نَصُّ "القُرآن" ما لا يَتناهى من التَّأْوِيلات المُتضارِبة؛ ص- امْتناع قيام "الفِقْه" كعِلْمٍ يَشْتغل ب«اسْتنباط الأحكام من نُصُوص "القُرآن" و"السُّنّة" كأحكام تُحَدِّد شَرْعيًّا أفعالَ المُسْلِم المُكلَّف إيجابًا أو مَنْعًا أو نَدْبًا»؛ ض- امْتناع قيام «عِلْم الكلام» في اشْتغاله ب«أُصُول الدِّين»؛ ط- امْتناع قيام «عِلْم التّفْسير» في اشْتغاله ببَيان المُراد الإلاهيّ في آيات كتابه؛ ظ- لا يجب أَيُّ شيء في تَحْديد الانتماء إلى "الإسلام" كدِين مُتميِّز عن غيره من "المِلَل" و"النِّحَل"؛ ع- من حَقّ أَيّ شَخْصٍ أن يَتقوّل على «الإسلام/الدِّين» من دُون قَيْدٍ أو شَرْط في إطار حُرِّيّة التّفْكير والتّعْبير المَكْفُولة قانونيًّا للجميع بلا تَمْييز؛ وحينما يَصِلُ المَرْءُ إلى هذا المُسْتوى من تَرْتيب النّتائج، فإنه لنْ يَلْبَث طَويلًا حتّى يَنْتهي إلى إِنْكار "القُرْآن" و"النُّبُوّة" فيَطّرِح، من ثَمّ، "الإسلام" كجُمْلة أساطير أو خُرافات يجب أن تَسْقُط بسُقوط «الأُسطورة/الخُرافة» المُؤَسِّسة («علم الحديث» في اشْتغاله ببيان صِحّة كُلّ "مَنْقُول" أو "مَسْمُوع" عن «رَسُول اللّه»). وهكذا، فكتابُ "رشيد أيلال" مُهِمٌّ جدًّا بهذا المعنى، إنه الثّمَرة ما قبل الأخيرة لسِلْسلةٍ من المُحاوَلات في هَدْم "الإسلام" من داخله. ومن هُنا يأتي ابْتهاج كثيرٍ من أَدْعياء "العَلْمانيّة" به وقيامهم بالدِّفاع المُتحمِّس عنه. ولكنْ، لن يَكُون اسْتدلالُ "رشيد أيلال" على زَيْف «صحيح البُخاريّ» تامًّا ومُنْتِجًا إِلَّا إِذَا أمكنه أن يُرَتِّب عليه كُلّ النّتائج الواجبة مَنْطقيًّا بما فيها اطِّراح "القُرآن" و، بالتّالي، التّخَلِّي عن "الإسلام" الذي لا يَقُوم إِلّا على "القُرآن" و"السُّنة" كما في إجماع جُمهور عُلماء المُسْلِمين. أَجَلْ، لن يَسْتقيم في ذِهْن أو نَفْس مُنْكِر "الحديث" و"السُّنّة" الإيمان ب"القُرْآن" ككتاب اللّه، لأنّ نصّ "القُرآن" لم يُنْقَل إلينا إِلّا عبر سلاسل من الرُّواة حَدَّد "المُحَدِّثُون" مُخْتلف طبقاتهم بتَعْيِين أسماء "الصّحابة" و"تابِعيهم" و"تابعي التّابعين" وهكذا بالتّواتُر حتّى انْتهى مُصْحفًا بين أَيْدِينا بقراءاته المُتواترة. والطَّعْن في عدالة "الصّحابة" و"التّابعين" وكُلّ من تَبِعهم من "العُلماء" و"الأئمّة" يُؤدِّي إلى الطّعْن في صِحّة "القُرْآن" لأنه لا طريق آخر مَوْثُوقًا يُمْكن أن يُوصِلَه إلينا. وما أَشدّ فضيحة كتاب (وكاتبه) إذَا اشتهر بصفته استدلالًا لا يَسْتلزم إِلّا نَتيجةً تَقُوم على نَقْض عُرَى "الإسلام" كآخِر دِين يَصيرُ، من ثَمّ، بالإمْكان وَضْعُه على رَفّ مُهْمَلات الماضي من دُون أدنى تَرَدُّدٍ أو تَحَسُّر في العصر الحديث. أخيرًا، إِذَا لم يَكُن "رشيد أيلال" وأَمْثالُه على استعداد – حتّى الآن على الأقلّ- للقيام باستخلاص كُلّ تلك النّتائج والعمل بمُقْتضاها، فلا يبقى سوى احتمال من اثنَيْن: إمّا أنهم غير جادِّين بما يَكفي لتَحَمُّل المسؤوليّة المعنويّة والأخلاقيّة عن أعمالهم حتّى يَصِحّ احترام خُرُوجهم الآمِن من «أَساطير