قيل لأحدهم : تعرف العلم ؟ أجاب : كنعرف نزيد فيه " .....فضلت أن يكون الافتتاح هكذا بهذه العامية البليغة و ماهي في الحقيقة إلا عربية فصحى مجزومة مع النون المغربية ، اضطرني إليها مقام بعض المزايدين والمؤدلجين والشعاراتيين ( هي تنطبق عليهم وهم في كل الأحوال لا يمثلون سوى أنفسهم وترهاتهم مع الجهات التي تنفخ فيهم لأهداف مشبوهة عبر مواقع ومنابر معلومة ) مثل هؤلاء لا يعرفون إلا أن يزايدوا ويرمون بالغث والسمين إسقاطات وأوهاما من صنع ونسج نوازع ذاتية بالأساس في مجال متشعب موزع على العديد من حقول المعرفة وخلافي على أكثر من مستوى ، ألف فيه الناس المجلدات والمصنفات والموسوعات والقواميس ويمتد بالتمام والكمال على مدى مايناهز 1800 سنة في أقل تقدير.... ذلكم هو مجال اللغة العربية بمستوياتها التاريخية والدينية والتطورية والبنيوية ، ولم يك بوسعي أن أختصر طبقات هؤلاء في النعوت التي نعتهم بها وليس من أخلاقي وقيمي السلوكية والمعرفية أن أطلق أحكام القيمة أو الأنماط الجاهزة ، ولكن النظر الموضوعي الناضج / الرصين يقتضي الكشف عن جملة أوهام وأغاليط لا تمت بصلة إلى أي علم أو بحث أو تنوير كيفما كان نوعه أو أصله وفصله بل لا ترقى تلك الأغاليط حتى إلى مستوى الأيديولوجيات الزائفة ، ولا تزيد عن الشعبويات المقيتة كما لاتربو في قيمتها المعرفية عن زبد البحر الذاهب جفاء أو بعر الآرام الذي يذوب في التراب ، وطبعا ما ينفع الناس يمكث في الأرض والزبد يذهب جفاء ، ولكن أتصور أن فضح الأغاليط بالحجة والبرهان أمر ضروري وأساسي بنفس المستوى الذي نفضح فيه النزعات الظلامية والتكفيرية المتلفعة بالإسلام والمهددة لاستقرار ونسيج مجتمعنا المعتز بغنى ثقافته المغربية ومكوناتها المختلفة من عربية وأمازيغية وحسانية ويهودية ... لينفرز المشهد عبر صورة اختلط فيها الحابل بالنابل وصارمعها الفكر يأتي دائما في المساء والمفكرون آخر من تعطى لهم الكلمة ، ولا أدعي أنني واحد من هؤلاء الجهابذة ، لكني أستطيع أن أدعي معرفة ما بالثقافة واللغة ومفاهيم المواطنة والديمقراطية ومعنى أن تكون منتميا للمغرب ولك صلات روحية وثقافية متينة بالشرق العربي لا ينكرها إلا متنطع ، ثم أخرى مجالية جغرافية وسياسية / مصلحية تربطك ضرورة بالغرب وكل بلاد العالم ، ومع تقديرنا لجهود الخيرين من علماء لغة ومختصين وأساتذة وأكاديميين ، تلك الجهود التي استغرقت من بعضهم سنوات ومباحث مضنية أجدني مضطرا إلى الاختزال وإني - بسبب ضيق المقام ومقتضى الأحوال - أعترف أنه مخل بروح البحث العلمي كما يجب أن يكون .... والسؤال الذي يطرح من جديد : من من المثقفين والباحثين أو المتعلمين (حتى لا نتفيقه في الكلمات ) من لا تغيظه الأغاليط والترهات المضحكة المبكية أحيانا والسخافات والتعليقات التي تنشر هنا وهناك باسم قضايا أو أشباه قضايا أوما يشبه أشباه القضايا في ذهول عن الإشكالات الحقيقية التي توجد على رأس جدول أعمال الشعب المغربي قاطبة : الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية ، وسأقتصر على تفنيد بعض أشباه القضايا تلك في هذا المقال مع التصحيح الضروري مؤملا أن أجد سعة الصدرالجميلة لدى القارئ الذكي أوالمبحر اللبيب على مستوى فهم الخطاب واستيعاب القول الذي ليس فصلا ولكنه الأصل في كل مباحث اللغة العربية لحد الآن على الأقل ، علما بأن المسألة اللغوية هي في نهاية المطاف مظهر