"دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية        واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحب في زمن الرأسمال
نشر في هسبريس يوم 27 - 05 - 2022

اخترنا اليوم أن نتحدث عن موضوع نعتبره مركزيا في سياق التحولات العالمية التي تتسارع منذ ما قبل الثورة الصناعية. الأمر يتعلق بسؤال الحب في زمن الرأسمال. إنها قضية الجزء الظاهر والباطن في الإنسان. عالم العواطف والمشاعر ما زال عالما إشكاليا. هناك نظريات ومدارس تتحدث في هذا المجال، وهي من يطرح السؤال: هل مصدر المشاعر الجسد أم الروح؟ هل هي ظاهرة سيكولوجية أم اجتماعية أم بيولوجية؟ وعلى سيبل المثال: هل نرتعش لأننا نخاف أم نخاف لأننا نرتعش؟
لنبدأ بطرح التساؤل: ما هو دور المشاعر والحب في بناء عالم يحضر فيه الوجه القبيح للإنسان؟ هل يمكن لخطاب الوجدان والعواطف أن ينتصر على لغة الانكسارات والمآسي؟ هل دخول الحب عالم المؤسسة الرأسمالية أصبح يهدد السلامة النفسية للفرد، كما تقول الباحثة إيفا إيلوز في مؤلفها: "لماذا يؤلم الحب"؟
وبالمناسبة إيفا إيلوز هي باحثة مغربية وأستاذة لعلم الاجتماع في فرنسا وفي العديد من الجامعات الدولية. أصدرت الكثير من الكتابات في مجال علم الاجتماع والأحاسيس، وقبل سنتين أصدرت كتابا يسير في نفس اهتماماتها عنونته "بنهاية الحب".
في لغة الحب ودلالاته..
حكاية الخليفة العباسي المأمون مع الحب عجيبة، فروح الخليفة التي تسكنها حضارة فارسية آتية من أمه بادس، قد حيرها هي الأخرى الحب ومعانيه، فجلب الخليفة أكبر المترجمين والمفكرين في بيت الحكمة، بغية فك طلاسم الحب والرد على السؤال: ما هو الحب؟
الحب في قاموس ابن حزم هو "أوله هزل وآخره جد". الهوى في معجم ابن القيم الجوزية يعني "ميل النفس إلى الشيء. سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه وأما هوى يهوي فيعني السقوط". كم من مرة كنا نقول: فعلا، لا نحب السقوط، لكن إن حدث ذلك، فلا بد أن ننهض من جديد وكأننا ننبعث من رحم رمادنا الأبدي. يقول لنا هذا المفكر العارف بمتاهات وخفايا الحب: "إن العرب استعملوا عشرات المرادفات للتعبير عن الحب قصد تبيين العواطف الخطيرة لضبطها وتجنبها". الهوى في اللسان العربي فيه عبارة تدل عند ابن عربي، كما يتحدث عنها في "ترجمان الأشواق": "سقوط الحب في القلب في أول نشأة وفي قلب المحب لا غير".
وفي اللسان الألماني / الجرماني، الحب (Liebe) هو مودة وألم وتعب للقلب Zuneigung/ Herzeleid) / Liebeskummer)، إنه إغواء وجاذبية وسحر (Verführung/ Bezauberung/Liebreiz). الحب يمكن أن يكون بمعنى من المعاني شغفا وشهوة (Leidenschaft). يعقب الحب الألم auf Liebe folgt Leid هذه معان منكسرة ومحصورة بين دفتي هذه الحروف، هي متداخلة تداخل اللونين الأبيض والأسود. سجن الحروف يثيرني فيدفعني إلى البحث في دوائره الخفية وفهم كلماته العجيبة.
