Reform of higher education and contemporary scientific research: prospects and challenges لا يمكن الحديث عن اصلاح البحث العلمي دون الحديث عن اصلاح فعلي وعقلاني لمنظومة التعليم العالي. وقد نجد أنفسنا أمام معضلة "اصلاح الإصلاح" نفسه، إذ لطالما تشعبت الآراء واختلطت الأطروحات واختلفت الآراء حول الأولويات، وتساءل البعض: "من أين سنبدأ ؟" ومن المؤكد أن تلك الاختلافات تمخضت عنها انعكاسات سلبية كان لها تأثير بالغ على نفسية أطر وكفاءات هذا القطاع، وعلى مردودية الجامعات والمؤسسات العليا ومخرجاتها. و لاشك أن تلك الانعكاسات كان لها أيضاً تأثير بالغ على مجال البحث العلمي فيما يخص النتائج والوتيرة والجودة. وكما هو معلوم، فالبحث العلمي، سواء في المغرب أو غيره من البلدان، يكتسي أهمية قصوى نظراً لارتباطه الوثيق بمفهوم الرقي والنمو وكونه معياراً ملموساً لقياس التقدم، لذلك نجده غاية سامية وهدفاً منشوداً لدى الدولة المتقدمة والساعية للتطور. ومن الملاحظ أن المغرب قد انخرط في هذا الورش الكبير منذ السنوات الأولى لإرساء مقومات التعليم العالي والبحث العلمي في هذا البلد. ومن جهة أخرى، فقد ظل البحث العلمي – منذ أمد بعيد – الطريقة المثلى وربما الوحيدة (بهذا الشكل الذي نراه اليوم) التي تربط بين الدول وذلك من خلال تبادل المعرفة بوسائل شتى وبشكل مذهل حول العالم. ويمكن القول أيضاً بأن البحث العلمي هو المنقذ (بعد الله) للبشرية من خلال البحوث العلمية المتقدمة والتكنولوجيا. وهو أيضاً القاعدة الأساسية لبنية الاقتصاد المتنوع المتين القائم على المعرفة وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة من خلال مقاربات حديثة، والوصول إلى مد جسور المعرفة بين الأفراد والمجتمعات المحلية والعالمية. تلك المجتمعات التي غالباً ما تشغلها تحديات المستقبل ومتطلبات الأجيال الحالية والمستقبلية من اكتساب معارف ومهارات وتكنولوجيا. ولذلك ترفع الدول المتقدمة منذ عدة عقود نسبة ما تنفقه على البحث العلمي والتطوير في كل من القطاعين العام والخاص وتضيفه إلى ناتجها المحلي الإجمالي. فما هي الآفاق والموارد المتاحة للنهوض بإصلاح شامل لمنظومة التعليم العالي وكذلك هذا القطاع الحيوي، ألا وهو البحث العلمي، وما هي التحديات الآنية والمستقبلية التي لا زالت تعترض هذه المسيرة التي لطالما ركزت عليها العديد من الخطب الملكية السامية؟ إن مشروع الإصلاح هذا قد أضحى مرضاً مستفحلاً لم ينفع معه أي دواء إلى يومنا هذا نظراً لتشعب الأسباب وتضارب الآراء والأطروحات. وربما قد حان الوقت للخروج من بوتقة أو غرفة التشخيص هذه، سواء بالأشعة السينية أو بجس النبض أو بغيرهما، إذ أننا نعتقد بأن هذه الأخيرة قد أخذت حقها من الوقت ما يكفي وزيادة، ومرت بمراحل عدة منذ مطلع فترة الاستقلال إلى يومنا هذا. وبعبارة أخرى، فإن ما تحتوي عليه المكتبات والجامعات وكذلك الوزارة المعنية بقطاع التعليم العالي من بحوث ومقترحات بهذا الشأن، وما ورد في كل المخططات والمناظرات وأعمال المجلس الأعلى للتعليم من دراسات وأبحاث واستشارات ومقترحات، ترمي بدورها إلى إرشاد المسئولين إلى ما يجب العمل عليه من أجل تنزيل إصلاح فعلي شامل، قد تعثرت في مسارها ولم تؤتي أكلها ولم تحقق الأهداف والغايات التي تم تسطيرها. والغريب في الأمر أن هذه الظاهرة ما فتأت تتكرر بين الفينة والأخرى ومثل ما يحصل عند فشل تحقيق الأهداف في كرة القدم في بعض الدول، حيث