The importance of scientific research after the Covid19 pandemic من الممكن الجزم بالقول من الآن فصاعدا بأن نظرة العديد من المجتمعات عبر القارات بأكملها سوف تتغير فيما يخص "البحث العلمي" وأهميته. ولعل الظروف الحالية وما ستخلفه جائحة Covid19 من خسائر فادحة في الأرواح والأبدان وفي الاقتصاد العالمي، سوف تزيد من عزم الشعوب والدول في دعم هذا القطاع الحيوي والضروري، كما سوف يرسخ المسئولون في كل تلك البقاع هذا المعتقد في ضمائر الأجيال القادمة، إذ أظهر الواقع المر هذه الأيام بأن أهمية البحث العلمي تكمن، وبدون شك، في كونه المدخل الصحيح والسليم للإصلاح الحقيقي المنشود لقطاع الصحة. كما أبانت الدراسات الحالية والواقع الحالي الصعب أيضا أن مشاكل هذا القطاع ومردوديته مرتبطة بمدى تطور البحث العلمي لدى المستشفيات الجامعية وكذلك مراكز الأبحاث الوطنية. وبدون شك أن علاقة قطاع الصحة له صلة مباشرة بقطاع التربية والتعليم، إذ أن هذا الأخير هو الذي بمده بالأطر المهيأة والمؤهلة لكي تقوم بالأبحاث اللازمة وتكون مسئولة عنها. تطوير البحث العلمي رهين بتطوير قطاع التعليم: لا يمكن الحديث عن تطوير قطاع البحث العلمي دون ربطه بتطوير منظومة التربية والتعليم وبعد إصلاح جذري للمدرسة العمومية وتحديث جميع مناهجها ومقرراتها الدراسية ومرافقها وفضائها الداخلي والخارجي، وذلك لأن البحث العلمي يعتبر الغاية القصوى للإنتاج الفكري والابتكار الذي تتجه إليه أنظار مؤسسات التعليم العالي والجامعات كونه القاطرة الفعلية للتنمية الاقتصادية والصناعية والاجتماعية والثقافية للمجتمع. وفي هذا الصدد يرى الباحث أمجد قاسم نقلا عن "مجلة الفيصل العلمية"، على سبيل المثال، بأن البحث العلمي يعد "المحرك الفاعل والأساسي للتقدم والتطور في كل المجتمعات ولجميع قطاعات الدولة (الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والاجتماعية، والتربوية، والثقافية)، ولا يمكن أن تزدهر العلوم والتقنية في أي مجتمع من دون بناء قاعدة أساسية وفاعلة لأنشطة البحث العلمي الهادف لدفع عجلة التنمية والتطور". وبما أن الأمر كذلك، فيمكن القول بأن البحث العلمي يعتبر المعيار الحقيقي أو الفيصل بين الدول المتقدمة والدول النامية والدول المتخلفة، إذ يمكن اعتباره أيضاً الفارق الجوهري بين الدول التي أخذت البادرة وهيأت نفسها لولوج القرن الحادي والعشرين ودول أخرى ما زالت على أعتاب القرن التاسع عشر أو حتى ما قبله. وقبل الخوض في موضوع مستقبل البحث العلمي في بلدنا الحبيب، لابد من إعطاء نبذة عن تعريف مفهوم البحث العلمي وما المراد به. مفهوم البحث العلمي قديماً وحديثاً: اهتم العلماء والباحثين بقطاع البحث العلمي منذ القدم لما فيه من خير ومصلحة للأمة. فمنذ عهد اليونان والإغريق وحتى الحضارات التي مرت قبلهم، كان للبحث العلمي دور في الرفع من المستوى المعرفي والفكري للمجتمعات. واهتم العالم الإسلامي منذ صدر الإسلام بالبحث والتأليف وكانت الناس تشد الرحال لطلب العلم والخوض في أبحاث أفادت الإنسانية جمعاء، كما ساهم علماء المسلمين والمخترعين في نشر حقائق علمية ومفاهيم جديدة أخرجت أوروبا وباقي دول العالم من عصر الظلمات إلى النور، وهكذا