الإنسان مخلوق شاك بطبعه،هذه حقيقة لا مراء فيها، ولا يمكن نكرانها، كلّ واحد منّا يشعر بها فى قرارة نفسه، ويلمسها فى الآخرين ، الإنسان يشكو من كلّ شئ،من وجوده، من نفسه،من أهله، وأقاربه، وذويه، وزوجته وأولاده، وأصدقائه، وخلاّنه، ومعارفه،وجيرانه، والعاملين معه،من إرتفاع الضرائب،وغلوّالغرامات، وغلاء المعيشة، وضآلة الأجور،ومن سياسة الحكومة،ومن مواقف المعارضة ،وتذبذب الأحزاب،من السّائقين، ومن المارّة والرّاجلين،يشكو من الإكتظاظ ، من الضوضاء، ومن الصّخب، واللّجب، والدّأب، ومنبّهات السيّارات،وضجيج القطارات، وهدير الطائرات، إنّه يشكو من الطبيعة،من نزلات البّرد التي تعصف به، وتقضّ مضجعه، يشكو من الحرّ والقرّ، ورطوبة الجوّ وتقلّباته، ومن الناس أجمعين... وقد يكون محقّا فى كلّ ذلك، فكأنّما كلّ شئ فى هذه الدّنيا بات يبعث على الشكوى والأنين.. ! غير أنّ الإنسان غالبا ما يغالط نفسه، ويخادعها، فقد تلتقي بصديق لك فى عرض الطريق صدفة، وما أن تسأل عنه،وعن صحّته وعن أحواله حتى يبادرك بالقول أنه على خير ما يرام... ! فى حين أنّه قد يكون غارقا حتّى أذنيه فى هموم ومآس ليس لها قرار. لماذا يشكو الإنسان إذن، إذا كان يغالط نفسه...؟ وأنت إذا عدت إلى بيتك فى المساء، تعود وقد شحن رأسك بالعديد من الأفكار، والأقوال والحوادث، والمفاجآت ،والمعايشات ،والمشاكسات، والمناوشات،والمنغّصات التي مرّت بك طوال اليوم، لابدّ أنك تظلّ تشعر بضيق شديد ما لم تركن إلى جوار أحد من معارفك، أو ذويك ،أو أقاربك زوجة كانت، أم خليلة، أم أختا، أم أخا، أم إبنا، أو صديقا، أو صديقة لتملي عليه، أوعليها شريط أحداث يومك... . ثمّ ماذا يفيد الإنسان من شكواه..؟ فى ظاهر الأمر يبدو أنه لا يفيد طائلا يذكر ، إلاّ أنّك إذا نظرت إلى المسألة من وجهة نظر نفسية، تجده يقوم بواجب كبير نحو نفسه بذلك،فهو فى هذه الحال إنّما يقوم بما يسمّى :" بعملية التنفيس عن النفس"،وأيّ إنسان مهما كانت مكانته، وملكاته، وقدراته العقلية أو النفسية لا يستطيع أن يكبح في قرارة نفسه هذه الرّغبة الجامحة، والغامضة، والمبهمة التي لا يمكن نكرانها،فالضغط يورّث الإنفجار.. لذا فنحن دائما نحبّذ أن نحكي ونشتكي، وما على الآخرين إلاّ الإنصات أو الإصغاء، وعليهم كذلك مقاسمتنا مشاعرنا، ومشاركتنا معاناتنا وأشجاننا، وذلك حتّى نحافظ على توازننا وإنضباطنا، وثباتنا،وسلامتنا النفسية، والعقلية فى آن واحد. وما هؤلاء المساكين الذين يوسمون بالحمقى، أوهؤلاء الذين بهم مسّ من الجنون إلا أناس لم يوفّقوا فى العثور على من يصغي إلى شكواهم وأنّاتهم ،وآهاتهم فخلقوا لهم من أنفسهم شخصيات ثانوية، أو مزدوجة جعلوا منها أصدقاء وهمييّن لهم، لذا تراهم فى كلّ حين يتحادثون،ويتحاورون ،ويفكّرون بصوت عال