بسم الله الرحمن الرحيم (1) أصبح المشروع "الحداثي"، في خطاب اللادينيين، بكل فصائلهم وتوجهاتهم، يُقدَّم على أنه نقيضُ المشروع الإسلامي. وقد كثُر في خطاب خصوم الإسلاميين ومنافسيهم، بعد أن ظهرت الحركةُ الإسلامية وفرضت نفسها في الساحة السياسة رقما لا يمكن تجاوزه، استعمالُ كلمة "حداثة" وما يتعلق بها من نعوت وتصورات، حتى باتت هذه الكلمةُ تُستعمل في كثير من السياقات حشوا لا يعني شيئا، إلا الدعايةَ الفارغة من أي مضمون سياسي معقول ومفهوم، وإلا الغمزَ، من طرف خفيّ، في الإسلاميين والتنقيص منهم. وقبل متابعة الكلام، أوضح أني أقصد ب"اللادينيين" كلَّ من يقول: "لا دين في السياسة"، و"لا دين في الاقتصاد"، و"لا دين في الفن"، و"لا دين في التعليم"، ولا دين في غير هذه من مجالات أنشطة الإنسان وشؤونه الاجتماعية، وإن لم يكن ملحدا. "الحداثة"، ك"الديمقراطية" و"اللائكية"، و"العقلانية"، وأمثالها من المصطلحات والتصورات والمفاهيم، التي وردت علينا من الغرب، لها تاريخٌ في منبتها الأصلي، لكن معتنقيها من "الحداثيين" عندنا، يتعمدون ألا يقرأوا ذلك التاريخ، وألا يعتبروه في النقل والترجمة والتقييم. بل نجد أن أكثرهم يجتهد أيما اجتهاد ليفرض علينا قبولَ تلك الوافدات، بعُجَرها وبُجَرها، وإن كان وفودُها قد تمّ، أصلا، تحت حراب الاستعمار، ثم ترسخ بفعل طاحون التغريب. والتغريب مصدر غَرَّبَ، وصيغة فَعَّلَ في اللغة العربية تُستعمل لعدة معاني، منها معنى التوجه والنسبة والإلحاق. تقول، مثلا: عرّبت الكلمةَ الأعجمية بمعنى ألحقتها باللسان العربي. وعلى نفس القياس نقول: غَرّبته إذا ألحقته بالغرب. وقد تُستعمل الصيغة لازمةً بمعنى التوجّه: فغرّب فلانٌ يُغرِّب، تعني اتجه نحو الغرب، ومتعديةً فتقول مثلا: غرّب الاستعمارُ كثيرا من الشعوب الإسلامية، أي ألحقَها بالغرب، وربطَها بحضارته، وجعلَها دائرة في فلكه. والغربُ هنا لا علاقة له بالجهة والمنطقة الجغرافية، وإنما المقصودُ بالكلمة هو الحضارة والفكر والفلسفة والعقائد. لقد كان الروح العقلاني اللائكي الغربي، في حقبة الاستعمار وما بعد الاستعمار، وراء ظهور أجيال جديدة تحمل منظورا جديدا في شؤون الكون والإنسان والمجتمع. إنه منظور أساسُه التعليم الغربي التغريبي، والتربيةُ على النمط الأوربي، والسلوك على المنهاج الغربي، لكن مع اعتبار الفرق بين الأصل والفرع، بين التابع والمتبوع، بين الغالب والمغلوب، بين المنتصر والمهزوم. ومع تمكن هذه المذهبية اللادينية في أرض الفكر والثقافة في البلاد العربية الإسلامية، وتبنيها من قبل فئات واسعة من المثقفين ومن المفكرين والكتاب والأدباء والسياسيين، توافرت الشروطُ والظروف المواتية لاندلاع المواجهات الأولى بين أنصار هذا التيار اللائكي اللاديني وبين أنصار التيار العربي الإسلامي، وهو ما عُرف، في أدبيات القرن الماضي بالمعركة بين أنصار القديم وأنصار الجديد. ويمكن مراجعةُ معالم هذه المعركة وفصولها، في بداياتها الأولى، في كتاب مصطفى صادق الرافعي "تحت راية القرآن"، وفي مراحلها المتأخرة، في كتاب محمود محمد شاكر "أباطيل وأسمار". (2) وأسأل سؤالا واضحا لا يعرف اللف والدوران الذي ألفه كثيرٌ ممن يتسمون مثقفين في زمننا العربي الإسلامي الحديث: من منا يمكنه، اليوم، أن ينكر العلاقة الوثيقة بين مفهوم الحداثة السائد في الخطابات الفكرية والسياسية، وفي المواقف الاجتماعية والاختيارات الاقتصادية، وبين المذهبية اللادينية، أي "اللائكية laïcisme " بالاصطلاح الأجنبي؟ هل يمكننا- مهما كانت قدرتُنا على صناعة الحيل، واختلاق المبررات، ومهما كانت براعتُنا في العناد والجدال وتشقيق الكلام- أن ننكر هذا التقابل الواضح، الذي بات يطبع فضاءنا الفكري والسياسي، بين الخطاب "الحداثي"(بين قوسين) في ضفة، والخطاب "الإسلامي"(بين قوسين أيضا) في الضفة الأخرى؟ والسؤال هنا، طبعا، دائر حول الشائع الغالب، ومن ثمَّ فلا شأن لنا بالاستثناءات. إن الاعتراف بحقيقة ارتباط المفهوم السائد للحداثة بالمذهبية اللادينية يُسهِّل علينا بدءَ الخطوة الأولى، وهي أساسٌ، على طريق معرفة الأصل من الفرع، وتمييز الأصيل من الدخيل. ولا بد أن أوضح أن المسألة التي ينصب عليها كلامي هنا لا تتعلق بهذا الدخيل من حيث هو دخيل، وإنما تعلُّقُها بهذا الدخيل من حيث هو أصلٌ مجلوب من تربة لها خصائصها، يُراد استنباتُه، بالتعسف والإكراه، في تربة الثقافة العربية الإسلامية، ثم تسويغُه والترويج له على أنه أصل "إنساني" لا يعرف حدود الثقافات، والحضارات، والأديان، والأجناس، والأعراق، واللغات. إن جعل مفهوم الحداثة مناقضا ومعارضا ومحاربا للدين- وفي أحسن الحالات مُجَرِّدا للدين من أية أهمية أو فاعلية في شؤون الإنسان الحياتية، وخاصة السياسية والاقتصادية والثقافية- يرتبط بأصل ثقافي لا يمكن، مهما كانت التفسيراتُ والتأويلات، أن يكون بينه وبين الأصل الثقافي الإسلامي إلا التنافر والتدابر، ومن ثمَّ يتوجب فهمُ هذا الأصل الدخيل في سياق بيئته التي نبت فيها وتطوّر، حتى نضج واكتمل في صور فلسفات ونظريات وسياسات وعقائد، لها نظرتُها المتميزة إلى الكون، والخلق، والمجتمع، والأفكار، وسائر الموجودات من المحسوسات والمعقولات والمفهومات. إن اللادينية، بكل صورها، هي غريب دخيلٌ على ثقافتنا الإسلامية، رضي بذلك مثقفونا "الحداثيون" أم لم يرضوا، لأنها الحقيقةُ التي يتكلم بها التاريخُ منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، والتي لم يُفلح المزوّرون، والمُغالطون، أن ينالوا منها، في الماضي، وفي الحاضر الذي أصبح يُسعفهم بإمكانيات هائلة ووسائل متطورة ك"الأنترنيت" و"القنوات الفضائية" وغير ذلك من مظاهر الثورة الواسعة في مجالات الإعلاميات والاتصالات. المذهبية اللادينية غريبةٌ عن ثقافتنا الإسلامية، ومن ثمَّ فهي أصلٌ عند أصحابها قبل أن ينقلها الناقلون، ويترجمها المترجمون، ويدافع عنها المدافعون، بالحق والباطل، لإثبات أنها نبتةٌ مألوفة في ثقافتنا، وأن لها، في تراثنا، امتداداتٍ تاريخيةً، وأعلاما من أسلافنا، إلى آخر ما زعموا، واختلقوا، وما يزالون يزعمون ويختلقون. ومن إفرازات الثقافة التابعة، في البلاد العربية الإسلامية، الدفاعُ عن المذهبية اللادينية بأنها من "التراث الإنساني العالمي"، الذي لا يعترف بالحدود الجغرافية، والخصوصيات العقدية والمميزات الحضارية، فضلا عن كونها- في زعم الدفاع دائما- لا تتعارض مع عقائد الإسلام وأصوله الإيمانية إذا ما اعتمدنا منهجا "عقلانيا" "تنويريا" في النظر والفهم والتفسير والتأويل. هذه مبرراتٌ يجادل بها قوم عن ثقافة "غالبة" "غازية" "طاحِنة"، هم أولُ من يعرف أنها ثقافة جُلبت إلينا تحت حرّ حِراب الاستعمار، واستُنبتت بأرضنا استنباتا بواسطة طاحون تعليم تغريبي كان من طِحْنه، بعد سنوات من العمل الدؤوب، نخبٌ انتهى إلى أيديها، بعد رحيل جيوش الاستعمار، زمامُ شأننا العام، وخاصة، في مجالات السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام. إن المذهبية الحداثية(أي المودرنيزم) نبتة أصلها هنالك في الغرب، لها ملابساتها وخصائصها، في النشأة والتطور والنضج والاكتمال، وأن "حداثيَّتنا" إنما هي فرع تابع، لا تملك من الأصالة إلا الشعارات، والمراوغات، والمغالطات، والتأويلات المعتسفة. وليس كلُّ أصل نشأ في الغرب مرفوضا، مبدئيا وآليا، من حيث هو أصل أجنبي، كما تسعى أن توهمنا بعضُ الخطابات الحداثية التابعة، وإنما المرفوضُ هو هذا التلبيس الذي قد يخفي وراءه نيات مبيتة تفرض علينا، في كثير من الأحيان، أن نؤخر حسنَ الظن، وأن نتشبث بحقنا في الشك والتحري والتحقق. (3) ما يزال هناك من النقاد والباحثين في مجالات الفكر والآداب والفنون من يعتقد وجودَ تصوراتٍ إنسانية مطلقة تتجاوز الحدودَ البشرية الجغرافية العرقية، والحواجز الفكرية الحضارية، والمميزات العقدية الدينية. ويذهب أصحاب هذا الاعتقاد إلى أن الأمر ليس مقصورا على ميادين العلوم والصناعات والتطبيقات التكنولوجية وحسب، بل يتعداها إلى ميادين الإنسانيات والأخلاقيات والفلسفيات. وقد نجدهم يجادلون في كون التصورات والمفاهيم المستوردة لا بد أن تحمل معها إلى البيئة الجديدة خصائصَ البيئة الأم التي أنتجتها، ويزعمون، استنادا إلى إيمانهم بِ"كونيّة" تلك القيم والمفاهيم، أن الأمر يتعلق بنتاج ذي بعد إنساني تذوب معه الخصائصُ العرقية والمميزات العقدية والحضارية. وهناك من الباحثين، وهم قلائل، من يُقر بوجود فوارق واختلافات في الأفكار والنظريات بين موطن النشأة والموطن الجديد. ومهما تكن النقاشات والجدالات التي دارت، وما تزال تدور، حول هذا الموضوع، موضوعِ تأثر المفاهيم والتصورات أو عدم تأثرها حينما تُنقل من بيئتها الأم وتُزرع في بيئة أخرى مختلفة، ومهما اختلفت وجهاتُ النظر وآراءُ الباحثين والمفكرين، فإن الحقيقة التي يشهد لها تاريخُ تواصل الحضارات وتنافسها وتدافعها وتغالبها، وكذلك الواقع الاجتماعي الفكري والسلوكي، هي أن المفاهيمَ والنظريات والتصورات التي لها علاقة بالعقائد والأخلاق والفلسفات والتاريخ، لا يمكن أن تتجرد عن جرثومتها حينما يتمّ استنباتُها في أرض جديدة. في العربية، جرثومةُ الشيء أصلُه.