بدأت المجتمعات في البحث نحو فك الألغاز العلمية المتعلقة بالهندسة والطب والفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، مما ساهم في اختراعات غيرت مسارات البشرية في الحياة وكان لها وقع مدوي لازال بعضه ساري المفعول إلى يومنا هذا، ويكفي أن نشير إلى ما نطق به ابن سينا والرازي في مجال الطب، وما حققه الفرنجة في منن الشفاء. وتبعاً لذلك شهدت بلدان كثيرة في القرون الأخيرة ثورات اقتصادية وثقافية واجتماعية وصناعية أسست لعهد "المكننة" الجديد والتكنولوجيا المضطردة الحديثة. وهكذا عزز مفهوم الرأسمالية والاشتراكية والامبريالية والبروليتارية العمالية حركية البحث الدؤوبة والمتعطشة لفتح مشارب وآفاق جديدة لكسب المال. غير أن المتأمل في مفهوم البحث العلمي سوف يرى بأن هذا الأخير ليس له تعريف واحد موحد يشمل كل جوانب مفهوم "البحث العلمي"، بل هنالك تتباين الآراء في التعريف الدقيق للبحث العلمي، وقد ارتأينا ادراج ما هو متعارف عليه كتعاريف لمفهوم البحث العلمي وتلخيصها في النقاط التالية: يعرف مفهوم البحث العلمي بأنّه المحاولة النّاقدة الّتي تحاول الوصول لحلّ مشكلة إنسانيّة معيّنة. البحث العلمي هو تفسير لحقيقة ما باستخدام عباراتٍ واقعيّة تطبّق بقوانين عامّة توجد في المجتمع. البحث العلمي هو مجموعة من الخطوات المنتظمة والمدروسة، تبنى على معلومات تجمع حول مشكلة معيّنة، وخضعت للفحص والتّدقيق، وذلك لحلّ المشكلة. البحث العلمي هو فكر منظّم يقوم به شخص يدعى (الباحث)؛ للوصول إلى الحقائق لحلّ قضيّة تسمّى (موضوع البحث)؛ إذ يتّبع طريقة علميّة تسمّى (منهج البحث)؛ ليصل إلى حلول تسمّى (نتائج البحث). ومن جهة أخرى، يرى الباحث أمجد قاسم بأننا إذا حاولنا تحليل مصطلح "البحث العلمي" نجد أنه يتكون من كلمتين "البحث" و "العلمي"، يقصد بالبحث لغوياً "الطلب" أو "التفتيش" أو التقصي عن حقيقة من الحقائق أو أمر من الأمور. أما كلمة "العلمي" فهي كلمة تنسب إلى العلم، والعلم معناه المعرفة والدراية وإدراك الحقائق، والعلم يعني أيضاً الإحاطة والإلمام بالحقائق، وكل ما يتصل بها، ووفقاً لهذا التحليل، فإن "البحث العلمي" هو عملية تقصي منظمة بإتباع أساليب ومناهج علمية محددة للحقائق العلمية بغرض التأكد من صحتها وتعديلها أو إضافة الجديد لها(عن أمجد قاسم:2012، التربية والثقافة، بتصرف). أما الدكتور جون ديكنسون – خبير اليونسكو – فيعرّف البحث العلمي بأنه "استقصاء دقيق، نافذ وشامل، يهدف إلى الوصول إلى حقائق جديدة، تساعد على وضع فرضيات جديدة موضع الاختبار، أو مراجعة نتائج مسلّم بها"(ذكر عن أمجد قاسم: 2010). كما يرى ماكميلان وشوماخر، كما ورد عن أمجد قاسم، بأن البحثَ العلميَّ هو "عمليَّة منظَّمة لجمع البيانات أو المعلومات وتحليلها لغرضٍ معيَّن"، فيما يرى توكمان بأن مفهوم البحث العلميِّ هو "محاولةٌ منظَّمة للوصول إلى إجابات أو حلول للأسئلة أو المشكلات التي تواجه الأفراد أو الجماعات في مواقعهم ومناحي حياتهم". أما الباحث الدكتور سيدي محمود ولد محمد – من موريتانيا – فيعرف البحث العلمي على أنه "وسيلة للوصول إلى الحقيقة النسبية، واكتشاف الظواهر ودرجة الارتباط فيما بينها، وذلك في مختلف مجالات المعرفة، وأن البحث العلمي ليس مقتصرا على أسرار المادة والكون المحيط بنا، بل يشمل الأحداث اليومية لحياة الإنسان" (ذكر في أمجد قاسم: 2010). مستقبل البحث العلمي بعد هذه الجائحة: لن يكون مستقبل قطاع البحث العلمي غامضاً بعد اليوم!