لا أخفي خوفي على العاشقات والعشاق من الوله، فهو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد، أما التدليه فهو ذهاب العقل من الهوى. إن الحب كالهيام، والهيام مثله مثل الجنون من العشق. فمن أصابته هذه الريح الآتية من عوالم العشق الأبدية؟ العشق في تأملات يوسف زيدان الصادرة في كتابه فقه الحب، هو "اكتمال الحب وإتمامه إن سمح الزمان بالوصال.. فكل عاشق محب وليس العكس. العشق طلب الخلود وتوحيد المعبود والفوز بالكنز الموعود المرصود خلف الباب الموصود".
يكفي أن نتحدث عن الحب العذري حتى نستغرب أو نتنكر أو نضحك. عند سماع عبارات التَّعَلُّقُ الطَّاهِرُ والعَفيفُ بِالْمَرْأَةِ عِشْقا وَوَلَها.. تقع في النفس أمور غير مفهومة. الحب مثير للخوف. أما الغرام عند العرب فهو فخ لا يرحم أصحابه. يقال شخص مغرم بالحب أي قد لزمه الحب.. تذهب العلاقات بالإنسان بعيدا حتى الحمق. فمن الحب ما يكون جنونا. الحب يلبس معاني الفتون واللهف والوهل الذي أصله الفزع وحتى الاكتئاب. نعم الاكتئاب من الكآبة وهي سوء الحال والانكسار من الحزن. والكآبة تتولد من حصول الحب وفوت المحبوب فتحدث بينهما حالة سيئة تسمى الكآبة.
هناك فرق بين المشاعر كانفعالات جسدية يعرّفها قاموس لاروس لعلم النفس بأنها "حالة عاطفية معقدة، ومزيج من العناصر العاطفية والخيالية، واضحة إلى حد ما، مستقرة، تستمر في غياب أي منبه". الشعور هو بناء يتكون من مزيج من العواطف (على سبيل المثال: الكراهية، والغيرة، والعار، والشعور بالذنب...)، وبالتالي، فإن الشعور بالذنب مصنوع من الخوف والغضب الذي ينقلب على الذات. أما الشغف من الناحية الأدبية فهو حالة عاطفية شديدة وغير منطقية تهيمن على شخص ما. هي حركة عاطفية قوية للغاية تستولي على شخص ما بجعله ينحاز بعنف لصالح أو ضد شيء ما، أو شخص ما. فالحب هو نزعة عنيفة لا تقاوم.
الحب هو مصدر للألم كذلك..
يغمرني إحساس غريب وشك عميق، وأنا أتابع شؤون الساعة. أجد نفسي كمن يبحث عن اللهيب عندما تنطفئ الشمعة. أقول ليس عيبا أن يكون الشك سيد الموقف ورافعة لكل إحساس أو رأي أو فكرة، فهذا عمل منهجي مارسه الفيلسوف ديكارت في ما سماه "بالطاولة الممسوحة"، وتبين لهذا الفيلسوف الذي أتى في ظرف تاريخي أوروبي حاسم، "أنه تلقى منذ نعومة أظفاره طائفة من الآراء الخاطئة التي ظن أنها صحيحة". (تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى).
تاريخ الإنسانية هو تاريخ صراع وتمظهرات هذا الصراع في السياقات الرأسمالية، باطنها أكبر من ظاهرها. العالم يسير على قدم واحدة، وجنون الواقعية يضرب عرض الحائط أحلام ومثاليات الفكر والممارسة. العنف السياسي يخرج كل مرة كالنار الخامدة، فينفخ فيها من كل الجوانب، لتدمر الواقع وحتى ذلك النافخ.. عندما نقرأ تاريخ الحب ومتون العواطف، تبدو لنا الهوة شاسعة بين الفكر والواقع.
