مقدمة: اقتحم الفكر الغربي العالم الاسلامي من خلال التعليم وهو يحمل فلسفاته الفكرية ومذاهبه العقدية المعادية للدين الإسلامي، وقد استفاد هذا الفكر الغربي من جميع العلوم وفروع المعرفة سواء كانت علوما طبيعية أو إنسانية . إن العلاقة التي تجمع بين الثقافة الغربية وبين فروع المعرفة تكمن في أن الوجود كله منحصر في الإنسان والطبيعة، وهو جزء منها ونوع من أنواعها، وأن الطبيعة تحكمها قوانين وسنن لا علاقة لها بالخالق وأنها جدت نفسها بنفسها، وأن العقل هو الأداة الوحيدة لإدراك ومعرفة الحقيقة ، وأن المثل الأخلاقية والقيم ما هي إلا حوادث ووقائع نشأت وتطورت، وأن الإنسان حيوان اجتماعي مفكر والنفس الإنسانية هي عبارة عن مجموعة من الغرائز ، فهذه هي الخلقية العقائدية المشتركة بين العقلانيين والماديين.وهي عقائد ليس لها صلة بالآلة ولا تربط حركة الكون ونظامه ألسببي بالقوة الفاعلة (الله). وبالتالي فإن أي كلام عن الوحي والنبوات والجزاء، والحياة الخالدة، وكل ما كان منبعه الدين ليس له أي معنى أو فائدة طالما ليس هناك إلها مدبرا خالقا. إن هذه المفاهيم والآراء الفاسدة نجدها تتسرب إلى مختلف العلوم التي تدرس في العالم الإسلامي، وهي تشكل مركبا ثقافيا يتجافى ويتنافى مع روح الدين والحصة المقررة في مناهج التعليم لتعليم الدين غير كافية لمواجهة هذا الشحن الفكري، وتعتبر هذه المعضلة من أشد الأزمات التي يواجهها العالم الإسلامي، بل هي أشد خطرا على الأمة الإسلامية من الغزو العسكري. وكان من نتائج هذا الغزو الثقافي الفكري الذي احتاج بلدان العالم الإسلامي استبدال التشريع الإسلامي الذي يستمد أحكامه من أصول الوحي بالتشريع الغربي الذي يناقض بشدة هذه الأصول، ثم التخلي عن الثقافة الإسلامية واللجوء الى مناهل الثقافة الغربية ، ولنجاح هذا المخطط أعدوا لهذه المهمة نخبة من أبناء الأمة ليقوموا بعملية تغريب التشريع والحكم والدولة والسياسة.فنجحوا في إقصاء الإسلام عن الحياة الواقعية وحصره في حصة تعليم الدين وفي تشريع الأحوال الشخصية وفي مراسم حضور صلاة العيدين. إن هذا الوضع المزري لا يتطلب منا الابتعاد عن هذه العلوم ورفضها لكونها تجافي تعاليم الإسلام، خصوصا وأن هذه العلوم كان للمسلمين فضل السبق في العمل في ميدانها والاشتغال بتجديدها عبر تاريخنا الطويل، وللتصدي لهذا الاحتواء الثقافي والفكري الذي فرضه الغرب المسيحي على العالم الإسلامي لابد من إعادة صياغة العلوم وجميع فروع المعرفة صياغة إسلامية تتخذ من حقائق الدين منطلقا لها. ولهذا يمثل الاجتهاد في المجال المعرفي أكبر تحدي يواجه الأمة الإسلامية اليوم نظرا لبقاء عدد من القضايا الفكرية المستجدة خارج اهتمام الباحثين المسلمين.ومن ذلك نظرية المعرفة . فما أهمية نظرية المعرفة؟وكيف السبيل إلى صياغة نظرية يستعين بها المسلمون على تغيير واقعهم وتطويره بمعايير الإسلام وأدواته في التغيير والتطوير, وينظرون من خلالها النظرة الإسلامية الرشيدة لقضايا الكون والحياة, ويواجهون بها كل ضروب التحدي الوافد أو الموروث, وتكون في الوقت نفسه بيانا لغير المسلمين بالإسلام وخصائصه التي تعلق عليها البشرية آمالها في الخلاص من حالة القلق التي تعاني منها الحضارة المادية المعاصرة, وعندئذ سيكون لها أجل الأثر في تصحيح وجهة العلوم لدى عقلاء العالم ومفكريه إذا ما درسوا الإسلام في حقائقه, واستفادوا منه في إصلاح شؤون حضارتهم. إن مبادئ الإسلام السامية وقيمه الهادية ومنهجه الرشيد هي أفضل المعايير التي تحدد للإنسان ما يجوز فعله بالمعلومات التي جمعها, والقوانين العلمية التي اكتشفها والتقنيات الجديدة التي يطورها ويستخدمها, وفي هذه الحصيلة الإيمانية للمعرفة تكمن القوة الدافعة للإنسان نحو حب الخير والحق والجمال, ويتحقق إنقاذ هذا العالم الممزق المتناحر والمهدد بالدمار بين لحظة وأخرى إذا ما أساء استخدام الإنجازات العلمية والتقنية بمعزل عن القيم الايمانية الهادية . ويبقى أن نؤكد على أن خيوط هذه النظرية الإسلامية لا تزال بحاجة إلى تضافر الجهود في كل علم وفن, وإلى أن يأذن الله بمجيئهم, يجب علينا أن نهيء لهم الأرضية الصالحة,بالوقوف على الأسباب والعلل . تمثل هذه الدراسة مدخلاً لتبادل الرأى والحوار البنًّاء حول أسس تكوين العقلية العلمية الإِسلامية المعاصرة وترشيدها عن طريق بلْورة نظرية عامة للعلم والتقنية فى إطار من التصور