، وهذا ما يبدو في الأفق بعد أن تلملم المجتمعات والدول جراحها وتتصدى للصدمات الاقتصادية الارتدادية لهذه الجائحة، كما أن هذا القطاع قد يكون من الأولويات على أجندتها للحيلولة دون السقوط في نفس الخطأ، أي عدم الاهتمام البالغ بهذا القطاع وبجميع مقوماته.وتبعا لذلك، فإن تسابق الأمم في ميادين المعرفة، واستثمارها الأموال الطائلة وتسخيرها في بناء منظومتها الخاصة بالبحث العلمي والمعرفة والتقنية، والتنافس والتباري في الإنجازات العلمية الحديثة وخلق جوائز محلية وعالمية للمتفوقين في ذلك، لخير دليل على إدراك بعض الأمم للحقيقة الدامغة ألا وهي أنه لا سبيل للتقدم والنمو والازدهار إلا من خلال بوابة التقدم في البحث العلمي وتيسير طريقه للأجيال الحالية والقادمة. وهكذا بدأت بعض الأمم تدرك بأن تفاخرها بثرواتها الطبيعية ما هو إلا شيء عارض وأن الاستمرارية والبقاء للأقوى، أي للمتقدم في ميادين العلم والمعرفة والتقنية. ومع كامل الأسف يلاحظ بأننا– نحن العرب – لازلنا نقف عاجزين عن المشاركة الفاعلة في تلك الإنجازات المعرفية والتقنية بعدما كنا في زمن مضى نحن السباقين في العلوم التجريبية وترجمنا عن الفلاسفة اليونانيين وغيرهم كل دروب الفلسفة والفكر واستطعنا إيصالها إلى غيرنا من الأمم الأخرى، غير أننا شغلتنا الحروب والطائفية والفتن "ما ظهر منها وما بطن"، فوقفنا مندهشين لسرعة التقدم التقني والعلمي الحاصل في بعض دول الغرب، والذي تحقق بسرعة فائقة خلال العقود القليلة الماضية، بيد أننا نحن مازلنا مكتفين باستهلاك ما تنتجه المكينة والعقول الغربية وما يقدَّم إلينا من منجزات علمية ومعرفية، بعد أن أفل نجم علمائنا ومخترعينا الأجلاء الأوائل، وولّت حقبة زمنية زاهرة من تاريخنا العربي والإسلامي، لازالت بعض الأمم الغربية تستشهد بها، بينما تحاول أمم أخرى كتمانها أو طمسها بالمرة، بينما اكتفينا نحن فقط بالبكاء على الأطلال وبالتغني بما أنتجه أجدادنا وبأمجادهم. أما التاريخ فلا زال لحسن الحظ منصفاً ويشهد على عظمة أولئك العلماء والمخترعين العرب والمسلمين وعن إنجازاتهم الكبيرة في ميادين العلوم والمعرفة والتي، على سبيل المثال، دونت جزءاً منها المستشرقة الألمانية (سيغريد هونكه Sigrid Hunke) بكل أمانة وعنونتها في كتابها ب"شمس العرب تسطع على الغرب". وفي هذا الصدد يمكن أن نضرب المثال بما يجري في دول الخليج على سبيل المثال لا الحصر، إذ يقول الدكتور نجيب أحمد الجامح في مقال له نشر في صحيفة الاقتصادية الإلكترونية بعنوان (البحث العلمي والتقني في دول مجلس التعاون العربي ترف أم ضرورة؟): "إن مشاركتنا في الحضارة الإنسانية القائمة حاليا تقتصر في أحسن الأحوال على تزويد العالم من حولنا بمصدر للطاقة المحرّكة له، وتوفير سوق استهلاكية لمنتجات هذا العالم، إننا إذا أردنا فعلا أن ننتقل من واقع الاستهلاك الهامشي لمخرجات الحضارة الإنسانية الحديثة إلى المشاركة الفعالة في صنع هذه الحضارة