يعتبر الدين مكونا مركزيا من مكونات تشكيل الهوية الحضارية لأي أمة من الأمم ، وعاملا مؤثرا في صناعة التاريخ، وإنتاج الحضارات الإنسانية، إذ لم يخل مجتمع من المجتمعات البشرية على مر التاريخ من وجود مؤسسات دينية، تمارس التوجيه الديني، وتعمل على بناء وعي الإنسان وتصحيح تصوراته وفق منظومة قيم محددة، وفي إطار المنطق الديني السائد في هذه البيئة أو تلك، كما لم يخل مجتمع من المجتمعات من وجود فضاءات لممارسة الطقوس والشعائر الدينية، بصرف النظر عن طبيعة تلك الطقوس والممارسات، وهذه حقيقة أصبحت من مقررات البحوث والدراسات في تاريخ الأديان والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الديني، وقد استند إليها كثير من الباحثين لإثبات الطابع الأصيل لمسألة التدين، وكونه ذا بعد وجودي في الإنسان. ونظرا للمكانة التي يحظى بها الدين داخل المجتمعات البشرية، كحاجة فطرية تلبي رغبة أكيدة في رحلة البحث عن المعنى، وكمعطى له تأثيره الكبير في كل ما ينتجه الإنسان من فكر وحضارة وعمران، فقد شهدت السنوات الأخيرة اهتماما متزايدا بالمسألة الدينية من طرف عدد من الباحثين الغربيين لاسيما في مجال علم الاجتماع، حيث توقف كبار منظري علم الاجتماع مع الظاهرة الدينية، متأملين معنى الدين ووظائفه وتأثيراته داخل المجتمع. وإذا كان الحضور الديني قد عرف نوعا من الخفوت والتراجع في البيئة الأوروبية خلال عصر النهضة، بسبب ما أصبحت تعيشه تلك البلدان الأوروبية، من علمنة شاملة أدت إلى ضمور المعتقدات الدينية، وتراجع سلطة الدين وحضوره في المجال العام، فإن الفكرة الدينية في المجمل، ظلت حاضرة في البنية الثقافية والفكرية لهذه المجتمعات، وفي كل ما ينتجه الإنسان الغربي، وإن بأشكال متفاوتة من بلد لآخر، ومن مجال لآخر؛ ذلك لأن الدين كما أسلفنا هو حاجة فطرية في الإنسان، وأي محاولة لتغييب هذا النزوع الفطري نحو التدين، هي في الواقع محاولة لكبت غريزة مركوزة في النفس البشرية، قد تخبوا في لحظة زمنية نتيجة لعوامل متعددة، لكنها ما تلبث أن تعود لتهيمن على الوجدان والسلوك الإنساني. ولذلك فبالرغم من تلك المحاولات الرامية إلى القضاء على ما تبقى من مظاهر التدين في الأوساط الغربية، فإن ذلك لم يمنع من أن يتغلغل التأثير الديني في مفاصل الحياة الغربية، على نحو ما نجده في الولاياتالمتحدةالأمريكية التي شهدت في السنوات الأخيرة، ارتفاعا متزايدا في عدد المتدينين، بحسب ما أفادته بعض الدراسات المختصة بتتبع الحالة الدينية في المجتمع الأمريكي. وقد أصبح الحضور الديني في الحياة الاجتماعية والسياسية الأمريكية معطى واقعيا غير قابل للاختزال، خصوصا مع ظهور الحركات الاجتماعية التي كان يوفر لها الدين الأساس الإيديولوجي في معركة الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية. وأيضا مع عودة التيارات المحافظة إلى المشهد السياسي الأمريكي منذ سبعينيات القرن الماضي. أما بالنسبة للحضور الديني في البيئية الإسلامية، فإن الأمر يختلف عما هو عليه الحال في البيئة الغربية؛ إذ لم تشهد الدول الإسلامية ما شهدته الدول الغربية من صراع بين الدين والمجتمع، أو بعبارة أدق بين الكنيسة ورجال الفكر في المجتمع الغربي، وبالتالي فقد ظل الدين حاضرا في عمق المجتمع الإسلامي، كمرجعية عليا تؤطر الحياة بمختلف تجلياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها. ويظهر ذلك التأثير الكبير للدين في المجتمع الإسلامي في كل ما أبدعه الانسان المسلم على مر العصور من صنوف المعارف، وألوان من الفنون المختلفة. ويكفي أن نبين هنا بأن الاهتمام بعلوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة إنما كان نتيجة للاهتمام بالنص القرآني، كما أن اشتغال علماء المسلمين بالفلسفة والمنطق كان قد فرضته أسباب دينية وعقدية محضة، وقل ذلك أيضا بالنسبة لعلوم أخرى، مثل علم الفلك الذي نشأ نتيجة لاهتمام العلماء بتحديد مواقيت العبادات، وعلم الحساب الذي نشأ على هامش الاهتمام بالمواريث وتحديد أنصبة الزكاة. وقد امتد هذا التأثير الذي فرضه النص الديني على العقل المسلم، في كل المنتجات الثقافية الأخرى، ما أدى إلى إضفاء طابع متميز على الحضارة الإسلامية، انطلاقا من خصوصية الدين الإسلامي وتعاليمه السامية. وإذا كانت الحضارة الإسلامية نتاج أفكار وتصورات وقيم دينية وفلسفية، فإن الحضارة المغربية تعتبر جزءا من الحضارة الإسلامية، غير أن هناك خصوصيات تميزت بها الحضارة المغربية عن نظيرتها في المشرق، تبعا لاختيارات دينية وعقدية محددة، كان لها تأثير بارز في رسم ملامح الشخصية المغربية المتفردة بثقافتها وقيمها وسلوكها ونمط عيشها. فما هي إذن أبرز مظاهر التأثير الديني في عمق الحياة المغربية سياسيا واجتماعيا وثقافيا وعمرانيا؟ وكيف ساهم المكون الديني في صياغة الشخصية المغربية عبر التاريخ؟ هذا ما سنعمل على إبرازه في محطات لاحقة بإذن الله.