الإِسلامى المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وهذه القضية ليست بسيطة كما تبدو لأوّل وهلة, ولكنها متشعّبة الجوانب والفروع, وتحتاج, إلى إسهام وإبداع كل المهتمين بقضايا الفكر الإِسلامى, كلّ حسب تخصصه وعلى قدر طاقته. أولا: التطور التاريخى لمفهوم نظرية العلم نشأت العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة داخل الثقافة الغربية منذ القرن التاسع عشر، وهي علوم تهتم بدراسة الظاهرة الإنسانية ، غير أن هناك اختلاف بين رواد التفكير الإبستمولوجي الغربي حول الهوية المعرفية لهذه العلوم ، يقول أحرشاو الغالي : (إن هذا لا يعني بتاتا أنهم مختلفون حول تاريخ نشأتها ونوعية مضامينها وفروعها وفعالية تفسيراتها ونتائجها.فنشأتها ترجع إلى القرن الماضي وفروعها تسلل من السوسيوبولوجيا الى السيكولوجيا الى اللسانيات إلى التاريخ الموضوعي الى علم الاقتصاد والاقتصاد السياسي إلى علم السكان والجغرافيا البشرية ، وفعالية نتائجها تظهر في شتى مجالات الحياة اليومية ابتداء بتصحيح مسار المجتمع وتوجيه سلوك الإنسان وتطوير وظائف اللغة وانتهاءا بالتوزيع العادل للثروات والخيرات والتخطيط الجيد للإسكان والعمل والإنتاج1 . إن العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة تمثل تصورات الغرب- بعد الثورة الفرنسية – حول الإله والإنسان والحياة والطبيعة والعلم، وقد طبعت هذه العلوم مجموعة من الخصائص منها القطيعة التامة مع عالم الغيب على اعتبار أن الحياة الدنيوية هي غاية الوجود الحق، وأن الدين هو مجرد اعتقاد شخصي ينفعل به الفرد ولا علاقة له بالشؤون الاجتماعية ولا السياسية.وبالتالي فإن العقل هو المصدر الوحيد لتحصيل المعرفة وإدراك كنه الأشياء دون الاستعانة بأدوات معرفية أخرى ، كما أن عقدة الاستعلاء عن بقية الأجناس التي تسيطر على كل أعلام الفكر الغربي تركت بصمات بارزة على النظريات الاجتماعية والإنسانية الغربية ، يقول الأستاذ عادل حسين بخصوص هذه النظرة القاصرة والمعادية لباقي الشعوب :( العقلانية الكلاسيكية أو العقلانية الغربية الذين لم يخرجوا من قبضة هذه النزعة الإيديولوجية، نظرة السيطرة أو الاستعلاء، فولتير ومنتسكيو تحدثوا مثلا عن الحضارات الأخرى بقدر من الاحترام ولكن في تحقيق التقدم لم يكن لديهم أي شك في سيادة الغرب وموقعه القيادي الطبيعي. وكان فولتير يعتقد أن الزنوج بالذات غير قابلين لأي تحضر حقيقي و"جيبو" كان أيضا ممن حرروا كتابة التاريخ من تركيزها الضيق على الغرب، اعترف بتاريخ البشر الآخرين ولكن كان يستخدم في سرده المقابلة بين المواطن والبربري أي بين أهل الشرق وأهل الغرب والنظرة نفسها شائعة في كتابات هوبز ولوك وروسو...)2. ومن الخصائص الأخرى التي ميزت العلوم الإنسانية والاجتماعية هو خضوعها لنفس المنهج الذي استخدم في دراسة العلوم الطبيعية بغية الوصول بهذه العلوم إلى نفس درجة الدقة التي حققتها العلوم الطبيعية . إن نشأة العلوم الإنسانية المعاصرة لم تكن إذا عربية إسلامية، فظهورها بالوطن العربي لم يكن استجابة لحاجة طبيعية داخل المجتمعات العربية، فهي تمثل الاحتواء الثقافي والحضاري والعسكري الذي فرضه الغرب على المجتمعات التي خضعت له قهرا.يقول عبد الوهاب بوحديبة في هذا الصدد: (...فالذين كتبوا عن العرب"علميا" في بداية هذا القرن كانوا ينتمون إلى مجتمعات تستخدم المعرفة الاجتماعية للسيطرة على العرب ولدعم نفوذ الغرب عليهم . فالوصمة الكبرى للدراسات التي صدرت في هذا المجال أنها كانت تتم في إطار علاقات طبعها الاستعمار بطابعة الخاص فارتبطت البحوث الاجتماعية بالنزعة الاستعمارية الانجليزية والفرنسية والمنهجية المتبعة في هذه الدراسات لم تكن بريئة وأن موضوعيتها محدودة للغاية).3 إن حصول المجتمعات الإسلامية على الاستقلال السياسي لا يعني أنها استقلت بذاتها وكيانها وأنشأت فضاءا معرفيا خاصا بها.لقد اتخذت العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية مصدرا لها تنهل منها وتشبع حاجياتها الفكرية، وذلك بإقامة الجامعات والكليات المتخصصة في هذه العلوم، الأمر الذي جعل أبحاثنا ودراستنا مجرد تكرار واجترار لمدارس الغرب ونظرياته.ونتيجة لهذه التبعية بقيت العلوم الإنسانية داخل المجتمعات العربية بعيدة عن واقعه ومشاكله. لكن هذه الأزمة بدأت تنجلي بعد مرور مرحلة الاعتماد على النظريات الجاهزة.