إنه لا "أممية" إذاً، في العقائد والفلسفات والأخلاق، وإنما هو التمايز والتباين والزِّيَال. وأفتح هنا قوسا صغيراً لأوضح أن الشعوب غير الإسلامية، مثلا، لا تؤمن بالصفة العالمية لرسالة الدين الإسلامي، فضلا عن عدم إيمانها، أصلا، بالإسلام دينا قيّما، ورسالةً خاتمةً بعث بها الله، عز وجل، خاتمَ النبيئين والمرسلين محمدا، صلى الله عليه وسلم. هذا مع إيماننا، نحن المسلمين، بأن (الدين عند الله الإسلام)(آل عمران/19)، وأن الله، تعالى، أرسل سيدنا محمدا رسولا ورحمة للعالمين: (وأرسلناك للناس رسولا)(النساء/78)، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(الأنبياء/106)، (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا، الذي له ملك السماوات والأرض. لا إله إلا هو، يحيي ويميت. فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يومن بالله وكلمته، واتبعوه لعلكم تهتدون)(الأعراف/158). إن مغزى هذا التوضيح أن عالميةَ رسالة الإسلام، في اعتقادنا نحن المسلمين، لا يمكن أن نُلزم بها غيرَنا من غير المسلمين، ولا أن نفرضَها عليهم قهرا وسطوة وغلبة، إلاَّ دعوةً بالحكمة والموعظة، وجدالا بالتي هي أحسن. فإذا كانت هذه الحقيقةُ تنطبق على دين الإسلام خاتم الرسالات السماوية، فأحرى أن تنطبق على النظريات والفلسفات الوضعية التي منشؤها تفكيرُ الإنسان، وذوقُ الإنسان، وتأملُ الإنسان، وقصورُ الإنسان، وضعفُ الإنسان. في جملة، نظرياتٌ وفلسفاتٌ وضعيةٌ منشؤها الإنسانُ في نسبيّة قدراته ومحدودية طاقاته. إنني، بالطبع، لا أناقش هنا حقيقةَ كون الأفكار، كلِّ الأفكار، حينما تنتقل من تربتها الأصلية، لا بد أن تتأثر، قليلا أو كثيرا، في السطح أو في العمق، في الزمن القصير أو الطويل، بخصائص الأرض الجديدة، في العاداتِ والأعراف، والموروثات والأذواق، والسلوكات والأفكار، إلى آخر ما يميز هذه الأرضَ المُسْتَقْبِلَة تاريخا وحضارة وتقاليد. إذن، فالحديثُ عن المفاهيم والتصورات ذاتِ البعد الإنساني، التي تزول معها حدودُ الحضارات وخصائصُ الشعوب والمجتمعات، ولا تتميز فيها المعتقداتُ والمشارب والأهواء، هو، في اعتقادي، من الأحاديث التي لا يكون لها معنى إلا في دائرة الموضوعات التي يستوعبها العقل الإنساني "العلومي"، أو العقل "المعاشي" المشترك. (4) بين "الحداثية" و"الحداثة" الفرق بين كلمة Modernisme وكلمة Modernité في الصياغة اللفظية، وتبعا لها، في الدلالة المعنوية، هو أوضح من أن يُبيَّن أو يناقش. واللاحقة "إيزمISME" في الصياغة اللغوية الأجنبية، تفيد الدلالة على المذهبية العقدية، أو السياسية، أو الفلسفية، أو الاقتصادية، أو غيرها من المذهبيات،كالماركسيةMarxisme، والوجوديةExistentialisme،واليهوديةJudaïsme،والليبراليةLibéralisme...إلخ ويقابل هذه الصياغةَ الأجنبية في اللغة العربية بناءُ ما يُسمى في علم الصرف بالمصدر الصناعي، ويُصاغُ بزيادة ياء مشددّة بعدها هاء في آخر الاسم، كالوطنيّة من الوطن، والإنسانيّة من الإنسان، والقيصرية من القيصر. وتطبيقا لهذه القاعدة، فإن نقل كلمةModernisme إلى العربية ينبغي أن يكون على مثال المصدر الصناعي من اسم الحداثة، وهو "الحَدَاثِّيَّة". أما الشائع في العربية اليوم، فهو استعمالُ كلمة "حداثة" ترجمةً مطلقةً للفظتين