فإن الطريق الوحيد لذلك لا بد أن يمر عبر البحث العلمي والتقني، ولا يوجد طريق آخر مختصر مهما اعتقدنا خلاف ذلك" (ذكر في أمجد قاسم: 2010). ولذلك حرص المغرب منذ مطلع القرن الماضي على أن تكون له سياسة وطنية للنهوض بالعلم والتقنية من خلال منظومة التربية والتعليم، وقد سنّت الجهات المختصة في هذا البلد مجموعة كبيرة من الإجراءات التشريعية والتنفيذية بهدف تنشيط الطاقات العلمية الوطنية وتعبئتها لتحقيق خطط التنمية الإستراتيجية في ربوع المغرب وكل أقاليمه بدون استثناء، ومن أجل ذلك رصدت الأموال الطائلة لتحقيق هذا الهدف، ولازال المغرب يواكب مجموعة من الإصلاحات والأوراش الكبرى بكل قوة مما جعل بلداناً كثيرة تتطلع إلى نموذجه السياسي والاقتصادي. كما يتطلع المغرب أن تكون مخرجات المدرسة العمومية والجامعات والمدارس العليا في المستوى المطلوب وأن تتقوى بمخططاتها الإستراتيجية فيما يخص البحث العلمي، لأن هذا الأخير يعتبر في المقام الأول استثمار وخيار اقتصادي ناجح، يعبّر عن رؤية مستقبلية اقتصادية واعية وواعدة. ومن ناحية أخرى، فإن البحث العلمي جزء لا يتجزأ من الأمن العام للبلد، والأمن، كما يقول أحد الباحثين في هذا الميدان، كلٌّ لا يتجزأ، فالأمن العسكري، والأمن السياسي، والأمن الغذائي، والأمن الثقافي، والأمن المائي، وغيرها من نواحي الأمن، ما هي إلا حلقات لسلسلة مترابطة بعضها مع بعض، وأن قوة أي سلسلة تحددها الحلقة الأضعف. هذه الرؤية الشاملة هي التي يسعى المغرب لتحقيقها من خلال مشاريع الإصلاح التي تبناها مؤخرا والتي بوأته الصدارة في أخذ المبادرة في ميادين وقطاعات مختلفة. غير أن الركن الأصعب في تلك الأوراش الإصلاحية هو إصلاح منظومة التربية والتعليم والتي يعتبر البحث العلمي جزءاَ أساسياً منها. وفي هذا الإطار لابد من أخذ النقاط التالية في عين الاعتبار ما دامت هنالك فرص لنقل الخبرة المغربية إلى القارة السمراء، ولما لا نشاطر تلك البلدان تجربتنا في ميدان البحث العلمي بعد تطويره وإصلاح منظومته مستقبلاً على النحو التالي: - وضع خطط إستراتيجية خاصة بالبحث العلمي، بعد هذه الجائحة، تكون ذات بعد وطني وإقليمي ودولي؛ - رد الاعتبار للمسالك العلمية التي تفضي إلى التخصص في المختبرات والبحث مثل البيولوجيا وعلم الأحياء وغيرها؛ - بناء وتجهيز مختبرات حديثة وكافية في كل الجامعات والمؤسسات التعليمية؛ - إعادة النظر في جميع القوانين والإجراءات المتعلقة بهذا الميدان؛ - ربط البحث العلمي بشكل وثيق بالخطط الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتعليمية والثقافية للبلد؛ - الحد من تأثير سيطرة الشركات العابرة للقارات، وسطوة مراكز الأبحاث العالمية على المنتوج العلمي المحلي؛ - الحد من هجرة العقول والأدمغة الوطنية وتصديرها إلى الخارج وذلك بوضع آلية تحفيز ومكافأة عالية وترقى إلى مستوى الباحثين والمستوى الدولي؛ - ضرورة الإيمان والاقتناع بفكرة أنه لا يمكن أن يتم النهوض بقطاع البحث العلمي بمعزل عن بقية قطاعات الدولة؛ - وضع آلية للتحفيز ومكافأة الأطر الإدارية المساندة للباحثين وإعطاء كل ذي حق حقه؛ - احترام الملكية الفكرية وبراءة الاختراع؛ - تشجيع البحث العلمي منذ المراحل