يقول جوليان برنار في كتابه: "منافسة المشاعر، سوسيولوجيا العواطف": الحب في القرون الوسطى يحيل على الشغف الحسي اللاعقلاني والمدمر. أما اليوم فنحن نعيش في مجتمعات عاطفية، والمشاعر أصبحت قيما استهلاكية ومجالا للتنافس. الحب حسب إيفا إيلوز تنتجه العلاقات المجتمعية الملموسة، فهو يتحول وينتقل في سوق مملوء بفاعلين متنافسين وهم غير متساوين. ولفهم العلاقات العاطفية تستحضر إيلوز مدرسة التحليل النفسي التي تؤكد أن اختيار الشريك والحب العاطفي يتحدد خلال مرحلة الطفولة أي لفهم الفشل في علاقة عاطفية ما مثلا، لا بد من الرجوع إلى تاريخ الشخص النفسي. هذا استحضار لا ينفي أن إيلوز شنت هجومًا على المدرسة النفسية في مناقشتها ظاهرة التعاسة الناجمة عن علاقات الحبّ. تقول إيلوز: "إن فشل حياتنا الخاصة ليس مرده نتاج طفولة مهزوزة، أو نقص في الوعي الذاتي أو تاريخ الفرد، وإنما مردّه إلى مجموعة من التوترّات الاجتماعية والثقافية، والتناقضات التي اجتاحت الأنفس والهويات الحديثة".
تقول فاطمة المرنيسي في مقدمة كتابها الشيق: "خمسون اسما للمحبة روضة المحبين لابن القيم الجوزية": لا تندهشوا عندما يكون الخليفة العباسي المأمون بطلا في كتاب روضة المحبين للإمام ابن القيم الذي ولد في دمشق عام 621 هجرية / 1292، ميلادية أي ثلاثة عقود بعد تدمير بغداد من طرف المغول عام 1258. لقد ألف الإمام كتابه المذكور لكي يذكر الغزاة بأن نجاح القائد رهين بالحب".
نصوص ابن عربي وجلال الدين الرومي وابن القيم الجوزية وحتى كتاب / متن ستندال الرائع عن الحب، تدعونا إلى التفكير في مصيرنا غير الفرح. سؤالي: أليس في سيادة لغة الدمار إشارة قوية على عودة روح توماس هوبس وفلسفته الواقعية: "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان "؟ كم مرة سحرتني عبارات جان جاك روسو التي تتحدث عن الطبيعة الخيرة للإنسان، وأن المجتمع هو من يفسد ذاك الإنسان. جميلة هذه القراءة الفرحة، لكنها ليست الوحيدة ولا تقاوم مع الأسف الوقائع.
سأرحل معكن ومعكم، باحثا عن الحلم والحب، كما علمتني الفلسفة أن أميز بين الأعراض والجواهر، بين الشمعة كعرض والامتداد كجوهر. أدعوكم للحديث عن الحب ولو مرة واحدة. ربما قد يشفينا هذا من أمراض العصر وألم الواقع.
قيل المحبة أصلها الصفاء، وكيف للصفاء أن يحدث في عالم مياهه عكرها رصاص الواقعية؟ مثاليات الحب وقاموسه العربي فيها من الاستغراب ما يكفي. أكثر من خمسين كلمة تعبر عن الحب في اللسان، لكن كلمة واحدة تكفي لقتل الأمل في الحياة: "الكراهية". فرحة النظرية تواجه شقاء الواقع. الباحثة إيفا إيلوز تحثنا -لفهم ورطة الحب حاليا- عن التعامل مع الحب كما تعامل كارل ماركس مع البضاعة. "الحب بضاعة"، عنوان كبير لما يحدث في المجتمعات المعاصرة الرأسمالية. تضيق الأرض، كلما تراجع منسوب مياه الحب، وجفت أنهار الهوى .
النعيم في الحبّ نادرًا ما يتحقق. وأمام كل تجربة حب ناجحة في عصرنا توجد عشر تجارب للحبّ الفاشل. هكذا تقول عالمة الاجتماع إيفا إيلوز في كتابها: لماذا يؤلم الحب؟ هذا البحث تُرجم إلى أكثر من عشرين لغة، حيث تتناول بالدراسة والتحليل منابع التعاسة في العلاقات الرومانسية وروابط الحبّ بين الجنسين في العصر الحاضر.