فلقد تأكد للباحثين العرب أن الإحساس بالخصوصية الحضارية من شأنها أن تنهض بالأمم، كما تكون لديهم وعي بأن أزمة هذه العلوم تكمن في استمرار تبعيتها للغرب، فالبحث الاجتماعي كما قال الدكتور عبد الوهاب بوحديبة)4 وهو أحد أبرز المشتغلين بالعلوم الإنسانية والاجتماعية في الوطن العربي عنصر من عناصر السيادة على الوضع.لأن العلوم الاجتماعية هي وليدة البينة التي نشأت فيها وسليلة الحضارة التي تنتمي إليها لذا فإن البحث الاجتماعي هو تعبير عن البيئة التي ينتمي إليها الباحث، فهو ناطق باسم مجتمعه وقومه، ويؤكد أن العلوم الاجتماعية اليوم في الغرب تعيش أزمة خانقة بسبب الاتهامات والتشكيكات في قيمة الإيديولوجيات الكلية التي كانت لها دورا فعالا في تقدم هذه العلوم، فغذت كل من الماركسية والبنيوية ، والدركايمية تعرف أزمات أدت بها إلى الإخفاق والاستغناء عنها في عدد من البلدان . ثانيا: الفكر الإسلامي المعاصر وأزمة المعرفة ؟ بعد اصطدام الأمة الإسلامية بالحضارة الغربية نشأت مواقف فكرية مختلفة تتمحور في اتجاهين : اتجاه التجديد والإصلاح ،واتجاه العلمنة والحداثة. الاتجاه الأول يعتمد في أسلوبه الإصلاحي على إقامة علاقة مترابطة بين الماضي والحاضر أو القديم والجديد، على اعتبار أن هذه العلاقة ضرورية لهوية المجتمع وتطوره، في حين يرى المحدثون أن الارتباط بالماضي والرجوع إليه هو رمز التقهقر والتخلف. فالدين في منظور هؤلاء مجرد ظاهرة اجتماعية ، لذا فإن تعاملهم مع أصول الوحي تتم في إطار الضرورة الإيديولوجية، لكن هذا الاتجاه على الرغم من رفعه لشعارات العقلنة البراقة إلا أنه بقي اتجاها نخبويا لم يصل إلى مستوى الطرح الاجتماعي والفلسفي لقضايا الأمة. إن موقف الحداثة قد تخلف عن عملية الاجتهاد وتخلى عنها واكتفى بنقل العلوم الإنسانية في نمطها الغربي وإسقاط حلول عقلانية غربية جاهزة على الواقع العربي الإسلامي، بل لقد تجاوزت هذه النزعة العلمانية فكرة تجديد الإسلام إلى التخلي عنه والاكتفاء بالفكر الغربي كبديل له. ويدل هذا على أن الاتجاه لم يميز بين التقليد والتفتح، ولم يدرك العلاقة الجدلية بين النموذج المعرفي والمجتمع.هذا النموذج الذي يختلف باختلاف المجتمعات.ويقول الإمام باقر الصدر بخصوص هذا الخلط والجهل الذي سقط فيه هؤلاء:" إن الذين يعتقدون بأن الاقتصاد الإسلامي يؤمن بالحريات الرأسمالية، وقد يكون لهم بعض العذر إن كانوا قد استلهموا إحساسهم من خلال دراسة إنسان التطبيق والقدر الذي كان يشعر به من الحرية، ولكن هذا إحساس خادع لأن إلهام التطبيق لا يكفي بدلا عن معطيات النصوص التشريعية والفقهية نفسها، التي تكشف عن مضمون رأسمالي...وليس من الحتم أن يكون الإسلام اشتراكيا إذا لم يكن رأسماليا. فليس من الأصالة والاستقلالية والموضوعية في البحث ونحن نمارس عملية اكتشاف الاقتصاد الإسلامي...أن نحصر هذه العملية ضمن نطاق التناقض الخاص بين الرأسمالية والاشتراكية...فنسرع الى وصفه بالاشتراكية إن لم يكن رأسماليا، أو بالرأسمالية إذا لم يكن اشتراكيا".5 ومجمل القول فالاتجاهات العلمانية هيأت الأرضية للغزو الثقافي الغربي وللتبعية السياسية والاقتصادية ، وذلك حينما تصورت ضرورة إقامة مجتمع إسلامي في ضوء معايير غربية. إن الاختلاف القائم بين الفكر الإسلامي المعاصر والحداثة اختلاف تناقضي فكري، لذا يتردد على مسامعنا الحديث عن إسلام تقدمي وآخر محافظ أو رجعي، وعن إسلام عربي أو إفريقي، وهكذا فبدلا من أن يكون الاختلاف رحمة للأمة كان نقمة وتفرقة وشتاتا لوحدة المسلمين ، وقد تنبه المفكرون الإسلاميون الى هذا الخطر الذي يهدد وحدة الأمة الإسلامية، فتوجهوا بخطابهم الإصلاحي الى كافة المسلمين سنة وشيعة، ويعتبر جمال الدين الأفغاني من رواد هذه الحركة ،إلا أن الاتجاهات الفكرية في الفكر الإسلامي المعاصر ظلت في صراع مستمر مع اتجاه الحداثة والعلمنة الذي يتخذ من النموذج المعرفي الغربي مجالا خصبا لإصلاح الواقع العربي الإسلامي.