الأولى للتعليم وبشكل مبسط كي يتعود الطلاب على ذلك؛ - الرفع من مستوى البحث العلمي باتخاذ مقاربة تشاركية تساهم في تمويلها شركات كبرى وجهات مختلفة؛ - تخصيص كراسي علمية تمولها الشركات الكبرى والمحسنين وكل من يريد الخير لهذا البلد؛ - القيام بتغطية إعلامية وندوات وورش عمل مجدية تعرف بالأبحاث الهامة؛ - تحفيز الباحثين ماديا ومعنوياً وعدم إجحافهم في حقوقهم؛ - خلق مسابقات تنافسية محلية مشجعة للنهوض بقيمة البحث العلمي؛ - تسهيل عملية البحث من خلال إحداث مقاعد للبحث في الجامعات والمعاهد والمدارس العليا وتحديث المختبرات والمكتبات؛ - تسهيل عملية الحصول على وظيفة للباحثين؛ - تشجيع عملية البحث العلمي بين أطر التدريس وكوادر الجامعات وغيرهم وعدم التوقف عن البحث حتى بعد سن التقاعد؛ - تعزيز مكانة اللغات وإتقانها بما في ذلك اللغة العربية والفرنسية والانجليزية وغيرها؛ - تكتيف الجهود لتعلم اللغة الانجليزية كونها لغة البحث في الوقت الحالي؛ - ربط نظام الترقية بالإنتاج العلمي والفكري والمساهمة في أوراش التدريب والمؤتمرات العلمية وغيرها؛ و - جلب العقول المهاجرة من مغاربة العالم من المفكرين والباحثين في جميع المجالات وإدماجهم في الناتج الفكري المحلي. تطلعات نحو دعم البحث العلمي بعد هذه الجائحة: يمكن القول أنه في عقد السبعينيات من القرن الماضي، بدأ العمل العربي المشترك للنهوض بالسياسة العلمية العربية، وعُقدت عدة مؤتمرات في جهات مختلفة وعلى الرغم من تلك الجهود الرامية إلى بلورة سياسات ووضع خطط إستراتيجية وأخرى تعزز أواصر التعاون بين البلدان العربية وتهدف إلى رفع شأن البحث العلمي في بلادنا العربية والاعتماد عليه كرافعة للاقتصاد والنمو في تلك البلدان، إلا أن تلك السياسات أدّت غالبا إلى نشوء وظائف هامشية لا تغطي متطلبات سوق العمل ولا تلبّي الأهداف المنشودة ولا تحققها، ولمعالجة ذلك يتم عقد مزيد من الاجتماعات والمؤتمرات، كمؤتمر الوزراء العرب المسئولين عن البحث العلمي ورؤساء المجالس العلمية العربية الذي انعقد في بغداد عام 1974م ، و مؤتمر الوزراء العرب المسئولين عن تطوير العلم والتقنية في الرباط عام 1976م، وقد دعا الحاضرون في كلا المؤتمرين إلى ضرورة العمل العربي المشترك، وإنشاء مراكز نوعية متخصصة على مستوى الوطن العربي، كما أسفرت تلك التجمعات عن جملة من التوصيات الموجهة إلى الحكومات العربية، وتوصيات أخرى للمنظمات العربية المعنية بدعم الثقافة والعلوم. وعلى الرغم من كل تلك التجمعات الأولية والأخرى التي تلتها عبر العقود الأخيرة ورغم تلك الجهود الرامية إلى وحدة الصف وتعزيز التعاون وبلورة سياسات تهدف إلى رفع شأن البحث العلمي في بلادنا العربية إلا أن تلك السياسات أدّت غالبا إلى نشوء وظائف هامشية لا ترقى إلى طموحات الشعوب العربية بل ولا تلبّي الأهداف المنشودة والمنصوص عليها في تلك المؤتمرات والتوصيات ولا تحققها. والغريب في الأمر أن تلك الدول لم تتعظ ولم تستفد من ذلك الفشل والتعثر المتكرر ولم تستوعب الدرس لمعالجة تلك الهفوات. ويلاحظ أن أموالاً طائلة صرفت في دراسات وأدت إلى مزيد من الاجتماعات الإضافية المكلفة أدت إلى تكدس نتائج وآراء وأكوام من الأوراق والوثائق