خليل الرز روائي سوري مرموق له خمس روايات ، أذكر منها " غيمة بيضاء في شباك الجدة"، و" أين تقع صفد يا يوسف " و" سلمون إرلندي". ومؤخرا قدم خليل الرز إلي المكتبة العربية هدية عزيزة حين ترجم عن الروسية مجموعة قصص لأنطون تشيخوف صدرت في جزءين عن وزارة الثقافة السورية . أقول هدية ، لأن أغلب تلك القصص لم ينشر من قبل ، ولم تشتمل عليه الأعمال المختارة الشهيرة التي قدمها د . أبو بكر يوسف صديق العمر. وتمثل ترجمة خليل الرز إضافة ثقافية وإنسانية وفنية بالغة الأهمية لأنها توسع دائرة معرفتنا ومطالعتنا للقصص المذهلة التي لم تفقد شيئا من حيويتها وعمقها بعد أكثر من قرن على كتابتها . وسيكتشف من يقرأ قصص تشيخوف في ترجمة خليل الرز أن ذلك الكاتب النادر مازال يتملص من تصنيفه في دائرة " الأدب الكلاسيكي " ، لأنه - سواء من ناحية الأسئلة التي تطرحها قصصه أو من ناحية فن الكتابة - معاصر عظيم أكثر من كل المعاصرين. ومعظم القصص التي تضمها ترجمة خليل الرز تعود إلي عشر سنوات قبل رحيل تشيخوف، وهي المرحلة التي تمثل المعمل الأدبي والفكري حيث كان من الممكن - إلي حد ما - ملاحظة أساليب تشيخوف الفنية . في الأعمال اللاحقة لتشيخوف أصبحت تلك الأساليب مستغلقة تماما وغير مرئية . وفي القصص المبكرة التي اختارها خليل الرز بعناية فائقة سيصادف القارئ روح المرح الخفيفة المهذبة التي لم تكن قد فارقت تشيخوف بعد ، مثلما هي الحال في قصته " من مفكرة إنسان نزق " ، وقصة " مكائد " ، و قصة " تهور "، الروح التي تجلت حتى في الوصف كقوله : " إن صدر تلك المرأة ضخم إلي درجة أن من الممكن أن تضع عليه صينية ومعها أقداح الشاي" ! من ناحية أخرى فإن تلك المجموعة تكشف لنا عن رؤية تشيخوف المبكرة لما يعتبره السؤال الأول المطروح على كل إنسان : ماذا نفعل بحياتنا ؟ كيف يمكن أن نحياها بشكل أفضل وأجمل ؟ لماذا تهلك منا أعمارنا ؟. هذا الهاجس الرئيسي الذي ينمو فيما بعد ليخلق لنا " الأخوات الثلاث " و" بستان الكرز " و " حكاية مملة " . وهو سؤال تشيخوف في إبداعه كله ، قدمه بأبعاد ومستويات مختلفة ، وهو عنده حجر الزاوية في كل شيء . وفي الجزء الأول من ترجمة خليل الرز سنجد القصة المسماة " حكاية السيدة ن . ن " وفيها تحدث الفتاة نفسها : " عشت في رخاء ومرح دون أن أحاول فهم نفسي ودون أن أعرف ماذا أنتظر وماذا أريد ؟ بينما الوقت يمضي ويمضي " ثم تبكي وهي تضغط على صدغها : " يا إلهي .. يا إلهي لقد هلكت الحياة " ! وفي قصة " زوجة " تقول ناتاليا : " كان يمكن لهذه الحياة أن تكون رائعة .. يالها من حياة لا يمكن إعادتها الآن " ! وفي قصة خوف يقول دميتري : " ما يخيفني بالدرجة الأولى هو الحياة الخاملة التي لا يجد أي منا فكاكا منها " . وفي قصة " مملكة الحريم " تحظى" آنا " بكل شيء ، فهي شابة وثرية وجميلة ، لكنها لا تجرؤ على أن تحيا كما تريد ، ولا تستطيع أن تتخطى حواجز اجتماعية ، وتستسلم لما حولها ، فتهلك حياتها بدون محبة . ثم تدرك في لحظة متأخرة: " أن الوقت متأخر بالنسبة إليها لأن تحلم بالسعادة ، وأن كل شيء قد هلك " . وفي قصة كمنجة روتشيلد يتأمل ياكوف حياته ويفكر:" ضاعت الحياة سدى وهدرا ولم يتبق شيء في المستقبل . لماذا لا يستطيع الإنسان أن يعيش بطريقة لا يكون فيها مثل هذه الخسارات ؟ " . يسأل ياكوف نفسه : " لماذا تنقضي الحياة التي تعطى للإنسان مرة واحدة دون فائدة " ؟ . هذا هو سؤال تشيخوف الخاص ، وهو إلي حد كبير سر عظمته ، التي تتجلى حين يطرح تشيخوف السؤال في كل مرة من زاوية أخرى وبالاشتباك مع عناصر جديدة . قدم خليل الرز هدية للمكتبة العربية ولقراء الأدب الحقيقي سواء باختيار القصص أو بترجمتها بتلك السلاسة وذلك التمكن، ووضع تحت يدي القارئ بعضا من أهم أعمال أنطون تشيخوف الكاتب النادر حقا وسيد القصة القصيرة .