إذا تفحصنا تاريخ الفكر الإسلامي القديم نجد أن الاختلاف بين المدارس الفكرية الإسلامية كان يتمحور حول إشكالية العلاقة بين العقل والنقل، وهذه المدارس على الرغم من اختلافها كانت ترجع الى أصول الوحي المتمثل في القرآن والسنة، لكن الاتجاهات الفكرية في العالم الإسلامي المعاصر تعددت مراجعها وأصولها ،فاختلفت في التصور والأهداف، فالحداثة اتجاه بعيد عن ذهنية المجتمعات الإسلامية، غائب عن القاعدة الجماهيرية التي تؤمن بأن سبب قوتها ونهوضها يكمن في تمسكها بالشريعة الإسلامية السمحاء، ومن خلال معايشتنا للواقع نجد أن الفكر الإسلامي المعاصر أقرب الى واقع المجتمعات الإسلامية لأنه يجعل من حقائق الدين الإسلامي منطلقا لمعالجة ما استجد على الواقع من أحداث ونوازل. ثالثا : الفكر الإسلامي ومحاولة الإصلاح بعد مرحلة الاستقلال عرفت الأمة الإسلامية ظروفا مختلفة عن عصر النهضة. فقد تلت المعركة التحريرية مرحلة جد معقدة إذ أصبح الفكر الإسلامي يواجه النظريات الاقتصادية والاجتماعية الغربية التي تسربت إلى العالم الإسلامي ، فإذا كانت مرحلة الغزو السياسي قد استدعت إثارة حماس الجماهير وتحريك العامل العاطفي ،فإن الاحتواء الثقافي الذي فرضه الاستعمار على دول العالم الإسلامي يقتضي البحث عن نموذج بديل للتنمية يستند إلى الموضوعية في التحليل والعمق . إن واقع الأمة الإسلامية اليوم يتسم بالتخلف المرير ،ومرده إلى أسباب ثلاثة رئيسية: أ- وجود أزمة في العقل المسلم . ب- فرض القداسة على تراثنا دون تمييز بين الغث والسمين. ج- التعلق بما تركه أسلافنا واجترار ماضينا. لقد أجمع المفكرون الإسلاميون المعاصرون أن الأزمة التي تعاني منها الأمة الإسلامية هي أزمة العقل المسلم المعاصر الذي رضي بالجمود والتقليد الأعمى. يقول مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"(وعندما يكون الفكر الإسلامي في حالة أفول-كما هي حاله في الوقت الحاضر- فإنه يغرق في التصور، وفي المبهم وفي المشوش، في عدم الدقة وفي النزعة إلى التقليد الأعمى وفي الإعجاب بأشياء الغرب). وللخروج من هذا المأزق بدا من الضرورة إصلاح المناهج الفكرية والعمل على أسلمة المعرفة، لأن إصلاح المنهج في المعرفة الإسلامية هو في الحقيقة إصلاح لحال الأمة واستعادة لدورها الحضاري والقيادي. إن إشكالية إصلاح مناهج الفكر وإسلامية المعرفة تعد من أهم قواعد المشروع الحضاري الإسلامي المعاصر، و للسهر على إصلاح مناهج الفكر لدى المسلمين وكذلك إصلاح عالم الأفكار، وفهم الحداثة في قالب حضاري إسلامي متحرر، ويرى الدكتور طه جابر العلواني أن قضية إصلاح مناهج الفكر الإسلامي وإسلامية المعرفة لا زالت في طورها الأول ولم تحظ بعد بالاهتمام المطلوب والجهود المبذولة لم تتجاوز الفردية. إن الحديث عن إصلاح مناهج الفكر الإسلامي وإسلامية المعرفة قد لقي استنكارا شديدا لدى الكثيرين ، وذلك بسبب اعتقادهم أن المعرفة واحدة وهي ملك للبشر جميعا، وأنها أيضا تقوم على مناهج علمية ثابتة لا يؤثر فيها دين ولا مذهب.لكن هذه النظرة الخاطئة سرعان ما بدأت تتجلى عيوبها وذلك عندما بدأ الغرب بدوره ينادي بأهمية القيم لضبط مسيرة العلوم. فالغرب عندما تفشى فيه طغيان رجال الكنيسة وحجرهم على الفكر ومحاربتهم العلم، ظهرت حينها الداروينية والماركسية والوجودية التي ألغت من حياة الناس الدين، على اعتبار أن فكر الإنسان وثقافته، وسلوكه وتاريخه ينطلق من النظر على أن الإنسان هو نهاية التطور الحيواني، وفي ضوء هذا المنطلق المادي نشأت نظريات العلوم الإنسانية والاجتماعية وغيرها من العلوم.وبعد اجتياح الغرب لدول العالم الإسلامي تأثرت فئات من الأمة الاسلامية بثقافته وتقاليده واعتبروها مقياسا لكل فكر ومعرفة ،فلم يجن أصحاب هذا التوجه سوى الضياع وفقدان الهوية . 3- اقتراح مشاريع من أجل النهوض: إن الإحساس بالأزمة التي تعاني منها الأمة الإسلامية جعل العديد من المفكرين يقترحون مشاريع من شأنها أن تنهض بالأمة، ومن بين هذه الاقتراحات والمشاريع عرض المشروع الغربي بأسلوب وقالب آخر، والى جانب هذا الطرح هناك من رأى أن يؤخذ من المشروع الغربي محتواه، ومن المشروع الإسلامي لونه وشكله.وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأمة الإسلامية تعاني من أزمة فكرية أعجزتها عن التعامل مع القيم والأخلاق والمبادئ بشكل سليم. فمعالجة هذه الأزمة لم تحظ بعناية كبيرة ،فمنهم من جعلها مظهر من مظاهر الخلل في العقيدة، وبالتالي فإن الإصلاح العقلي هو الحل السليم لإصلاح الأزمة الفكري. ومنهم من ذهب الى أن إصلاح السلوك وتزكية الجانب الروحي سيؤدي حتما الى الخروج من هذه المعضلة الفكرية مع العمل على نشر التراث والعلوم الإسلامية في الأوساط الاجتماعية.