يتم توجيه اللوم إما للمدرب فتتم إقالته أو تغيره أحياناً، ولسوء الحظ قد يبقى الحال على ما هو عليه لأن الخلل ربما في اللاعبين أنفسهم أو في جهاز التدبير والتسيير، وهذا شأن قطاع التربية والتعليم،حيث أن عدد وزراء التعليم في المغرب، خلال 60 سنة الفارطة بلغ 32 وزيراً و ما يزيد، بالإضافة إلى الوزير الحالي بِمُعَدَّل وزير لِكُلّ 22,5 شهراً. وتعقيباً على هذه الظاهرة، يقول د. عبدالكبير بلاوشو في أحد مقالاته بتاريخ 12فبراير 2020 : "هذا الكَمّ المُهوِل والمُرعِب من الوزراء، تُقَابِلُه 14 محاولة للإصلاح، بمعدل إصلاح كل 4 سنوات، لم تُفْضِي أيٌّ منها لتحقيق الأهداف المُسطَّرَة والمُعلَنَة استراتيجياً في الخِطَابات الرسمية والتّصريحات الإعلامية. إخفاقات مردّها إلى "الأنا" والنرجسية وإلى الإرتجال والإختزال والإستعجالية وإلى غياب تقدير الأوضاع والتقارير التركيبية وإلى صَبْغ المشاريع بأسماء شخصية لاعتبارات إيديولوجية وتوظيفات انتخابية مع إزاحة آلية التنسيق بين كل القطاعات الحكومية..." (هسبريس 12 فبراير، 2020) و على هذا الأساس، أصبح من الضروري مراجعة الآلية التي تتم من خلالها تلك الاصلاحات، ويستوجب من الادارة التربوية مراجعة الإستراتيجيات و المخططات التربوية المعتمدة الحالية، وطرح السؤال المنطقي الذي هو على لسان كل فرد اليوم ألا وهو: "لماذا نفشل كل مرة في هذا الورش؟" وربما يستوجب هذا من الجهات المعنية مراجعة الآليات و الوسائل و المقاربات الإصلاحية التي لا زال البعض مصراًّ على نهجها رغم الفشل المتكرر، وذلك من خلال اعتماد سياسة تربوية شفافة ومتفق عليها، وتكون متعددة الأبعاد و المستويات تستدعي استحضار قضية التربية والتعليم كثالوث متماسك الزوايا تكون قمة زواياه الأسرة، وزواياه الأخرى المدرسة والشارع، مع استحضار العوامل الذاتية والموضوعية، لأنها عوامل متماسكة ومتداخلة. وفيما يخص إصلاح التعليم العالي أو الجامعي، فلا شك أن مخرجات هذا القطاع لها ارتباط وطيد مع نسبة الجودة في التعليم ما قبل الجامعة، ولاشك أيضاً أن ما يشهده الأساتذة الجامعيون من انتكاسة لدى العديد من طلابهم وطالباتهم من حيث التواصل والتعبير الكتابي (خاصة باللغة الفرنسية، وحتى اللغة العربية أحياناً) لشيء محزن حقاًّ. أما طريقة استقطاب الطلاب وقضية التوجيه فتضل مشكلة في حد ذاتها، إذ أن الحالة المادية لأولياء الطالب تلعب دورا في تحديد توجيهه ورسم الطريق له منذ التعليم الأولي مرورا بالتعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي ووصولاً إلى المستوى الجامعي نظراً لوجود صنفين من التعليم: التعليم الخاص والتعليم العمومي، مما يكرس مفهوم الطبقية في هذا القطاع. ومن الملاحظ أن طريقة التسجيل في الجامعات المتبعة حالياً وخاصة تلك التي تعتمد الانتقائية المبنية على معايير مختلفة في تخصصات عديدة تعد معضلة في حد ذاتها، إذ تقضي ضمنياً على أحلام ورغبات الكثير من الطلاب والطالبات، وخاصة أولئك المنحدرين من أسر فقيرة أو معوزة، أو من المناطق القروية (راجع البحث الذي قام به كل من د. عبد المجيد بوزيان، و د. يوسف فضيلات تحت عنوان: " المساواة في الحصول على التعليم العالي الحكومي في المغرب" (Equity in gaining access to public higher education in Morocco). وحسب ما ورد في هذا البحث، فقد اشترك المغرب، مثل باقي البلدان، في خطة التنمية المستدامة لعام 2030 التي حددها ميثاق الأممالمتحدة في عام 2015 