في المجتمعات الغربية المعاصرة، ما يقرب من نصف الزيجات تنتهي بالطلاق. يقدم كتاب إيفا إيلوز تحليلا اجتماعيا لهذه الظاهرة، التي تربطها ارتباطا وثيقا بانتشار الرأسمالية الليبرالية في المجال العاطفي. إن تنظيم العلاقات الرومانسية في شكل سوق تلتقي فيه الرغبات الفردية للشركاء المحتملين الذين يسعون إلى تحقيق أقصى قدر من احترام الذات بحرية، يساهم في زيادة انعدام الأمن. فالحرية الجنسية مثلا تشبه الحرية الاقتصادية فهي تشرعن وتؤطر التفاوتات الاجتماعية واللامساواة. الحرية الجنسية والعاطفية تولّد أشكالها الذاتية من المعاناة.. هكذا تقول الكاتبة.
تنتقد هذه الباحثة شكل العلاقات العاطفية في المجتمعات الليبرالية من منظور يناهض الرأسمالية. إن مغامرة نقد الحرية الجنسية والعاطفية في المجتمعات الليبرالية ليست مهمة سهلة، فكريا ومنهجيا، لكن إيفا إيلوز نجحت في ذلك، في ظني المتواضع.
علاقة الحب والغرام بالألم والحزن والفشل قديمة قدم الحبّ، إلا أن إيفا إيلوز تستدل وتقول إن الألم والتعاسة المعاصرة الناتجة عن الحبّ تختلف في المضمون واللون والشكل.
فعلا توصل الغرب حسب رأي فاطمة المرنيسي منذ حوالي ثلاثة عقود إلى إدراك الارتباط بين الديمقراطية والحب الرومانسي. إن الزوج الأناني والنرجسي في أسرته لا يمكن أن يكون إلا مواطنا سيئا وقائدا غير موفق. بالمقابل، تتحدث المصادر عن علاقة الحب بالتعاسة في المجتمعات الأوروبية الوسيطة بكونها تتأسس على الانتماء إلى الطبقة وبسبب القيود الثقافية واختلاف المذاهب والأديان. ترى إيفا إيلوز أن دراسة الحبّ مركزية وليست هامشية لفهم جوهر الحداثة وأساسها. فمنذ مطلع السبعينات شهدت المجتمعات الغربية تطرفًا في الحرية والمساواة داخل الروابط العاطفية، وانقسامًا جذريًا بين الحياة الجنسية والعاطفية.
تأثرت العلاقات بين الجنسين في المجتمعات الليبرالية المعاصرة بثورة الفردانية في أنماط الحياة، وسيادة النموذج الاقتصادي الرأسمالي في تشكيل الذات ما اعتبر انتصارًا للحبّ، والفردانية، والحرية والاستقلالية، وهزيمةً للنظام الأبوي، ومؤسسة الأسرة القديمة، إلا أن إيفا إيلوز ترى أن طبيعة هذا التحوّل في أنظمة العلاقات الحميمية، قلبت موازين المجال الخاص وأفقدت الوعي الرومانسي للسعادة.
ما الذي تغيّر؟ تقول إيفا إيلوز إنه "التحول الكبير" في "أسواق الزواج"، والذي أخد ثلاثة مسارات: التحولات الأخلاقية أو القيمية، والتحولات الاجتماعية، والتحولات التقنية. بناء الهوية الرومانسية والجنسية بشكل متزايد من خلال السلع، يعني اختيار الشريك يميل أيضا إلى أن يحدث بطريقة استهلاكية. كما نكتشف ذلك على مواقع التعارف على شبكة الإنترنيت وغيرها، حين يتم تقديم الشركاء المحتملين كخيارات تنافسية ذات خصائص محددة لاتخاذ الخيار الأمثل. فجميع الأفراد بعيدون كل البعد عن المساواة في هذا السوق الليبرالي للحب والجنس. وفي في هذا الإطار الذي يتمحور حول الغيرية في المجتمعات الغربية المعاصرة، يضع هذا الاختلال في التوازن المرأة في وضع غير مناسب. إن التأكيد الاجتماعي والتشييء الجنسي، يتكرر في النموذج الليبرالي الحديث لعدم المساواة بين الجنسين الذي كان يعتقد أنه يقتصر على الأسرة التقليدية.