كما رأى البعض أن مفاهيم الإسلام تحتفظ بمرونتها وأحقيتها في قلوب الناس ماداموا لم ينكروا شهادة الحق. كل هذه الأمور لها أهميتها ودورها فسلامة العقيدة يعني أن الأمة الإسلامية تمتلك بناءا معرفيا وثقافيا سليما.وهذا لن يتحقق بمجرد شحن الأمة بكثرة الخطب والفخر بأمجاد أبائها وتاريخها الإسلامي .لأن هذه الخطوة لن تبعث سوى الإحساس بالأزمة دون التفكير في حلها. لقد رأى البعض أن المعرفة لا دين ولا مذهب لها.لذا فلا فرق بين مناهل المعرفة سواء كانت غربية أو إسلامية .وهذا قول فيه شطط وقصر في الرؤية لأن المعرفة هي وليدة العقيدة والفلسفة التي أنجيتها ،ولكل عقيدة وفلسفة معرفة خاصة بها تعبر عن رأيها في الكون والإنسان والطبيعة. كما ذهب البعض الآخر أن الزيادة من حصص تلاوة القرآن والفقه والعلوم الإسلامية،وإقامة جامعات،ومعاهد شرعية ،وإخراج عدد كبير من الأئمة والخطباء وقضاة الأحوال الشخصية من شأنها إعادة البناء المعرفي الثقافي للأمة. كل هذه الاقتراحات لم تؤت أكلها، فالزيادة من حصص القرآن في المرحلة الابتدائية والإعدادية ،أو عدم الزيادة لن يجدي نفعا مادام الناس غير قادرين على تدبر معانيه واتخاذه منهجا يسير حياتهم اليومية. كما أن إقامة الجامعات الإسلامية مع الأخذ من المصادر الغربية التي ترعرعت في أحضان الوثنية الإغريقية واليونانية الصليبية لن يجدي نفعا مادامت مقتنعة بعالمية المعرفة، وهذه القناعة قد تركت سلبيات على العقل المسلم الذي اكتفى بالتقليد والإتباع، إن فشل المشروع الغربي في العالم الإسلامي نتيجة إغفال معادلة مهمة وهي أن الدراسات الإنسانية وغيرها من العلوم هي نتاج ثقافي للأمم. فهي تجسد فلسفة وثقافة وعقيدة منتجها. لقد أثبتت التجربة أن البناء الثقافي الغربي قد فشل في استيعاب مشاكل الأمة الإسلامية وبالتالي فإن أي محاولة للنهوض بعيدة عن الواقع الإسلامي ستؤدي الى الفشل حتما. ومن خلال ما تقدم يتضح أن المشروع الإسلامي لم يفلح في الوصول الى الحلول الناجعة للخروج من الأزمة وخصوصا وأن العجز الفكري لازال مستمرا.وأن عقلية التقليد لازالت تسيطر على العقول ، وأن عدم إدراك عالمية الرسالة الإسلامية لم تحظ بعد بالاهتمام المطلوب.كل هذه الأمور تستدعي من أصحاب الفكر العمل على إصلاح مناهح الفكر وإسلامية المعرفة، وتعتبر هذه المحاولة من أهم المشاريع لاستدراك المشروع الاسلامي واستكماله. بعد استقراء محاولات النهوض السالفة بدا أن الغياب الثقافي، وانعدام الرؤية الإسلامية الكلية الشاملة من الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة ، لذا يجب أن توجه الجهود نحو إصلاحها متخذة من تجاربها السالفة حقلا خصبا للاستفادة .مع اجتناب الأخطاء التي سقطت فيها.على أن تتصدر القضية الفكرية قائمة القضايا المطروحة. وللنهوض بهذا العمل الجبار يقول الدكتور طه جابر العلوان في كتابه" إصلاح مناهج المعرفة" ينبغي أن يتوافر مجموعة من التخصصات العلمية والاجتماعية المتنوعة التي تمتلك خبرات وتجارب تمكنها من القيام بهذه المهمة. لأن هذه القضية ليست وليدة اليوم ليسهل معالجتها بل هي لها جذور تاريخية أعجزت الأمة قرونا عن استصحاب قيم الوحي ووضع المناهج السليمة لتنزيلها على الواقع المعيش، كما ركن العقل المسلم طيلة هذه الفترة الزمنية الى الركود والجمود والتقليد.ولقد حذر الحق سبحانه في كتابه العزيز من الوقوع في هذه الأزمة الفكرية، وذلك بذكره لعلل الأمم السابقة السلوكية والفكرية التي لم تجلب لهم سوى الخراب والدمار قال تعالى ﴿ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حضا مما ذكروا به.﴾6وقال أيضا : ﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾7 كما جاء في السيرة النبوية التحذير من هذه القضية ،وذلك عندما أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على الناس خوضهم في مسألة القدر، وذلك لأن المنهج الذي يعتمدونه هو منهج يقوم على خلط وتداخل بين عالمين: عالم الشهادة وعالم الغيب، وبالتالي فسيؤدي بهم الأمر إلى إنكار عالم الغيب وفقدان الإحساس بالمسؤولية وحرية الاختيار، وقد دفع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الضرر عن أمته وذلك بتذكيرهم بمغالبة القدر بالقدر ،والفرار من القدر إلى القدر، دون أن يفقد المرء حرية الاختيار والاحساس بمسؤوليته. كما عالج عليه الصلاة والسلام مفهوم التواكل الذي ساد في أوساط الناس وذلك بحثهم على الأخذ بالأسباب الذي هو جزء من التوكل فقال