والتي يمكن أن تؤدي إلى تحقيق أهداف التنمية الاستراتيجية السبعة عشر (SDGs) الرامية إلى تحقيق الرخاء الاجتماعي والاقتصادي للناس اليوم وللأجيال القادمة. أحد هذه الأهداف هو المساواة في التعليم كما هو موضح في الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة: "التعليم الجيد الشامل والمنصف وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع". وفي تقرير المراجعة الوطنية الطوعية للمغرب في إطار منتدى الأممالمتحدة السياسي رفيع المستوى 2020، جددت المملكة التزامها بتحقيق جميع أهداف التنمية المستدامة لأجندة 2030. وفيما يتعلق بالهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة المتعلق بالتعليم، أكد التقرير أنه تماشياً مع دستور المملكة، يسعى نظام التعليم والتدريب إلى تحقيق تكافؤ الفرص والوصول إلى تعليم جيد لجميع المواطنين. على وجه التحديد، اعتمدت الرؤية الإستراتيجية 2015-2030 على الإنصاف كهدف أساسي لها (المجلس الأعلى، 2015). وفي مسح وطني حديث حول الأسرة والتعليم أجراه المجلس الأعلى يكشف أن الأسرة تلعب دورًا مهمًا في العدالة التعليمية، إذ تميل الأسر المحرومة والأقل تعليماً إلى أن تكون أقل استثمارًا وانخراطًا في تعليم أطفالها (المجلس الأعلى ، 2019 ) ذكر في المرجع السابق بتصرف. إعادة الاعتبار للمدرسة المغربية: تعتبر المدرسة العمومية تلك الأرضية الصلبة التي توضع عليها قوائم وركائز ولبنات البناية التي يمكن تسميتها "التربية والتعليم"، والذي تمثل آخر طوابقه وسقفه ما نسميه "التعليم العالي". ومن المنطق أيضاً أننا إذا كنا نطمح إلى إصلاح شامل لتلك البناية إذا شاب كل طوابقها خلل أو تصدع ظاهر وبين، فيجب أن لا ينصب تفكيرنا ولا تقتصر جهودنا على الطابق العلوي والسقف الخاص بتلك البناية فقط، بل لابد من الاعتكاف على مكامن الضعف والخلل التي تقودنا إلى أسباب هشاشة ذلك البنيان. إذاً، لابد من الرجوع إلى مقومات البناية نفسها ودراسة التربة التي شيدت عليها. وبعبارة أخرى، لابد من الرجوع إلى مقاييس وكمية الماء والاسمنت والرمل والطوب ونوعية قضبان الحديد التي تم استخدامها ومدى جودتها ومتانتها لكي تجعل البناية تصمد في وجه الزوابع والأمطار والحرارة أيضاً. وتماشياً مع هذا المنطق، لا بد من الرجوع إلى مكامن الخلل والهشاشة والتصدع الذي أصاب التعليم بالمدرسة العمومية وتصحيح ذلك قبل فوات الأوان. فالإصلاح الشامل لابد أن يكون عمودياً وبشكل تصاعدي، انطلاقاً من إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية المغربية، وليس بالاعتكاف على إصلاح الجامعة المغربية فحسب وبمعزل عن المنظومة ككل كونها كثلة متماسكة. إعادة الاعتبار للعلوم الانسانية: في إطار المساواة والإنصاف، لابد من إعادة الاعتبار لجميع المسالك المتعلقة بالعلوم الانسانية. فقد أثبت التجربة والتاريخ معاً بأن البلدان التي وصلت إلى مستويات متقدمة من الرقي والازدهار هي تلك التي كانت تعير وتولي اهتماماً بالغاً بالعلوم الانسانية بما في ذلك الأدب والشعر والفلسفة والمسرح وباقي الفنون بجميع دروبها، ويمكن الرجوع إلى إمبراطوريات وحضارات سابقة كالحضارة اليونانية والإغريقية والإسلامية وغيرها حيث سمى فيها مستوى الفكر والإبداع وكانت الأحياء ودور العلم فيها تعج بحلقات الذكر والنقاش والمناظرات، وكان للبحث العلمي فيها حظا وافراً، فأنتجت فكراً ثاقباً وبغزارة ملحوظة. وبالرجوع إلى عهد غير بعيد، سوف نلاحظ بأن