الأجنبيتين Modernismeو Modernité، بلا تدقيق ولا تمييز، وهو استعمال لا يخلو من خلط ومغالطة والتباس. إن الخلط الواقع في ترجمة كثير من المصطلحات الأجنبية، وخاصة في الميادين الإنسانية الفلسفية والأدبية، يمكن، في رأيي، إرجاعُ سببه الأصلي إلى تأثر المثقفين العرب بالغرب، والانبهار بنظرياته إلى حد اعتبارها تمثل أعلى ما بلغته الإنسانية في باب التفكير والإبداع. وعند الترجمة، فإنه تتم مراعاةُ روح الثقافة الغربية: العقلانيةِ اللائكية اللادينية. فكل ما هو حديث لا بد أن يكون متجاوزا للتفكير الديني، غيرَ معتدّ بالغيب ولا بالأصول الإيمانية، ولا بالقطعيات "المتعالية". وفي هذا الصدد لا نستغرب أن يربط كثيرٌ من المثقفين عندنا بين الاختراعات الغربية المادية وبين الفكر الغربي اللائكي. فلا يُعقل، عندهم، ولا يصح الإقبالُ على المنتوجات الغربية العلمية المادية، والحرصُ على الانتفاع بمخترعاته الصناعية من غير الأخذ بما كان وراء هذه العلوم والمخترعات والصناعات، في زعمهم، من فكر وثقافة وفلسفة روحُها العقلانيةُ اللادينية. فمن التناقضِ عندهم-عندَ (أدونيس) الملحدِ مثلا- قبولُ منجزات الحداثة الغربية العلمية والتقنية، "وكل ما يحسّن الحياة وطرقها المعيشية"، وفي الوقت نفسه، رفضُ "الموقف العقلي" الذي أدى إلى نشوء هذه الحداثة، و"النظرة التي أبدعتها". وهذا يذكرنا بسعي بعض اللادينيين عندنا، وهم قلة على هامش المجتمع المغربي المسلم، ليفرضوا علينا ديمقراطية "كونية"، في زعمهم، أي بكل لوازمها، من غير فصل ولا تمييز بين إجراءاتها التقنية وترتيباتها التطبيقية وبين أصلها الفلسفي وخلفياتها اللادينية، وهدفُهم الأساس، وهو معلنٌ عند بعضهم، هو إبعاد الإسلام من أن يكون له حضور وتأثير في النظر إلى شؤون الناس وما يتعلق بهذه الشؤون من قضايا ومشكلات ونوازل في مختلف الميادين والقطاعات. وهكذا كانت كثيرٌ من الترجمات، في سياق استعمالات مبيَّتَة الأغراض، تسعى إلى تثبيت الفكر الفلسفي الغربي في مواجهة الفكر الإسلامي، مما أدى إلى أن تصبح "المصطلحات" صناعةً تُستغل في دعايات سياسية سافرة، في كثير من الأحيان، لا علاقةَ لها بشؤون الفكر والحضارة. فاليوم، ولمواجهة التيّار الإسلامي القويّ المتصاعد، والطعن على أفكاره وأطروحاته، يُكثر المثقفُون اللائكيّون، من الكتّاب والمفكرين والسياسيين، من استعمال لفظة "حداثة" لوصف مشروعهم اللاديني الفكري والسياسي، الذي يقابلون به المشروع الإسلامي "الغيبي"، "اللاعقلاني"، "الخرافي"، كما يصفون، وكما يزعمون. فالحداثة عندهم نقيضٌ "أبدي" للمشروع الإسلامي في مختلف مناحيه وأفكاره واجتهاداته، ولهذا أصبح وصفُ مشروعهم السياسي بأنه حداثي، وأيضا نعتُ نموذجِ المجتمع الذي يطمحون إليه بأنه حداثي، لازمةً في خطاباتهم وكتاباتهم إلى حدّ الابتذال واللغو الذي ليس تحت طائل. (5) هل للفظة "حداثة" مدلول اصطلاحي إنساني كوني تختفي معه خصائص الأمم والحضارات، وتسود بدلَها قيم عالمية واحدة؟ أم أن هذا المدلول، كغيره من الأفكار والنظريات الوضعية البشرية، إنما هو مدلول نسبي يُقرأ ويُقوَّم ويُنتقدُ حسب الظروف التي تلابسه، ويتغير ويتعدد بتغير النظريات وتعدد الثقافات والمعتقدات؟ أم أن الأمر اختلاطٌ وفوضى يتعذر معها الانتهاءُ إلى مدلول اصطلاحي واضح المعالم، أو تبَيُّنُ ملامح مرجعيةٍ معينة من المرجعيات الفكرية والحضارية؟ إذا نحن استثنينا بعض الآراء القليلة، كمًّا ونوعا، فإن غالبية الباحثين، وخاصة منهم الذين عُنوا بالبحث في الجانب الاصطلاحي للفظة "حداثة"، تتفق في المضمون، وإن اختلفت أشكال التحليل والتعبير، على أن السياق الحضاري/ العقدي/ الفكري/ الفلسفي/ الاجتماعي، الذي أنتج "الحداثة" بمفهومها الاصطلاحي إنما هو في الأصل سياق أوربي مائة في المائة. ويعضُدُ هذا الرأي الغالبَ في أوساط النقاد والباحثين، على اختلاف مناهجهم ومرجعياتهم، الشهاداتُ والنصوص التي تمُدنا بها مدونات تاريخ الحضارة الغربية، ومعاجمُ الأديان واللغة والفلسفة والأدب. إن نقلَ مفهوم الحداثة الغربية إلى الثقافة العربية الإسلامية يعني، في الجوهر والأساس، وليس في اللغة والعبارة والشكل، نقلَ المذهبية اللائكية اللادينية إلى واقع ثقافي قائم، في روحه، في تراثه، في تاريخه، في أصوله، في شريعته، في أخلاقه وعاداته، على عقائد الإسلام، على الرغم من آثار الغزو الاستعماري التغريبي في أفكار المسلمين وسلوكاتهم وأساليب تفكيرهم ونظرهم. وهذا، في رأيي، هو أصل الإشكال، وعليه مدارُ أزمة الفكر العربي الحديث في كثير من مسائله وقضاياه. فهذه الإشكاليةُ في موضوع تحديد المفاهيم والتصورات، وكذلك الاختلاف في ترجمة الاصطلاحات الأجنبية، ما هي، في منظوري وتحليلي، إلا غصنٌ من تلك الشجرة الباسقة الممتدة الجذور في ثقافتنا الحديثة، شجرةِ التربية الاستعمارية والتعليم الغربي التغريبي، شجرةِ التغرّب عن الذات وفقدان الهوية بتبني حضارة الآخر على الإطلاق من غير تمييز. وقد يبدو، من الظاهر، أن موضوع نقلِ المفاهيم وتحديدِ التصورات وترجمةِ الاصطلاحات لا يفتأ يطرح إشكالية فكرية في جميع العصور والثقافات، وأن حالتَنا في الأمة العربية الإسلامية ليست استثناء من هذا الحكم، ولا علاقة لها بالاستعمار والتبعية. قد يكون في هذا الرأي، الذي عليه غالبيةُ مثقفينا اللائكيين دعاة "الحداثة الحداثية"، شيءٌ من الصحة لولا هذه الأزمةُ العامةُ الشاملة لكل مجالاتنا الفكرية والثقافية والسياسية والفنية والأدبية. إنه "قانون التقليد شيطان عصر النهضة"، كما عبّر منير العكش. وهذا ما عبّر عنه، بلغة أخرى أكثر وضوحا، الدكتور كمال خير بك، وهو من المثقفين الأدباء الحداثيين، بقوله في حق "الانتلجنسيا العربية المتغرّبة"، في كتابه عن(حركية الحداثة في الشعر العربي المعاصر)، ص102: "وبمواجهة الأزمة المتعاظمة للحضارة الأوربية-الأمريكية، المزعومة حضارة شاملة، تلك الأزمة التي يعبر عنها مفكرونا وفنانونا ذاتهم، وجدت الانتلجنسيا العربية "المتغربة" نفسَها حائرة، بعد أن أضاعت محورَها الطبيعي، تراثَها وإمكانيةَ الرجوع إلى الله". تتمة الكلام في مقالة قادمة، إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. http://majdoub-abdelali.maktoobblog.com