لصاحب الناقة الذي تركها دون عقال متوكلا على الله (اعقلها وتوكل على الله )8 رواه الترمذي . كما صحح عليه السلام مفهوم العبادة وربطها بالأعمال الدنيوية لجنوح البعض الى العبادة وترك العمل فقال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق).9 وهكذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعمل على عدم وقوع أمته في الأزمة الفكرية ولم يفارق الحياة إلا بعدما اكتمل بناء الدين" اليوم أكملت لكم دينكم وأتتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". لقد قلنا آنفا أن الأمة الإسلامية تعاني من أزمة فكرية واحتواء ثقافي شمل جميع الميادين الحيوية ، لذا فإن عملية إعادة صياغة تراث المعرفة الإنسانية وفق المنظومة الإسلامية التي تعتمد على رؤية سليمة للحياة والواقع والكون ، والوصول بهذه المهمة الى أهدافها وغايتها المطلوبة ينبغي تغيير مناهج التصنيفات، وذلك بوضع التصنيفات الإسلامية مكان التصنيفات الغربية، وأن يتم استبدال القيم الغربية القاصرة مكان القيم الإسلامية المستوحاة من مصدر رباني ، ثم يتم البحث عن السنن الإلهية التي تحكم الواقع الإنساني ، وأن نعتمد على قيم الإسلام في بناء الصرح الثقافي والحضاري والخاص بالأمة الإسلامية . ويقول المعهد الاسلامي في أول كتاب أصدره حول الموضوع: (يجب أن يكون واضحا أن إسلامية المعرفة هي جانب من جوانب الأمة الإسلامية)10 التي (هي إطار قيمي حضاري شامل للفرد والمجتمع للفكر والعمل ، للتعلم والممارسة ، للمعرفة والتنظيم للراعي والرعية للدنيا والآخرة، يبتغي بها الإنسان مرضاة الله سبحانه وتعالى بالحق والعدل والإعمار رضا وسلاما وأمنا ونعيما في الدنيا والآخرة)11. (المعرفة الإسلامية معرفة علمية منهجية ، ربانية القيم والغايات في مصدرها عقلية في فهمها وبحثها ودرسها ونظرها في قضايا الحياة والمجتمع والبيئة والطبيعية والفطرة والسنن لذلك فهي تعني وتمثل بالضرورة القدرة والانجازات العلمية والحضارية الصحيحة كافة، تلك التي توارثتها البشرية وأنتجها بعد أن تمحصها وتزنها بميزان الإسلام وشمولية قيمه وتوجيهه وغاياته)12. إلى أي حد تنطبق الموضوعية على العلوم التي نمارسها؟ لقد ساد بين كثير من المثقفين الغربيين والعرب أن هناك منهجا واحدا يعتمد عليه العلماء والباحثون عند دراستهم للظواهر الطبيعية والاجتماعية .وأن هذا المنهج يوصل إلى نتائج وحقائق موضوعية لا علاقة لها بمعتقدات الباحث أو بفلسفته وآرائه ..وهذا يعني أن قضية المنهج ثابتة لا ينبغي اعتراضها أو مناقشتها. هذه النظرة القاصرة حول المنهج هي التي جعلت كثير من مثقفي العالم الإسلامي يستنكر بشدة موضوع أسلمة العلوم. فكان موقفهم من هذه الدعوة لا يخلو من أحد الأمرين : إما أن تكون دعوة متزمتة تريد أن تفسد صفو حياتهم الاجتماعية والسياسية وتزج نفسها في الحقائق الموضوعية العلمية لتتواءم مع إيديولوجيتها الدينية . إما أن تكون دعوة جوفاء هدفها هو استبدال اسم مكان اسم آخر وذلك كأن يأخذ أصحاب الدعوة إلى الأسلمة ما توصل إليه العلماء الغربيون من حقائق طبيعية واجتماعية ثم يطلقون عليها اسم الأسلمة كعلم اجتماعي إسلامي أو علم نفس إسلامي ..الخ. قبل الحكم على صحة هذا الإدعاء أو خطئه ينبغي أن نطلع على واقع هذه العلوم كما يمارسها أصحابها والمشتغلين بها. قبل الحكم على صحة هذا الادعاء أو خطئه ينبغي أن نطلع على واقع هذه العلوم كما يمارسها أصحابها والمشتغلين بها . ما القصود بالموضوعية؟ إذا كان المراد بالموضوعية هو أن يتجرد الباحث أثناء بحثه من أفكاره ومعتقداته فهذا أمر مستحيل لأن المرء لا يستطيع أن يمنع نفسه من الحديث مع نفسه أو مع غيره ولو لبرهة، وهذا الحديث يكون ناتجا عن اعتقادات وأفكار هو يؤمن بها أو يعارضها. إن هذا الأمر لا يكون شرطا لتقدم العلم بل سببا في اختفائه، لأن الباحث عندما يبدأ بحثه تكون لديه فكرة مسبقة، وعلى أساسها يشاهد ويجرب، فالعلم أمر تراكمي فالقضية التي يريد الباحث دراستها تكون ناشئة عن معرفة سابقة لأنه لو ابتدأ بحثه وهو خال الذهن لما نما العلم وتطور . 