الطلاب حتى وإن كان ميولهم للعلوم، فقد كانوا يغرفون وينهلون من جميع مشارب وأصناف العلوم الإنسانية من شعر وأدب وفلسفة ونحو وبلاغة وعلم الاجتماع وعلم النفس والمنطق وغيرها لأن ذلك يساهم في بناء شخصيتهم وقدراتهم الفكرية، ولذلك نجد الجامعات الأمريكية، على سبيل المثال، تلتزم باعتماد ما يسمى بالمواد التكميلية أو الاختيارية (Elective courses) بالإضافة إلى المواد الرئيسية. ونحن من جهتنا نتمنى أن تنهج جامعاتنا نفس النهج والمنحى لأننا نريد طبيباً ومهندساً وتقنياً ملماًّ ومتقناً لتخصصه، وفي نفس الوقت متشبعاً بدروب الفن والأدب وله حس أدبي يروم إلى تواصل بناء وخدمة الانسانية بشكل أفضل. إعادة الاعتبار للبحث العلمي: تكمن أهمية البحث العلمي في كونه أحد الركائز المهمة في مشروع الإصلاح الشامل والمنشود لمنظومة التربية والتعليم بعد اصلاح جذري للمدرسة العمومية وتحديث جميع مناهجها ومقرراتها الدراسية ومرافقها وفضائها الداخلي والخارجي، كما يعتبر البحث العلمي الغاية القصوى للإنتاج الفكري الذي تتجه إليه أنظار مؤسسات التعليم العالي والجامعات كونه القاطرة الفعلية للتنمية الاقتصادية والصناعية والاجتماعية والثقافية للمجتمع. وقد اهتم العلماء والباحثين والمهتمين بقطاع البحث العلمي منذ القدم لما فيه من خير ومصلحة للأمة. فمنذ القدم كان للبحث العلمي دور في الرفع من المستوى المعرفي والفكري للمجتمعات. واهتم العالم الاسلامي منذ صدر الاسلام بالبحث والتأليف وكانت الناس تشد الرحال لطلب العلم والخوض في أبحاث أفادت الانسانية جميعا. وقد حان الوقت لمراجعة كل ما يتعلق بالبحث العلم من سياسات ومساطر، والوقوف على مواطن الخلل بغية تحيين الأهداف ورسم خارطة طريق واضحة المعالم. ولا شك أن هناك حاجة ملحة للبحث عن مصادر وطرق التمويل ونهج مقاربات تشاركية بما في ذلك ابرام اتفاقيات بين الجامعات والمؤسسات وشركات ومقاولات القطاع الخاص أيضاً وخلق كراسي علمية في جميع التخصصات. ويبقى تحفيز الباحثين والكتاب وصيانة حقوقهم المادية والمعنوية والحفاظ على خصوصيات الملكية الفكرية واحترامها لكل من شارك أو أنتج أو أبدع، أمانة في عنق الجهات المسئولة عن هذا القطاع والمعنيين بذلك. إعادة الاعتبار للطالب والمعلم: إن كافة العوامل و الأسباب المرتبطة بأزمة النظام التعليمي (العوامل الذاتية و الموضوعية...) تدور حول الموارد البشرية والمالية، دون استثناء قطبين متداخلين يكمّل أحدهما الآخر، بل لا معنى لوجود أحدهما دون وجود الآخر، ألا وهما الطالب والمعلم. فكل مشروع اصلاح يحاك وتُبلور مراحله ويتم انتقاء متدخليه بطرق غير واضحة المعالم دون اشراك الطالب والمعلم، اللذين هما في حقيقة الأمر صلب الموضوع، وهما المعنيين الأساسيين بكل التفاصيل البداغوجية، وبكل المناهج والمقررات، فهو مشروع سيكون مصيره حتماً الفشل طال الزمن أم قصر. لذلك ينادي الكثيرون بأن مشروع الاصلاح لابد وأن تسند مهامه ومراحل إعداده إلى الخبراء، مع التأكيد على تطبيق جميع معايير الجودة الشاملة (Total quality) في كل مرحلة، بعيداً عن أي مزايدات فكرية أو إيديولوجية أو سياسية أوحزبية، وبعيداً عن كل محسوبية لأن جودة هذا القطاع وسلامته في مصلحة الوطن والأجيال الحاضرة والقادمة، وهي رهينة بحسن النوايا والصدق في القول والعمل، مصداقاً لقوله تعالى ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ البقرة: 282. (صدق الله العظيم). والله ولي التوفيق،،،