"يحبونني ميتا ليقولوا: لقد كان منا،و كان لنا" محمود درويش ما دور المشاعر و الحب في بناء عالم يحضر فيه الوجه القبيح للانسان ؟ هل يمكن لخطاب الوجدان و العواطف ذات المصدر الروحي أن ينتصر على لغة الانكسارات و المآسي ؟ وهل في الحب سلاح فعلي لمواجهة الموت ؟ هل دخول الحب عالم المؤسسة الرأسمالية أصبح يهدد السلامة النفسية للفرد، كما تقول الباحثة "ايفا ايلوز" في كتابها الجميل : "لماذا يؤلم الحب "؟ 1 يغمرني إحساس غريب و شك عميق، و أنا اتابع شؤون الساعة في هذا العالم . أجد نفسي كمن يبحث عن اللهيب عندما تنطفئ الشمعة . أقول ليس عيبا أن يكون الشك سيد الموقف و رافعة لكل إحساس أو رأي أو فكرة ، فهذا العمل المنهجي مارسه ديكارت في ما سماه "بالطاولة الممسوحة" ، وتبين لهذا الفيلسوف الذي أتى في ظرف تاريخي أوروبي حاسم ،" أنه تلقى منذ نعومة أظفاره طائفة من الآراء الخاطئة التي ظننها صحيحة ". لكن بين الشك المنهجي و التيه هوة قاتلة . البحث عن المعاني شيء، و الضياع في متاهات الحاضر شيء آخر. 2 تاريخ الانسانية هو تاريخ الصراع الطبقي و تمظهرات هذا الصراع في السياقات الرأسمالية، باطنها أكبر من ظاهرها. العالم يسير على رأس أعوج، و جنون الواقعية تضرب عرض الحائط أحلام و مثاليات الفكر و الممارسة . العنف السياسي يخرج كل مرة كالنار الخامدة، فينفخ فيها من كل الجوانب، لتدمر الواقع وحتى النافخ . إنهم يلعبون بالأهواء و يوظفون العقول و يزرعون ايديولوجيات الوهم حتى يتم التحكم في المصائر بأقل الاضرار. نعم، "السياسة هي فن توظيف النوازع"، كما يقول عبدالله العروي في كتابه :"ديوان السياسة" . أليس صحيحا، عندما نقرأ تاريخ الحب و جماليات و متون العواطف، تبدو لنا الهوة شاسعة بين الفكر و الواقع ؟ 3 يظهر لي في ما أرى من خلال هجراتي و رحلاتي أن الحلم و المثال يتأسس على القبح و مأساة الواقع . نصوص ابن عربي و الرومي وابن القيم و حتى كتاب ستندال عن الحب ، تدعونا إلى التفكير في مصيرنا غير الفرح . أليس في سيادة لغة الدمار دليل على عودة روح توماس هوبس و فلسفته الواقعية : "الانسان ذئب لأخيه الانسان "؟ 4 اليوم نتأثر بطريقة مذهلة نتيجة انتشار المعلومة و التكنولوجيا الحديثة السريعة التي لا تدع مجالا للتفكير أو التأمل في مصير علاقتنا بالتقنية . الكلام في كل المجالات أصبح في المجتمعات العربية يخضع للسرعة، ما يجعل الخطاب تحت رحمة السطحية، و غياب احترام حدود التخصصات و المعارف، و فقر المعرفة و إفراغ العقل و الشخصية من كل مناعة و خلفية صلبة . هذا الوضع ينتج الخوف من الذات، و يؤدي إلى الطمع في كل شيء، دون إدراك أن السرعة تقتل، و الأضواء تحرق إن سلطت كثيرا على الذات و الصفات. 