معبر بحضوره المتميز وشكله الخاص عن أزمة التدبير وأعطاب الديمقراطية في هذا البلد والمفترض فيها هنا والآن أن تكون تعبيرا عن رأي الأغلبية بكل وضوح ودون لبس أو التباس : الوهم الأول : الذهول عن الزمان والمكان : ثمة أسطورة أو خرافة تربط اللغة العربية بالجمال والبدو والخيام والصحراء هكذا بإطلاق ( أعتقد أنه بالعكس مدعاة للاعتزاز والفخرعند كثير من شعوب الأرض إضافة إلى عرب البادية كما إن هناك أيضا عرب لا يسكنون الصحراء ولا يرعون الجمال وهم الأغلبية !!! ) علما بأن المعرفة العلمية الدقيقة خاصة في مجال العلوم اللغوية والإنسانية تقتضي التنسيب دائما في الزمان والمكان أو بعبارة أوضح في التاريخ والجغرافية ، والحال أن بعضهم وقد أعمته الشعوبية البئيسة والشعبوية الأبأس لا يفرق بين مستويات متعددة تتحكم في مسار اللغة العربية : النشأة / الانتشار / التقعيد / الجمود / النهوض ، ولنا في كل مستوى حديث ونظر يمكن أن يستغرق المجلدات ... وسأقتصر في هذا المفصل على تفنيد وهم الخلط بين الأزمنة والأمكنة ، إذ المعروف عند كل الباحثين والمستشرقين أن الحروف الأبجدية العربية ظهرت أول ما ظهرت مطورة عن اللغتين الأرامية والنبطية خلال القرن الرابع قبل الميلاد والمتقدمين من جهتهما عن الخط الفينيقي بحسبان الإجماع العلمي الحاصل في أن الأنباط قوم عرب اشتغلوا بالتجارة بين أنحاء العالم القديم ، تشهد على ذلك رموزهم وقبورهم وعباداتهم ، ثم صرحهم العظيم بعاصمتهم " البتراء " ( الخزنة ) في الأردن الحالي أو ما كان يسمى إلى عهد قريب بادية الشام ، دون أن نذهب بعيدا في تلاقح الحرف العربي مع الحرف المسند باليمن ولغة الأقوام هناك من حميرية وسبئية.... إلخ منذ 1400سنة قبل الميلاد على الأقل ، واللغة العربية تعد إحدى اللغات السامية المتفرعة عن اللغة الأم وتشترك معها في خصائص تركيبية ومقطعية وبنيوية وهناك طبعا اللغات السامية الشرقية ( العراقية كالأكادية والبابلية والأشورية ) ثم الغربية ( كالفينيقية والأرامية والعبرية ) وأخيرا الجنوبية ( كالعربية الشمالية أو العدنانية و اليمنية الجنوبية أو القحطانية ) ولما سقطت البتراء في يد الرومان سنة 106 م بعد مقاومة مستميتة انتقل الإرث الحضاري ومعه الأبجدية إلى مملكة تدمر العربية ( ملكتها الشهيرة الزباء أو زينب أو زنوبيا ) ثم مدينتي الحيرة والأنبار بالعراق القديم ونحن نعلم مكانتهما في الجاهلية والإسلام مع بلاد الرافدين حيث ظهرت أولى الحضارات البشرية التاريخية وعرف الإنسان الكتابة ، مستوعبة الكثير من التحولات والمعطيات اللغوية والحضارية ، إلى أن اكتملت بعوامل السليقة الفصيحة عبر التخلي الجزئي عن الخطوط الثمودية واللحيانية وبعض التأثر بالخط المسند في اليمن وجنوب الجزيرة ثم تفاعل لهجات القبائل العربية التي تهذبت تدريجيا في القرون الثلاثة الأخيرة قبل الإسلام ، بل هناك تأثير كبير للغة أوغاريت في رأس شمرا ونذكر هنا الأحرف الصماء والسنية كالهاء والخاء والصاد والزاي أو القريبة منها (حضارة أوغاريت اكتشفت شمال اللاذقية بسوريا وحروف لغتها مزيج من الكتابة المسمارية / العراقية والهيروغليفية / المصرية ) والتي اكتشفت آثارها المذهلة صدفة سنة 1928(1).... وحين جاء الإسلام ونزل الوحي المعجز كانت الأرضية اللغوية قد تمهدت تماما أي الفصاحة بالسليقة / تقارب لهجات القبائل / التحديات الخارجية كغزو الأحباش ، محاولة قائدهم أبرهة تهديم الكعبة رمز الوحدة العربية وهو الغزو الذي باء بالفشل – معركة ذي قار ضد الفرس وانتصار العرب فيها - / اكتمال المنزع الحضاري الرفيع المتجسد في الشعر الجاهلي عبر المعلقات والصعاليك خاصة ...