3-اختلاف النتائج العلمية من إطار فلسفي إلى آخر: لقد سبق أن ذكرنا أن نشأة العلوم كانت أوربية، وقد شهدت هذه العلوم في بدايتها اضطرابا وصراعا عنيفا مع رجال الكنيسة فالدين المسيحي اختلط بالسحر والكهانة وامتزج فيه الحق بالباطل ، فاستبد رجال الكنيسة بالسلطة ، ولما انتصر العلم في النهاية على المسيحية عد هذا الانتصار غلبة على كل تفسير خرافي لظواهر الطبيعة وعلى كل مظهر من مظاهر هذا الدين سواء كانت قائمة على الحق أو الباطل . إذن هذه العلوم لم تبرز إلا بعدما خاضت حروبا عنيفة مع الدين الشيء الذي جعلها تبني قواعدها وأسسها بعيدة عن أي تفسير ديني، ويقول دركايم في تفسير الظاهرة الدينية: ( الأشياء التي يذكرها المنتمون الى دين ما، يجب أن لا يؤخذ على أنها إخبار عن الله، لأنه من حيث المبدأ- لا يمكن أن يكون هنالك إخبار كهذا ، وعليه فيجب تفسيرها بطريقة أخرى) إن التفسير الذي أعطاه دركايم للظاهرة الدينية يعتمد على فكرة التضامن مع النظام الاجتماعي وهذه فلسفة معادية للدين . كما أن نظرية الفلكي الفيزيائي البريطاني المعاصر"فرد هويل " في تطور الأحياء على الأرض لم يقبلها علماء الأحياء التقليديين، لأنها تخالف نظرية داروين .فنظريته تقوم على أساس أن تطور الأحياء على الأرض ليس من قبيل الصدفة، ولكنها تتحرك وتتطور بواسطة قوى خارج أرضنا، والاستدلالات الدالة على ذلك كثيرة لكن العلماء التقليديين يمنعون الرجوع الى الدين خوفا مما حدث في الماضي. لقد اختلفت النظريات والتصورات العلمية ، في كل من الفكر الرأسمالي ، والفكر الشيوعي والفلسفة الوضعية ،والفكر المسيحي المعلمن بحسب اختلاف الأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ،فعلى سبيل المثال نجد أن نظرية توماس مالتس في الفقر والعناء كان نتيجة ازدياد عدد السكان بشكل سريع، وازدياد الموارد الغذائية بشكل بطئ وهذه النظرية في الحقيقة كانت تحتج على قوانين صدرت لصالح الفقراء ، لكن سبنسر أقام نظريته في التطور الاجتماعي على عكس ما ذهب إليه توماس مالتس في نظريته فهو يرى أن الطبيعة تختار الصالحين للبقاء وتتلخص من غير الصالحين .فقال (إذا كانوا كاملين بحيث يصلحون للحياة فإنهم سيحيون، ومن الخير أن يحيوا، وإذا لم يكونوا كاملين بحيث لا يصلحون للحياة فسيموتون ومن الخير أن يموتوا).13 ومن خلال ما تقدم يتضح أن الأطر الإيديولوجية تختلف من عصر إلى عصر، بل وتحدث اختلافات بين العلماء داخل الإطار الواحد في نفس العصر، وفي أوطان مختلفة . ومما ذكر في هذا المجال ما قاله الفيزيائي الفرنسي بيير دزيك عن طريق الفيزيائيين النظريين في كل من بريطانيا وفرنسا فيما يتعلق بالمشكلات الكهربائية، فأوضح أن الفرنسيين يضعون نظرياتهم المتعلقة بهذا المجال في قالب رياضي ، بينما البريطانيون يبحثون عن نماذج علمية من شأنها أن تساعد على فهم الظواهر الطبيعية عن طريق الحس أو الرؤية . كما توجد اختلافات في دلالات التجارب ،فعلى سبيل المثال التجربة التي أجريت على الفئران وتسمى بصندوق سكنس نسبة إلى العالم السلوكي الشهير" ومضمون هذه التجربة أن صندوقا مزودا بجهاز فيه قضيب يضغط عليه الفأر فتسقط قطعة طعام وهذه العملية يرددها الفأر في كل مرة ومتى شبع يكف عن الضغط . ومن خلال هذه التجربة استنتج السلوكيون أن السلوك الحيواني بما فيه سلوك الإنسان يخضع لعاملين التنبيه(وهو هنا الضغط على القضيب)والاستجابة والمراد بها الطعام،وبما أن سلوك الإنسان يتأثر بالمادة لذا فإن المناداة بمفاهيم وشعارات غير مادية كالإرادة مثلا دعوة باطلة لا أساس لها في الواقع الإنساني. ورأى خصوم السلوكيين أن ما توصل إليه هؤلاء ليس كل ما تدل عليه المشاهدة ، وأن هناك سلوكات لا تتأثر بدوافع مادية وبالتالي فإن التجربة التي أجريت على الفأر في صندوق سكنس لا تنحصر في الضغط على القضيب ، بل هناك أنواع أخرى من السلوك الحيواني، كالجري، والانتصاب على الرجلين الخلفيتين، والاشتمام، واستكشاف الصندوق ،لكن علماء النفس السلوكيين يرون أن هذا النوع من السلوك لا يدخل في موضوع التجربة من الناحية العلمية . تعتبر العلوم الطبيعية أكثر ضبطا من العلوم الإنسانية والاجتماعية وهذه العلوم هي الأخرى لم تسلم من الاختلاف ،ففي علم الفيزياء نجد أن الفيزيائيين مختلفون في تفاسيرهم لما يشاهدونه ويجربونه فمثلا تصور علماء الميكانيكا الكمية للحقيقة الواقعية الخارجية التي تدل على حقائقها يختلف ويتباين فهناك من يرى أنها تدل على أنه ليس وراء الواقع المشاهد من حقيقة أعمق، ومن هؤلاء من يرى أن الحقيقة كل لا يتجزأ، وهناك من يرى أن هناك عوالم متزايدة ومتوازنة، ومنهم من يعتقد أن الحقيقة ينشئها الوعي، كما أن هناك من يذهب الى أن العالم