والمستندات لم تتم الاستفادة منها بالشكل الصحيح والسليم مما يأدي إلى ضياع الجهد والمال والوقت ليظل البحث العلمي يُنظر إليه من زاوية ضيقة لا تفي حصيلته بالغرض. ووفقا للبيانات الصادرة عن البنك الدولي حول مؤشرات التنمية في عام 2003م، على سبيل المثال، وحسب ما ذكره الباحث أمجد قاسم، فإن "مجمل ما تنفقه الدول العربية على دعم البحث العلمي لا يكاد يذكر، فقد بلغت حصة الإنفاق على البحث والتطوير من الناتج القومي الإجمالي في كل من الكويت والأردن ومصر وسورية والإمارات العربية المتحدة على الترتيب النحو الآتي: 0,3% ، 0,26 % ، 0,2% ، 0,18% ، 0,45% ، بينما أنفقت السويد 3,02% من ناتجها القومي، واليابان 2,84% ، وسويسرا 2,68% ، وكوريا الجنوبية 2,47% ، والولايات المتحدةالأمريكية 2,8% ، وفرنسا 2,34%" (نفس المرجع). وحسب ما ورد عن نفس الباحث فإن تلك الفجوة الكبيرة، كما يقول، التي يعانيها وطننا العربي على مستوى إنتاج أبحاث علمية وتقنية عالمية، وقلة عدد العلماء والباحثين في العالم العربي، تدل على وجود خلل واضح في السياسات التعليمية والتنموية في بلادنا، وقصور مريع في مؤسسات البحث العلمي العربي، وافتقارها إلى الحسابات الدقيقة لعوائد بعض الأنشطة العلمية التي يتم تنفيذها في مؤسساتهم. ويمكن ملاحظة ذلك القصور من خلال لمحة سريعة على ما تنفقه الدول العربية من عائدها الوطني على البحث العلمي: فعلى سبيل المثال هنالك دول تنفق أقل من 0,3% من ناتجها القومي على البحث والتطوير، وتشمل هذه المجموعة: جميع الدول العربية وأمريكا الجنوبية. خلاصة: وكخلاصة لهذا الموضوع يمكن القول بأن العهد الجديد بعد هذه الجائحة سيحتم على معظم دول العالم إعادة النظر في مفهوم وإجراءات البحث العلمي واعتباره بالقول والفعل قاطرة للنمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كما سوف يكون إلزاماً عليها مراجعة قوانين وإجراءات أنشطة البحث والتطوير التي يتم إنشاؤها وتنظيمها تحت مظلة أجهزة ومؤسسات صناعية وتسوغ لها سياسات العلوم والتكنولوجيا، لأن ذلك يقلص حجم تلك الأنشطة ويجعل دورها محدودا للغاية، ونتيجة لذلك لا يتم إيلاء الاهتمام الكافي بمخرجات ونتائج البحث العلمي والتطوير في المؤسسات التعليمية العليا. كما يجب التنقيب عن سياسات وقوانين تضبط كل ما يتعلق بالبحث العلمي والموارد المادية الداعمة وتحفيز كل الساهرين على هذا القطاع في كل المجتمعات (وخاصة تلك التي اكتوت بنار هذه الجائحة) وفق المقاييس والمعايير الدولية. وعلى المسئولين عن مشروع إصلاح منظومة التربية والتعليم في كافة البلدان، وفي بلدنا خاصة، أن يأخذوا موضوع البحث العلمي بكل جدية كونه المدخل الرئيسي للتقدم والنمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وعلينا أن نتذكر بأن التجربة العلمية في الدول المتقدمة صناعيا تنظر إلى البحث العلمي والتطوير على أنه، كما يقول الباحث أمجد قاسم، "سلسلة متصلة ومستمرة من العمليات التي تتراوح بين مراقبة الجودة الشاملة بكل أبعادها والخدمات العامة على أدنى حد إلى الدراسات والأبحاث الاستكشافية بالحد الأعلى". وبما أن الواقع يبين جلياً أنه لا مناص من تعلم اللغة الإنجليزية (لغة البحث العلمي)، بحيث أن