والشعر بدوره عريق قديم كما تؤكده كل الدلائل والقرائن ولا مجال للتفصيل فيها ، للإشارة فخطاب " الوحدة العربية " ليس من بنات أفكاري وإنما هو للمرحوم محمد نجيب البهبيتي في كتاب شهير له ومن ثمة كان البعد الديني (ظهور الإسلام مستهل القرن السابع الميلادي) حاسما في توحيد اللهجات وإقرار اللغة العربية ببنيتها المعروفة والمتداولة بالسليقة ، ولم تكن اللغة العربية قد تقعدت بعد ....إلى حدود القرنين الثاني والثالث الهجريين ...وأقدم نقش عربي غير النصوص التاريخية عند مؤرخي اليونان والرومان يعود إلى سنة 328 م وهو نقش النمارة شرقي جبل العرب بسوريا . الوهم الثاني : حدود مبهمة بين الإنفتاح والإنعزال : لا جديد في كون العرب انعزلوا نسبيا داخل شبه الجزيرة قرونا طويلة بحكم العوامل الجغرافية أساسا ثم الحضارية ، ولا ريب في أن هذا الانعزال ( رغم التجارة والاحتكاك بالشعوب والحضارات الأخرى كالفرس والروم والأحباش) أثربشكل واضح على تطور اللغة العربية قبل مجيء الإسلام ، لكن لا ننس التحديات الخارجية التي استهدفتهم من طرف القوى الأجنبية المحيطة بهم من روم في الشمال الغربي والجنوب ( حيث الحبشة ) ومن فرس في الشمال الشرقي والتدخل في اليمن ، وما اختيار الرواة والنحويين خلال القرن الثاني الهجري وسط الجزيرة العربية لاستقاء وانتقاء اللغة العربية الفصيحة من منابعها إلا نتيجة للعوامل السابقة ...هل استمر انعزال العرب في صحرائهم ؟ الجواب بالنفي طبعا ، لأن الله قيض للنبي العربي القريشي سيدنا محمد ( ص) أن يحمل الرسالة السماوية للعالمين وبلسان عربي مبين ، فانتشر الإسلام ووصل إلى المغرب الأقصى غربا وفتح المغاربة الأندلس تحت راية الإسلام لتصبح قلعة للعروبة والدين الحنيف ثم الحضارة المتألقة بمساهمة مختلف العناصر الثقافية والدينية والعرقية ، كما امتدت الدعوة المحمدية إلى الهند والصين وجنوب شرق آسيا فآسيا الصغرى والأناضول والبلقان ومعها اللغة العربية ، ولا يمكن بالمناسبة أن تقام شعائر الإسلام وعلى رأسها الصلاة بغير اللغة العربية لغة القرآن الحكيم ....هذا شيء واضح وبديهي .. فرض الانفتاح نفسه على العرب بقوة الواقع واتساع رقعة الخلافة الإسلامية ، ونتيجة دخول أجناس مختلفة إلى الدين الحنيف ، فشا اللحن وكادت العجمة أن تتغلب على الألسنة مما شكل تحديا دفع إلى نهوض ما يسمى بحركة تدوين العلوم واللغة والآداب العربية ، وأصبح التقعيد ضروريا ، والمسار اتخذ شكلا متناغما متصل الحلقات منذ عملية جمع القرآن على عهد الخليفة عثمان بن عفان مرورا بالحديث الشريف على عهد عمر بن عبد العزيز وانتهاء بالعلوم العربية ، وبالنتيجة فقد تراجع مفهوم الفصاحة بالسليقة وهو أمر طبيعي تاريخي ومنطقي إلى حد بعيد فصل فيه ابن خلدون رغم تناقضاته وأخطائه في مقدمته وفي" تاريخ العبر ..."