مزدوج مكون مما هو بالقوة ومما هو بالفعل. إن عسر الموضوعية لدى الغربيين جعل بعض دعاة أسلمة العلوم يطالبون بمعالجة واقعهم من خلال إيديولوجياتهم ما دام الغرب قد نظر في واقعه من خلال إيديولوجياته، ويقول الدكتور جعفر شيخ ادريس14إن هذه الحجة ضعيفة لا تصلح أن تكون مصوغا للدعوة إلى أسلمة العلوم لأنه يلزم عنها: أ- إما القول بعدم وجود حقيقة موضوعية نسعى لإدراكها ،ولذلك يجوز لكل إنسان أن يقول ما شاء حسب دينه ومذهبه وهواه، وهذا يجعل موقف الداعي إلى الأسلمة أسوأ من موقف أولئك الغربيين لأنهم وإن اعترفوا بعسر الموضوعية إلا أنهم لا يجمعون على أنها مستحيلة المنال. ب- أو القول بأن هناك حقيقة موضوعية لكنه من المتعذر معرفتها كما هي ،بل هي لا تدرك إلا مصبغة بصبغة المنظار الإيديولوجي الذي يضعه الناشر على عينيه. ج- بل يلزم عنها التشكيك في الحقائق الكبرى التي تقوم عليها بنيان الدين نفسه، لأننا لا نريد أن نقول الإيمان بالله تعالى وبالدار الآخرة وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو وجهة نظر لجماعة من الناس يسمون بالمسلمين وأنها ليست حقائق موضوعية يمكن أن يقوم عليها دليل عقلي صحيح. إن الدعوة الى إسلامية المعرفة ترى أن الإطار الإسلامي خير من يحقق الموضوعية لأنها دعوة توجه العالم الى أن يفكر ويشاهد ويجرب انطلاقا من إيمانه بحقائق الدين الكبرى وهي وحدانية الله ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن القرآن كلام الله وهي في حد ذاتها حقائق موضوعية تقوم على صحتها أدلة عقلية نقلية ، يقول تعالى : (فاعلم أنه لا إله إلا الله، فعلى الباحث المسلم أن يسير في بحثه وفق هذه الحقائق ولا ينتظر حتى يذعن لها من يؤمنون بها، فأصحاب الإطار الاحادي لم ينتظروا حتى يغدو جميع الناس ملحدين لبناء نظرياتهم الفاسدة والهدامة خاتمة فى ضوء ما سبق يمكن أن نخلص إلى أن الصياغة الإِسلامية لنظرية فى المعرفة العلمية والتقنية يجب أن تخضع لدراسات متأنية فى عدة موضوعات متعلقة بطبيعة التطور التاريخى لمفهوم العلم والتقنية, مثل : 1 تصنيف العلوم وتأصيل منهجية الفكر الإِسلامى. 2 تنقية التاريخ العلمى للحضارة الإِسلامية من مزاعم المستشرقيين والمؤرخين, وتنقية العلوم جميعها من المفاهيم المعارضة لروح الدين الإِسلامى الحنيف. 3 المعالجة الإِسلامية لمختلف جوانب علم العلم. 4 الانطلاق فى جميع عمليات التفكير العلمى من مسلمتى التوحيد الإِسلامى والنظام الكونى وربطهما باطراد الظواهر الطبيعية واحتمالية صدق الكشوف العلمية. 5 صياغة أدوات وعناصر كا من المنهج الاستقرائى والمنهج الاستنباطى والمنهج الفرضى الاستنباطى المعاصر فى إطار إسلامى, مع بيان شمولية هذا المنهج وعدم مقدرة المحدثين على استبعاد كل جوانبه وأبعاده. 6 تأكيد إسلامية المعرفة العلمية وبيان ضرورة ذلك لتقدم المجتمع الإِسلامى وتمكين العقلية الإِسلامية من المشاركة فى الإِبداع الحضارى بنصيب يتناسب مع مجد أمتنا ومكانتها فى تاريخ العلم والحضارة. هوامش: 1 -احرشاو الغالي : معوقات للتأسيس العلمي لمفهوم الإنسانية في الوطن العربي (مجلة الوحدة عدد 50 نوفمبر 1988 2 - عادل حسين : النظريات الاجتماعية الغربية قاصرة ومعادية نحو فكر عربي جديد ، دار المستقبل العربي القاهرة 1985 3 - عبد الوهاب بوحديبة:" تطور مناهج البحث في العلوم الاجتماعية ، مجلة عالم الفكر عدد 20 بتاريخ أبريل ،ماي يوينو 1989 ص26 نقلا عن كتاب " الصحوة الإسلامية المعاصرة والعلوم الإنسانية النظرية المستقلة" لعلي سيف النصر . 4 - نفس المرجع 5 -محمد باقر الصدر"اقتصادنا" ، بيروت: دار التعارف، ط16، 1982م، ص27 ص388-389. 6 -سورة المائدة ، الآية 13 7 - سورة آل عمران ، الاية 19. 8 - رواه الترمذي . 9 رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة . 10 - اسماعيل الفاروقي ,إسلامية المعرفة,دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت لبنا ن الطبعة: الاولى 2001: ص166 11 - نفس المرجع ، ص167 12 - اسلامية المعرفة ، ص167 13 - نقلا من كتاب " الصحوة الإسلامية المعاصرة لعلوم الإنسانية أوراق في الممارسة للنظرية المستقلة ، جمع وتقديم الأستاذ علي سيف النصر. 14 د. جعفر شيخ : ( العلوم هل تكون إسلامية)ص170 الصحوة الاسلامية المعاصرة والعلوم الانسانية ، أوراق في الممارسة النظرية المستقلة بجمع وتقديم علي سيف النصر .