الجسد في رأي إيفا إيلوز هو جسم حسي يبحث بنشاط عن الرضا والسرور والجنس تلاه مجال الرياضة واستغلاله في التخيّلات الجنسية للرجال. تحكي لنا فاطمة المرنيسي في كتابها: "شهرزاد ترحل إلى الغرب"، حكاية بحثها عن تنورة على مقاسها في أحد محلات نيويورك. لم تجد الشيء المطلوب. إنه زمن الموضة والجسد النحيف الذي تقول عنه الكاتبة ناعومي وولف بأنه يعود إلى تزايد حالات مرض فقدان الشهية وبعض المشاكل الصحية. المرنيسي تقر أن الرجل الغربي يملي على المرأة القواعد التي تتحكم في مظهرها الخارجي، إنه يراقب صناعة الموضة بكاملها من تصور مواد التجميل إلى توزيع رافعات النهود. والغرب هو المنطقة الوحيدة من العالم حيث اللباس النسوي صناعة ذكورية بالأساس.
عندما قرأت فاطمة المرنيسي بيير بورديو وكتابه "الهيمنة الذكورية"، فهمت النفسية الغربية بشكل أفضل. صناعة الموضة لا تمثل إلا الجزء الظاهر من جبل الثلج. هناك شيء ما يمر في الجزء الخفي ويظل سريا وإلا لماذا تقبل النساء الخضوع بتلقائية؟
يستخلص بورديو وناعومي وولف أن هذه القوانين الجسدية تشل بشكل ما قدرة النساء على الدخول في السباق نحو السلطة رغم أن عالم الشغل يبدو لهن مشرع الأبواب. إن التركيز الثقافي على النحافة النسوية ليس تعبيرا عن هوس بالجمال النسوي كما تشرح ناعومي وولف، ولكنه تعبير عن الهوس بالخضوع النسوي. إن الحمية تقول فاطمة المرنيسي هي أقوى المسكنات السياسية التي عرفها تاريخ المرأة وحين تظل الساكنة هادئة فإنها تكون بالضرورة مطيعة. أن تتحول المرأة إلى شيء يرتبط وجوده بنظرة مالكه يجعل من المرأة الحديثة أمة في حريم.
يظهر تضخم في الخطاب عند الحديث عن معنى الجنسانية حيث تظهر مصطلحات "مثير" أو (Sexy) والإثارة، باعتبارها طرقًا جديدةً لتقويم الذات والغير، لا سيما في العلاقات الحميمية. لهذا التحوّل نتائج منها المساهمة في تدمير الأنماط التقليدية للاختيار وإتاحة فرص بديلة للنساء من الطبقات الدنيا في الثراء والتعليم للوصول إلى الرجال الأقوياء.
التحولات في بيئة اختيار الشريك وما رافقها من تغيرات أساسية طبعت المجال العام المعاصر بالحضور المختلط بين الجنسين بكثافة في التعليم والعمل أدت حسب إيفا إيلوز إلى الوفرة الهائلة للشركاء المحتملين وأنتجت عدة تغيرات إدراكية مهمة في تكوين العواطف والأحاسيس الرومانسية، وعملية الاستقرار على حب واحد. المثال الذي تقدمه إيفا إيلوز هو تطبيق تيندر.
وإذا كان هناك تاريخ للحرية، فيمكننا القول بأننا قد انتقلنا من الصراع من أجل الحرية، إلى صعوبة الاختيار، وحتى إلى الحق في عدم الاختيار. وكي نحقق الاعتراف يهتم المجتمع المعاصر بإنشاء علاقة رومانسية، فالأهم بالنسبة للفرد في النقاشات حول الغزل والتغزل هو النظر لقيمة الذات بوصفها صورة للآخرين عبر مجموعة من الطقوس، فالشعور الإيجابي تجاه الذات بات مرهونا بالغير، والشعور بالرضا عن الذات هو السبب والهدف من الوقوع في الحب.