وحدهم أومع ذواتهم ، وقد أوجدوا لها " عالما خاصّا " بهم يأسف "العقلاء" له وعليه،أمّا هم فلا أحد يدري ما هوشعورهم الحقيقي تجاهه . كان أرسطو حكيما عندما قال إنّ الإنسان(مدنيّ بطبعه) ، وكان إبن خلدون حكيما كذلك عندما أكّد هو الآخر أنّ الإنسان( إجتماعيّ بطبعه) ، يحبّ الحضارة والعمران، والإختلاط والتجمّع ، ويمقت العزلة والبعاد عن النّاس، ومن ثمّ ظهرت التجمّعات البشرية، ونشأت الضّيع، والقرى، والمداشر، والعشائر،والأسواق،والمواسم، والمدن، والحواضر، هذه حقيقة لا مراء فيها ،ولكنّها قد تغيب عن كثيرين منّا فيعرّضون أنفسهم لمخاطر قد تعود عليهم بما لا يحمد عقباه .فعلى الرّغم ممّا يسود (المدنية) من نفاق، وريّاء،وتفاوت،وتعنّت،وتناقضات وفروق، ومخاطر،وشرور، وويلات فإنها مع ذلك تسهم بشكل أو بآخر فى إزاحة ستائر الغربة التي تحجب الواحد منّا عن الآخر،هذا التجمّع والإتصال لابدّ أنّهما يخفّفان عن الإنسان من وطأة الشعور بالمأساة ،وفداحة الإحساس بالقلق الدائب،والحيرة ،والغموض الذي يكتنف حياة كل منّا ،إلا أنّ الإنسان يحاول بشتى الطرق، وبمختلف الوسائل تجنّب ذلك وتفاديه والإندماج فى كلّ ما من شأنه أن يقصي عنه شبح هذه العزلة القاتلة،والوحدة المميتة ، والإضطرابات النفسية نتيجة وحدته وتشرده، كمصاحبة الأصدقاء، ومخالطة الخلاّن ، والمشاركة فى مختلف الأنشطة، والتظاهرات، والإحتفاليات على إختلافها ،كما أنّ هناك من يوثرأن يؤمّ المقاهي،ويتردّد على النوادي،ويرتاد الملاعب، وينخرط فى الجمعيات... وما "الزّواج" فى آخر المطاف إلاّ فرار من الصّمت القاتل، أو العزلة الخانقة ،والبحث عن الكلام، والحديث، والعشرة ،والمؤانسة، والإختلاط مع الآخر، ومعنى الكلمة اللغوي يؤكّد هذه الحقيقة، فقد جاء هذا المعنى مفصّلا فى معظم المعاجم العربية. فكلّ واحد من الزّوجين أَيضاً يسمّى زَوْجاً، ويقال: هما زَوْجان للإثنين وهما زَوْجٌ، كما يقال: هما سِيَّانِ وهما سَواءٌ؛ والزَّوْجُ الفَرْدُ الذي له قَرِين . قال الله تعالى:" وأَنبتنا فيها من كل زوجٍ بَهيج" ،و"ومن كل شيء خلقنا زوجين " ، و"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا". والزّوج أو جوج (بعد أن قلبت الزّاي جيما) يعنى فى العامية (إثنان) . وهي من التزاوج، وهي كلمة مستعملة بهذا المعنى فى البلدان المغاربية أي (إثنان) ، وعلى الحدود المغربية الجزائرية مكان أو موضع معروف يسمّى (جوج بغال) وهو محلّ تندّر من طرف البلدين ، فى حين يعبّر إخواننا المشارقة عن "جوج " بكلمة ( إثنان أوإتنين). وأغنية "واحد إتنين..واحد إتنين..