ما يعادل 80% مما يُنتج من البحوث حالياً هو باللغة الانجليزية، بينما ال20% تتقاسمها باقي دول العالم وبلغات مختلفة بما فيها اللغة العربية والفرنسية وغيرها، لذلك يتوجب علينا النظر في برامج اللغة الانجليزية بمؤسساتنا التعليمية والحرص على مراجعة مناهجها وطرق تدريسها وبمواصفات عالمية، والرفع من وتيرة البحث العلمي وتشجيع العلماء في بلدنا، ففي الإحصائيات غير الرسمية ذات الصلة وُجد أن لكل 10 آلاف مواطن عربي 3,4 علماء، بينما في اليابان لكل 10 آلاف مواطن ياباني 35,4 عالماً، وهذا يعني أن مؤشر ومفهوم العلوم والبحث العلمي لا زال متعثرا في بلادنا ولم يأخذ بعد مساره الصحيح ولم يخرج بعد من النظرة إليه على أنه شيء ترفيهي بدلاً من أن يصبح شيء أساسي في جامعاتنا ومؤسساتنا التربوية والتعليمية. ومن الملاحظ أيضاً أن العالم من حولنا قد خطى خطوات جبارة وسريعة في عالم البحث العلمي والتكنولوجيا وأصبحت الشعوب الشغوفة بهذا القطاع تتسابق نحو النانو تكنولوجيا، والهندسة الوراثية، وعلوم الفضاء، وكيف تستغل الموارد الطبيعة وكيف تُخفف عبء تكاليف الطاقة والحياة عن سكان مدنها وقراها وكيف تُطور طرق التدريس بمدارسها العمومية كي تُخرِّج أجيالاً ذات كفاءات عالية وآفاق فكرية خلاقة قادرة على ولوج البحث العلمي وسوق العمل بكل ثقة، بينما نحن لازلنا نغوص ونضيع جهدنا ووقتنا في مناقشات صاخبة في مواضيع مثل "إلغاء مجانية التعليم العمومي مثلاً"!!!، وكأننا اكتفينا بعدد العلماء والباحثين الكافي لبلدنا، بدلاً من أن ينصب النقاش حول كيفية تطوير وإصلاح هذا القطاع الحيوي وإمكانية تبني مقاربة تشاركية لتمويل الأبحاث العلمية ومكافأة العلماء والباحثين والرفع من مكانتهم. وبما أننا مقبلين على عهد جديد بعد هذه الجائحة، ومقبلين على عهد الانفتاح على القارة السمراء وغيرها، وتتطلع إلينا البلدان العربية الأخرى على أننا البلد العربي القادر على أن يكون قاطرة النمو الفكري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ونموذجاً سياسياً يُحتذى به، فلابد أن نكون على قدر هذا المستوى وتلك التطلعات أيضاً، وقد أبانت الظرفية الحالية على أننا أحوج مما كنا نتصور إلى تطوير البحث العلمي ورد الاعتبار لمؤسسات الدولة وبناء وتجهيز المزيد من المدارس العمومية والمختبرات الحديثة والمستشفيات والمستوصفات (بمقاييس ومعايير دولية) والتي تكون تابعة للدولة وليس للخواص، لأن هذه الجائحة أبانت عن حقيقة ودور مؤسسات الدولة عند مثل هذه النكبات، مع الحرص على تكوين وإعداد الفرد الصالح في هذا المجتمع والعمل على ترسيخ الأخلاق الحميدة والسلوك السوي لدى الأفراد ومن خلال الأسرة أولا ثم من خلال البيئة السليمة النقية، وضمان حقوق المربين والأساتذة والمعلمين والأطباء والممرضين والاهتمام البالغ بكل ما يتعلق برفاهية كافة شرائح المجتمع وضمان سبل العيش الكريم لكل الفئات من أجل العيش والتعايش في طمأنينة وسلم وسلام. سائلين الله سبحانه وتعالى أن يحفظ الجميع،،،، "أكعاون ربي" والله ولي التوفيق،،، *باحث وخبير في مجال التربية والتعليم والثقافة، مستشار Researcher and expert in the field of education and culture, consultant [email protected]