ومما يلفت النظر هو أن الذات الإنسانية قد فقدت الحاضنة (المجتمع والأسرة والشبكة القيمية والامتداد التاريخي داخل النسيج الديني والأخلاقي..) فرفض الحب يصبح رفضًا للذات، كما يصبح الخوف من الرفض خوف مجتمعي تسببه حقيقة مفزعة تقول: القيمة الاجتماعية لا تتأسس إلا من خلال الاعتراف الممنوح من قبل الآخرين.
ومما فاقم من عقلنة العواطف وتنظيم الرغبات تسييس المجال الخاص، وذلك على يد حركات حقوقية ومدنية على سبيل المثال، الموجة النسوية التي غيرت فهم عاطفة الحب وممارسته. تحاول إيفا إيلوز التحرر النسبي من انتمائها وولائها المعلن للنسوية، لصالح التحليل النقدي لدور الأيديولوجية النسوية في المعاناة الرومانسية المعاصرة. وبسبب الهوس المرَضي بمفهوم السلطة أصبح الحب الرومانسي ينظر إليه نسويًا على أنه "مجرد ممارسة ثقافية تعيد إنتاج انعدام المساواة بين الجنسين، لا بل كأحد الآليات الأولية التي تجعل النساء يقبلن خضوعهن للرجال".
تطرح إيفا إيلوز سؤال أصول عدم الاستقرار العاطفي في وقت صعود الليبرالية، والتي أدت منذ القرن الثامن عشر إلى تقليص سلطة الكنيسة والمجتمع لصالح استقلال المجال الخاص، الذي تحميه الدولة. يؤكد الحب بشكل تدريجي أنه نابع من دوافع فردية مستقلة عن القيود الاجتماعية والأبوية.
حول الحب والجنس يتم تنظيم العديد من القطاعات الصناعية بشكل وثيق مع نظام التكنولوجيا والاستهلاك. يتم تقديم المنتجات المعروضة للبيع على أنها ناقلات فريدة من نوعها للأحاسيس، وهي في الواقع "سلع عاطفية". لا بد من الانتباه إلى مؤسسات الإشهار والتلفزيون والموضة والتجميل.. التي تصنع جسدا مثيرا كي يستثمر رأسماليا.
تقول إيفا إيلوز إن سوق المشاعر والحياة الجنسية يسيطر عليه الرجال فعليا: "الأنوثة هي أداء بصري في سوق يسيطر عليه الرجال، ومخصص لنظرة الذكور ويستهلكه الرجال".
وتهدف المعايير الموضوعة في هذه الأسواق على بناء التوقعات التي تثقل كاهل المرأة في الحياة اليومية لعلاقاتها الرومانسية والجنسية. وتميل هذه التوقعات إلى تشييء المرأة، وترتبط بالأهمية المعطاة لمظهرها الجسدي. جسد المرأة كان دائما محل الخطيئة وموضوع ثقافة الوصم والعذرية تقول إيفا إيلوز.
الأسئلة التي ما زالت حية إلى اليوم تقول إيفا إيلوز: هل يهدد ضعف الدين والجماعة النظام الاجتماعي؟ هل سنعيش حياة أو حيوات لها معنى في غياب المقدس؟ تقول إيلوز إن ماكس فيبر قد هزه السؤال: إذا لم نخف من الله فمن سيجعلنا كائنات أخلاقية؟
أردت أن أختم هذه المداخلة البسيطة برباعيات عمر الخيام:
القلبُ قد أضناه عشقُ الجمال
والصّدرُ قد ضاقَ بما لا يُقال
يا ربُ هل يرضيكَ هذا الظّمأ
والماءُ ينسابُ أمامي زُلال
أولى بهذا القلبِ أن يخفِقَ
وفي ضِرامِ الحُبِّ أن يُحرَقَ
ما أضيَعَ اليومَ الذي مَرَّ بي
من غيرِ أن أهوى وأن أعشقَ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.