، فقد ظهر النحو العربي على يد أبي الأسود الذؤلي ووضعت الحركات في عهد عبد الملك بن مروان ثم استكملت قواعد ذلك النحو المبني على الإعراب والإشتقاق وأولوية الفعل على الإسم وهو ما سجله كتاب النحو لسيبويه ( ق 2 للهجرة ) ثم " الخصائص " لابن جني ، وأكمل الباقون بناء اللغة وفقهها مع الثعالبي وابن فارس والجرجاني وغيرهم وكل ذلك تم في إطار حركة شمولية سبق أن فصل فيها أستاذنا ومفكرنا الراحل عابد الجابري في كتابيه الرائدين " تكوين العقل العربي " و " بنية العقل العربي ".... إذن وهم العزلة داخل بداوة الأعراب قد تبخرعمليا مع حركة التدوين ، إذ أصبحت اللغة العربية ذات طابع عالمي بحسبانها لغة العلم والدين والثقافة بدءا من القرن الثالث للهجرة / التاسع للميلاد ، ومن جهة أخرى فإن نقاوة اللغة وسلامتها الكلية هوشيء مستحيل منطقيا وواقعيا ولا يعدو أن يكون ضربا من الوهم أيضا في ظل سنن وقوانين التواصل الثقافي والتلاقح الحضاري . الوهم الثالث : تشابك المقدس مع البشري : يعتقد البعض أن الفترة السابقة على الإسلام أي ما نسميه بالجاهلية قد كتبت في ظل الإسلام وبمنطق إسلامي وهي قضية فيها نظر بالطبع وقد ناقشها الكثيرون ليس آخرهم الناقوري و محمد نجيب البهبيتي وكارل بروكلمان وفيليب حتي وأحمد أمين وجورجي زيدان وأنيس المقدسي وبلاشير وماسينيون وجواد علي وحتى طه حسين عبر كتابيه " في الشعر/ في الأدب الجاهلي " لم يأت فيهما بجديد يذكر إذا استثنينا منهج الشك الديكارتي ، فقد سبقه الأصمعي وابن سلام الجمحي وأبو عمروبن العلاء في قضية النحل ونقحوا وصححوا ما صححوا ، بل يتهمه البعض بأنه نقل عن مرجليوت وكارلو نالينو وأثبت أكثرهؤلاء الكتاب والباحثين وجود الكتابة عند العرب الجاهليين ، وأن المعلقات نفسها ( ق الخامس والسادس الميلاديان ) بأسلوبها الرائع وقيمها الفذة تشكل في الواقع مرحلة النضج الأخيرة للقصيدة العربية والذي عرفته عبر مسار حضاري طويل لا يقل عن ثلاثة قرون قبل الإسلام ، وما نقوله عن الشعر نؤكده فيما يخص لغة هذا الشعر ، وارتباطا بالتصحيح الأول فهي قديمة قدم الشعرالجاهلي أو بالأصح فهي أقدم منه بكثير . صحيح أن القرآن الكريم دعم مكانة اللغة العربية قديما وحديثا وحافظ عليها بعكس اللغات السامية الأخرى التي اندثرت أو تم تعويضها بأخرى مطورة كالعبرية مثلا . لكن كل هذا لا ينفي تطور اللغة العربية بشكل واضح في المرحلة الأولى ونعني بها فترة الإستثناء / نزول الوحي القرآني والثانية أي التدوين بعد الإنتشار، ثم المرحلة الثالثة خلال عصر النهضة العربية الحديثة ( منذ أواسط القرن التاسع عشر تحديدا في كل من الشام فمصرثم العراق والحجاز وباقي الدول العربية وهي المستمرة لحد الآن ).... البعد الديني / المقدس / المتعالي يخترق اللغة العربية ويحافظ عليها ، هذا واقع يومي ملموس في المساجد وأماكن العبادة وبتفاوت في المدرسة والجامعة والبيوت والقنوات الفضائية والإذاعات والمطبوعات والمواقع الإليكترونية ، لكنه لا يلغي التطور والتجديد وهي سمة فريدة من نوعها لا توجد في أي لغة أخرى ، والدليل على ذلك مدرسة البصرة في النحو التي اعتمدت المنطق والقياس العقلي وتطورت على حساب المدرسة الكوفية القائمة على الفصيح " البدوي " والسماع ، ويكفي أن نذكر أن أغلب من قعد اللغة العربية ونحوها وصرفها وبلاغتها هم من الأعاجم وخاصة الفرس وبعض الأتراك ( المقصود بلاد ما وراء النهرين أي جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية ) وأيضا عدد كبير من البربر الأمازيغ ( كانوا لا يرون تناقضا بين انتمائهم العرقي وثقافتهم العربية الإسلامية ) كابن آجروم والمكودي وابن زنباع وابن المرحل على سبيل المثال لا الحصر ، وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث نلمس تطورا هائلا للغة الضاد في أغلب الميادين مع غلبة الآداب والعلوم الإنسانية المرتبطة بالثقافة العالمة دون العلوم الدقيقة في الأغلب الأعم ، يعني أن تلك النهضة لم تساير تطور العلوم الحقة في العالم إلا على مضض وهو من أبرز البياضات التي ألحقت ضررا بليغا باللغة العربية وتداولها محليا وعالميا نظرا لحالتي الجمود والتخلف اللتين عانى منهما العالم العربي تحت حكم الأتراك العثمانيين ومظاهر العزلة التي عاشها المغرب الأقصى بسبب حذره من الأطماع الأجنبية . والضعف ليس بنيويا أو يعود إلى اللغة في ذاتها كما يتصور البعض بل إلى أهلها الذين تخلفوا عن الركب ...ومع ذلك فقد قاومت اللغة العربية وواكبت في حدود الجهود المبذولة هنا أو هناك ...لأن في داخلها تكمن أسرار وعناصر المقاومة والتجددوالإبداع ...وباب المواكبة مفتوح دائما عبر النحت والإشتقاق وخاصة التعريب : الأسطقسات واللوغاريتمات والميكانيكا مثلا في القرن الرابع الهجري الفيسبوك والحاسوب والناقول ومحرك البحث والبرنامج في أيامنا هذه ... إذن هناك مستويان للغة العربية المتداولة حاليا : مقدس يتجسد في لغة القرآن الكريم والعبادات الأخرى كالصوم والحج ..ومستوى ثان / ثقافي هو الذي نصفه ب " لغة الصحافة " التي ساهم فيها وطورها العرب في الشرق ، المسيحيين منهم والمسلمين ، منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ونذكر هنا الشيخ محمد عبده والمدرسة الإحيائية في الشعر: البارودي أحمد شوقي حافظ إبراهيم والنثرأحمد فارس الشدياق أديب إسحق زكي مبارك وغيرهم ثم مدرسة المهجرمع جبران وإيليا أبي ماضي وميخائيل نعيمة وبدوي الجبل وعبد المسيح حداد وتوخى عموما اللغة السهلة والمبسطة القواعد ،ولا زلنا نذكر سخرية نعيمة من المحافظين فيما يخص كلمة تحمم التي اعتبروها غير فصيحة وقد استمرت اللغة العربية في التطور بشكل حيوي لا مثيل له عبر الرواية والشعر والمسرح وعلى نحو أقل سرعة وحيوية في التكنولوجيا والعلوم التطبيقية و الدقيقة دون أن يعني هذا تخلفها التام إزاء هذه الأخيرة فالجهود حثيثة منذ عقود في مجال المعلوميات والفضائيات مثلا لكنها تبدو في كل مرة غير كافية في مواكبة تسارع الجديد علميا وتقنيا كل يوم ....لعل في هذا التصحيح ما يقنع بتميز البعدين البشري والمقدس ضمن لغة الضاد ، إنه تمييز إجرائي وضروري ليس من أجل المحافظة فقط على اللغة العربية وسط موجات العولمة بل لتطويرها أيضا...لأنني أعتقد أن سنة التطور لا تتخلف في كل الأحوال .. الوهم الرابع : الخلط بين لغة التواصل ولغة التفاعل : اللغات عند كل الأمم والشعوب تختلف وتتفرع إلى عاميات أو دوارج أو لغات محلية أو جهوية من جهة ولغات معيارية موحدة من جهة أخرى ، تفصلهما مسافات قد تتقارب أو تتباعد و توجد بينها قواسم مشتركة ونقاط خلافية أيضا كما تستفيد هذه من تلك أو العكس وكله يبرهن بأن اللغات جميعا كائنات حية تنمو وتتطور وتحيا وتموت تبعا للظروف السياسية والإقتصادية والثقافية ، والتدافع واقع لا يرتفع ، ولا مجال لتبرير التقاعس والكسل بكون اللغات حاملة عناصر تطورها أو موتها في ذاتها ، هذا غير كاف بالنسبة للغة الضاد لابد من مضاعفة الجهود وتجاوز الأعطاب السياسية الراهنة التي عمقتها المآسي الحالية للشرق العربي ، ولا سبيل إلى ذلك بغير الإبداع والاجتهاد المستمرين في جميع الميادين ، وتعميم استعمال وتداول اللغة العربية ما أمكن وتفعيل مؤسسات البحث والترجمة والمجامع اللغوية ...