الأَوّلِين» إلى «أساطير الآخِرين»؛ وإمّا أنهم لا يَمْلِكُون من "العَقْل" و"العِلْم" ما يَكْفُل لهم تَصْحيح أو إقامة مُعْتقداتهم من النّاحية العَمَليّة أو التّداوُليّة على غرار كُلّ النّاس في الماضي والحاضر على سَواءٍ! وبهذا الصّدَد، فإنّ ما يجب على مَنْ قَرَّر نَبْذ "الأساطير" ليس أن يَكتفي فقط باطّراحٍ يَظُنّه سَهْلًا لما سمّاه ب«أُسْطُورة البُخاريّ»، بل عليه أن يُبادِر إلى اطّراحٍ صَعْبٍ ومُكَلِّف جدًا يَتعلَّق بكُلّ أُسطورة من أساطير المُتأخِّرين، التي منها «أُسطورة الواقع» (ك"تَعَيُّن" ثابت موضوعيًّا ومُعْطًى للجميع بنفس الكَيْفيّة) و«أُسطورة العَقْل» (ك"قُدْرة" مُعْطاة لجميع النّاس وك"مَبادئ" مُتعاليَة وكُلِّيّة) و«أُسطورة العِلْم» (كبَحْث منهجيّ يَبْني معرفة حقيقيّة ويَقينيّة من شَأْنها وَحْدها أن تُجيب عن كُلّ أسئلة الإنسان وأن تُعطي الحُلُول لمُشْكلاته) و«أُسطورة التّاريخ» (كمعرفة موضوعيّة تَسْتعيد حقائق أحداث الماضي) و«أُسطورة التَّقَدُّم» (كسلسلة ضَرُوريّة ومُتّصِلة من دَرجات التّحَقُّق والاكتمال الإنسانيَّيْن) و«أُسْطُورة الحُرِّيّة» (كخاصيّة جوهريّة مُلازِمة ل"الذَّات" كوُجودٍ وفِعْلٍ مُسْتقلَّيْن) كأساطير مُؤسِّسة لما يُسَمّى "الحداثة" بما فَرَض نَقْدَها (ونَقْضَها) من قِبَل أجيال من الباحثين والمُفكِّرين الغَرْبيِّين بالخصوص (تَسْتحقّ تلك الأساطير أن يُتَوَقَّف عند كُلّ واحدة منها في مَقال خاصّ قبل الشُّرُوع في النَّقْد المُفَصَّل لدَعاوى كتاب «صحيح البُخاري: نهاية أسطورة»). ولذا، فإنّ مَنْ ارْتأى جَدْوى أن يُعْمِلَ «الشَّكّ الجِذْريّ» إلى نهايته مُطالَبٌ بأن يَتدبَّر ما قد يَتبقّى له من أَمْرِ نفسِه لإيجاد «قِطْعةٍ من اليابسة» يَضَعُ عليها قَدَميه في لُجَّةِ «بِحار الشَّكّ» المُتلاطمة حتّى يُواصل وُجودَه العَبَثيّ كذَرّة غُفْلٍ من الغُبار الكَوْنيّ! وكيفما يَكُن الأمر، فإنّ الطَّعْنَ في حُجِّيّة وصِحّة «السُّنّة النَّبَويّة» يَتجاوز كتابًا مفضوحًا ككتاب "رشيد أيلال"، إنّه يَتعلَّق بمُسْتقْبَل «الإسلام/الدِّين» في المدى الذي دُمِّرَت كُلّ الشُّرُوط الموضوعيّة لإقامته إلى حَدّ أنّ المُؤسَّساتِ الرَّسْميّةَ نفسَها صارتْ – من خلال بعض مُمَثِّليها أو وُكلائها- لا ترى حَلًّا أنسب، في الوقت الحاليّ، من المُساهَمة في عمل التَّدْمير تحت غطاء تَجْفيف مَنابع «التَّطَرُّف الإسلاميّ» وتَجْديد «الخطاب الدِّينيّ». ومن هُنا، فإنّ الاشتغالَ بذاك الطَّعْن يُعَدّ واجبًا على كُلّ من قَدَّر خُطورة الوَضْع ووُفِّق لبَذْلِ ما قد يُسْتطاع من جُهْدٍ لمُواجهته. أمّا الّذين لم يَعُد "العِلْمُ" لديهم يُمَثِّل سوى ذَرِيعةٍ لامْتلاك حَظٍّ من الدُّنيا ولو ببَيْع دِينهم، فلا يَنْفَع معهم أن يُسْتَعْتَبُوا؛ وإنّما أن يُقال لهم كُلٌّ يَعْمَل على شاكلته. («وقُلْ اعْمَلُوا، فسيرى اللّهُ عَملَكم، ورَسولُه والمُؤمنون! وسَتُرَدُّون إلى عالِم الغَيْب والشّهادة، فيُنَبِّئُكم بما كُنْتُم تَعْمَلُون.» [التَّوْبة: 105]). وللّه الأمر من قبل ومن بعد.