أنا ويّاك يا حبيب العين" التي تغنّيها المطربة شادية لكمال الشنّاوي فى فيلم "ليلة الحنّة" مشهورة ومعروفة..!. وأقصوصة " الشّقاء" للكاتب الرّوسي أنطون تشيخوف تصوّر لنا هذه الحالة تصويرا دقيقا تكاد تنفرد بها بين باقي الآداب العالمية . فأيونا بوتابوف رجل مسنّ يسوق زحّافة تجرّها مهرته الهزيلة الهرمة ، يظلّ يجوب شوارع المدينة ،ينقل الناس فى زحافته من مكان إلى آخر ليمنحوه نظير ذلك ما لا يسمنه ولا يغنيه، ولكنّ المشكلة ليست هنا ،بل إنّ له إبنا مريضا فى البيت، وهو فى مقتبل العمر، وأيونا، يقول : كان من المفروض أن يكون إبني هو لذي يسوق هذه الزحّافة ، ويعمل لا أنا. ولكنّه مريض ومقعد ، هذه أيضا ليست هي المشكلة..! معضلته الحقيقية التي تؤرقه وتعذّبه كونه يريد أن ينقل هذا الخبر، أو بالأحرى هذه الشكوى إلى أحد ، أي أنه يبحث عن الآخر الذي يقاسمه مأساته،ويشاطره معاناته، ويخفّف عنه الألم الذي يعانيه ويصغي إلى شكواه...فيظلّ الوقت بطوله يبحث ويحاول الكلام أو التحدّث إلى أحد، ولكن لا أحد يصغي إليه، الكلّ يعرض عنه،وينصرف لحال سبيله،أو إلى عمله،ولهوه،وغيّه،ومجونه، ومروقه، ومشاغله ، وإن هو فى نظر الجميع إلّا عجوز أبله ثرثار...وفى كل مرّة كان يحاول فيها تحقيق رغبته كان يخفق فى مسعاه،وحينما يعودإلى البيت فى آخر الليل مرهق الجسم، خائرالقوى، وبينما كانت مهرته الهزيلة تأكل فى هدوء جلس إلى جانبها ،وحكى لها أوعليها الحكاية كلّها وهي تصغي إليه فى إهتمام بالغ بعد أن أدارت عينيها نحوه دون أن تحرّك رأسها ...! كأنّما تشيخوف يريد أن يقول لنا فى هذه الصّورة القصصية الرّائعة : أن لابدّ للإنسان أن يشكو أويشتكي،وأن يقاسم الآخرين معاناته ،وآلامه، ومآسيه حتى ولو تعلّق الأمر بحيوان.. .!. وتصوّر لنا هذه الأقصوصة مقدار الخطورة التي ينطوي عليها هذه المسألة، فإبلاغ الآخرين أفراحنا،وأتراحنا،ومشاكلنا،ورغباتنا، ومسرّاتنا،وآلامنا، وأحزاننا أمر لا مندوحة لنا عنه. لا تتحرّج إذن، ولا تضطرب ولا تبدي صدودا ولا نفورا إذا قصدك صديق، وقد أثقلت ظهره الهموم، وناءت بكاهله الأحزان ،وإسودّت الدّنيا فى عينيه، بل إصغ إليه ، وقاسمه شكواه ، وشاركه همومه، وشاطره مآسيه ،ومعاناته، وإجعل من نفسك ملاذا آمنا له ، ومن صدرك مأوى مريحا لآهاته وأحزانه، وآهاته ، فقلّما أن تجد فى هذه الدنيا من لا يشكو أو يشتكي ، وقلّما أن تعثر فى هذه الدنيا على من ( صفت مشاربه ) ،فكلّنا من مناهل ( القذى) ننهل كلّ يوم أكوابا ،و نترع كؤوسا،ونحتسي أواني من المرارة ،والمضض، والحنظل، يتفاوت طعمها عند كلّ منّا ، ولحظة الفرج أو الإنفراج بالنسبة لنا، ولبني طينتنا، تلك التي تتهيّأ لنا فيها فرصة إفراغ ما فى صدورنا وجوفنا من آلام وأنين. و صدق قول الشاعر: إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى..... ظمئت وأيّ النّاس تصفو مشاربه... .! * عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم كولومبيا