في عمق المأساة ينبثق الأمل والغد دوما وأبدا ...النقاش حول الفصحى والدارجة قديم يعود إلى ابن خلدون نفسه ( أنظر المقدمة دار الكتاب اللبناني ص 1073 / 1078 الفصل 47 حول مغايرة لغة العرب لهذا العهد للغة مضر وحمير ) ولا حاجة للتذكير بدعوات سلامة موسى وردود الآخرين عليه كالعقاد وطه حسين على سبيل المثال لا الحصر .. القاموس بطبعه محافظ لكن دخول مصطلحات جديدة له أمر ضروري لإغناء اللغة وأهم روافد الإغناء : العربية العامية في هذه الدولة أو تلك إذا اقتضى الأمر ذلك وعبر التشاور والتنسيق طبعابين المعنيين والمختصين بتحويرات بسيطة غالبا ، تنضبط لبنيتها الصرفية مع المرونة اللازمة وفي نهاية المطاف فوظيفة العامية لا تعدو التواصل وقضاء الحاجات اليومية ، لكن الفصحى هي لغة الثقافة والمدرسة والمعرفة ومؤسسات الإدارة والدولة والإعلام ...هي اللغة العالمة وهذه ترفع مستوى السابقة أي العامية وليس العكس ومن صالحنا وصالح لغتنا تفصيح العامية بدل التلهيج أو التدريج ، والدعوة العيوشية مرفوضة جملة وتفصيلا لسبب بسيط هو أنها تهم ميدان التربية والتعليم وصناعة الإنسان بالمغرب ، ولم يسبق لأي دولة أن تقدمت بغير لغاتها الوطنية ، وبما أن الجانب التواصلي هام جدا في ميدان العلوم الدقيقة فقد أصبح التلهيج ( أو اللغة الوسطى ) في المدرسة المغربية واقعا ملموسا ولا أرى شخصيا في ذلك أي بأس لأن لغة التعليم هنا وسيلة وليست غاية ووسيلة معا كالفصحى ، فرق كبير بين تدريس اللهجة العامية والتدريس بها كما هو واضح جلي ، واللغة الوسطى هي في تقديري ما يجب أن يعتمد في تدريس العلوم الحقة بالجامعة ولا بأس من الانفتاح على لغات العالم في الميادين الدقيقة العليا عن طريق الترجمة أو التعريب أوحتى نقل المصطلح كما هو إلى الحقل المعني لأن هذه الخطوات لن تضر اللغة العربية في شيء ، بالعكس قد تغنيها وفي هذا ما فيه من تقدم للبحث العلمي والتقني ووضعه معروف في بلدنا العزيز ونحن نعلم أنه مفرنس بكامله فهل حققنا أشياء ذات بال لحد الآن ؟ مجرد سؤال مواطناتي قبل أن يكون مصلحيا ولابدأخيرا و بالمناسبة من تفعيل أكاديمية محمد السادس للغة العربية ....الأوهام تواجهها الحقائق إذن وخير رد على المزايدين والعابثين بالوحدة الوطنية هوالإبداع و العمل في الميدان .... يقول جبران خليل جبران أديب المهجر الأكبر " إنما اللغة مظهر من مظاهر الابتكار في مجموع الأمة أو ذاتها العامة ، فإذا هجعت قوة الإبتكار توقفت اللغة عن سيرها ، وفي الوقوف التقهقر وفي التقهقر الموت والإندثار " * كاتب / ناشط مدني ( (1 حول آثار اوغاريت ورأس شمرا شمال سوريا انظر كتاب " رأس شمرا والعهد القديم " لإدمون جاكوب ترجمة جورج كوسي ، وفيما يخص نشأة وتطور اللغة العربية هناك العديد من المراجع والمصادر أهمها كتاب " تاريخ العرب " لفيليب حتي ، و" تاريخ التمدن الإسلامي " لجورجي زيدان ،و" تاريخ مسيرة الشعوب الإسلامية " لكارل بروكلمان " العربية قبل الإسلام " لهومل ، و" وتاريخ العبر / المقدمة " لابن خلدون دار الكتاب اللبناني ، " تاريخ العرب قبل الإسلام " لجواد علي " تاريخ الأدب العربي " لبلاشير ، " تاريخ الأدب العربي " لحنا الفاخوري، " تاريخ الشعر العربي حتى القرن الرابع الهجري" لمحمد نجيب البهبيتي .