5 تسحرني عبارات جان جاك روسو التي تتحدث عن الطبيعة الخيرة للإنسان، و أن المجتمع هو من يفسد هذا الانسان . جميلة هذه القراءة الفرحة للواقع، لكنها ليست الوحيدة و لا تقاوم مع الأسف الوقائع و شؤون الساعة. ما يطلع على السطح و يظهر للعيان هو مأساة تاريخ الخدع و المكر و نزوعات الانسان الضالة و المجانبة لخطاب العقل . عالمنا أضحى غريزيا و الطموح الصعب هو الوصول إلى أفق يرتقي بالذات الى مراتب عقلنة الشهوة، كما تقول بذلك الفلسفة، و يحول طبائع الاستبداد إلى ممارسة عاقلة تلجم لغة الموت فينا جميعا. القبيلة و القبائلية و ما يدور حولها من تنظيمات صغيرة تعيق في الذات عملية البناء و تقبر الأمل في عقلنة النزوعات الانسانية الطبيعية، بل تحول الهوية الانسانية إلى هويات قاتلة، بلغة الكاتب أمين معلوف . 6 عندما تركت كل شيء ورائي في المغرب، و رحلت باحثا عن الحلم و الحب، تعلمت كيف أهوى الحياة، كما علمتني الفلسفة أن أميز بين الأعراض و الجواهر . أحيانا أسخر من نفسي و أقول : "كم مرة قررت فيها أن أشك في كل شيء" . اللغة و المعرفة تضيع بسبب التسطيح و التفاهة الاعلامية التي تحملها مزابل التاريخ كل يوم . في كل مرة نسمع هذيانا جديدا يخرج من أفواه المقهورين، و كأنها صورة جديدة تمسخ الواقع و تخفي الأعماق فينا و في الغير . أطرح كعادتي السؤال : أليس الزَّبد يذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ؟ 7 بما أن التاريخ يقدم لنا أخبار المآسي كمحن ابن رشد و الحلاج ، فلماذا لا نقول و بالخط العريض : يحتاج العرب إلى بوصلة جديدة تعترف بالفشل منذ أكثر من تسعة قرون، و لتكن جنازة فيلسوف قرطبة - التي أبكت ابن عربي - و دفنه مرتين درسا لتدشين البداية ؟ أليس إكرام الميت دفنه، والدفن حياة جديدة تتأسس على منطق النسيان ؟ كل البحوث و الدراسات العلمية تؤكد فشل المنظومة التعليمية و التربوية و العلمية العربية، و تراجع العقل والتنمية، و بداية مرحلة مظلمة في التاريخ العربي بملامح جديدة تختلف عن محن التوحيدي و المقفع . لا بد من الشك في جذور الضياع و الورطة التاريخية الحالية منذ ما قبل الوحي الى الآن . لابد من مسح فريد للطاولة العربية قبل أن تقع السقطة النهائية. 8 دعونا نتحدث عن الحب و لو مرة واحدة . ربما قد يشفينا من أمراض العصر و ألم الواقع . طوقتنا نار الشوق و حرارة الفقدان . قيل المحبة أصلها الصفاء ، وكيف للصفاء أن يحدث في عالم مياهه عكرها رصاص الواقعية؟ مثاليات الحب و قاموسه العربي فيها من الاستغراب ما يكفي . أكثر من خمسين كلمة تعبر عن الحب في اللسان، لكن كلمة واحدة تكفي لقتل الأمل في الحياة : "الكراهية" . فرحة النظرية تواجه شقاء الواقع . فهل سننتظر أفروديت مرة أخرى حتى ننهض من رمادنا ؟ الباحثة "ايفا ايلوز" تحثنا - لفهم ورطة الحب حاليا - على التعامل مع الحب كما تعامل كارل ماركس مع البضاعة . الحب نتاج العلاقات ألاجتماعية، و يحتل سوقا بشرية، الفاعلون فيها هم في وضعية تنافسية غير متوازنة . "الحب بضاعة"، عنوان كبير لما يحدث في المجتمعات المعاصرة الرأسمالية. فحتى الحب هو نتيجة للصراع الطبقي. الواقع يحدد معالمه و يوجهه في اتجاهات تهدد كيانه و كيان الانسان. تضيق الأرض، كلما تراجع منسوب مياه الحب، و جفت أنهار الهوى . الفشل في الاحساس دافع لسبر أغوار قارات الهوى بكل أنواعها، و مواجهة لمنطق البيع و الشراء في العواطف، في أفق البقاء على قيد الحب. * كاتب و سينمائي مقيم في برلين