بسم الله الرحمان الرحيم مقدمة: من المقولات المشهورة لدى علماء العربية أن "اللغة فكر" وهي "وعاء له"، وأنها "كل لفظ وضع لمعنى"( 1)، وأنها "عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني"(2 )، وهي "لسان القوم الذي يتعارفون ويتواصلون عبره"؛ فهي إذن "كلام مصطلح عليه بين كل قوم"، وهي "طريق الدلالة على ضبط كلمة لها وجوه متعددة في الاستعمال" وأنها "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"(3 ). وهي عند إمام البلاغيين العرب عبد القاهر الجرجاني (ت:471ه) "عبارة عن نظام من العلاقات والروابط المعنوية التي تستفاد من المفردات والألفاظ اللغوية بعد أن يسند بعضها إلى بعض، ويعلق بعضها ببعض، في تركيب لغوي قائم على أساس الإسناد"( 4). ونظرية "النظم" عند الجرجاني معروفة عند أهل اللغة، فهي لا تقف عند نظم الألفاظ والحروف والأصوات والتراكيب وإنما تهتم بنظم المعاني، يقول موضحا علاقة اللفظ بالمعنى: "إن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها، فإذا وجب لمعنى أن يكون أولا في النفس وجب اللفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق"( 5). ويعرف عبد الرحمان ابن خلدون اللغة بكونها "عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني، ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلا بد أن تكون ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم"(المقدمة ص.487). 1- وقد وردت تعريفات بالمعنى نفسه عند علماء اللغة المحدثين إذ جعلوها "أداة تواصلية واصفة"، وإذا كان ثمة شيء يمكن أن ينوب عنها تحليلا أو تفسيرا من العلامات غير اللغوية، كالرموز والأرقام، فلابد منها لكي يستدل بها عليها ويهتدى بها إلى معانيها ويوصل بواسطتها إلى الدلالات المقصودة منها. وبذلك غدت -على حد تعبير تمام حسان - "منظمة عرفية للرمز إلى نشاط المجتمع تشتمل على عدد من الأنظمة يتألف كل واحد منها من مجموعة من المعاني تقف إزاءها مجموعة من المباني المعبرة عن هذه المعاني، ثم من طائفة من العلاقات التي تربط فيما بينها". فهي من أرقى المؤسسات الاجتماعية لأن بناء المؤسسات الأخرى يتطلب سبق وجودها فيما هي غير محتاجة بالضرورة في وجودها إلى مؤسسات غيرها كما أن العلوم بمختلفها بحاجة إليها لأنها بها توجد وبتطورها تتطور. وتؤكد تعريفات المحدثين على البعد الاجتماعي للظاهرة اللغوية ودورها في دينامية الحركة الفكرية التفاعلية داخل المجتمعات البشرية، وعلى قيمتها في التنشئة الثقافية والإنتاج الفكري والعلمي داخل البيئات الاجتماعية. وهي بهذا "تحدث بصمة مميزة للشخص ولتوجهاته الفكرية وانتمائه الثقافي والاجتماعي، يتجلى ذلك في الألفاظ المستخدمة، والأساليب التعبيرية، والصور التخييلية، والمدلولات والأفكار المعبر عنها"( 6). 1- تاريخ اللغة العربية غني بالإنتاج العلمي: ومن هذه المنطلقات ومن خلال تحديدات القدماء والمحدثين فإن للغة دورا في تشكيل وعي الجماعة وسلوك أفرادها. فهي تصف واقع أهلها وتعكس فكرهم وحضارتهم وتطورهم. وكونها وعاء الفكر فهذا يعني أنها من أشيع الوسائط المعتبرة للأداء الاجتماعي العام. بها يُسجَّلُ إنتاج الأمة، وبها تُدوَّن ثقافَتُها، ومعارفُها وتاريخُها. وباللغة تستطيع الأمة صوْغَ مقوِّمات وخصائص وجودها. و"قوةُ اللغةِ في أمةٍ تعني استمراريةَ هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم لأن غلبةَ اللغةِ بغلبةِ أهلها، ومنزلتَها بين اللغات صورةٌ لمنزلة دولتِها بين الأمم" على حد تعبير ابن خلدون أيضا. وبين اللغة والثقافة والحضارة علاقات ترابطٍ قوية؛ فإذا كانت اللغة أداةَ التعبير الثقافيِّ وسجلَّ الحضارة؛ فإن إنتاجات وتجارب الإنسان الثقافية والحضارية إنَّما تُدوَّن في قوالب تعبيرية ونصوص لغوية حافظة. وتعتبر اللغة العربية أهمَّ خاصية لأمتنا وآكدَ مُقوِّمٍ لاستمراريتها وأوضحَ دليلٍ على وجودنا، كما يرتبط وجود الأمة العربية بوجود هذه اللغة التي تجمع بين أطراف العالم العربي عموما. والملاحظ أنَّ هذا الوطن العربي بدأ يبتعد عن لغته؛ ومعروف - تاريخيا - أن من يبتعد عن لغته إنما يفقد ذاته، وفقدان الذات معناه فقدان كل مقومات المجتمع ومن ثَمَّ خسارة خصائص الأمة. وتشتُّتُ اللغة يعكس تشتُّتَ أهلها، والانفصالُ عنها انفصامٌ للرابط الذي يجمع بين مكونات الأمة، والنتيجة الحتمية هي الاندثار التدريجي للهوية التي تمثلها، والاندحار للحضارة التي سجلت بها. وأسباب الاندحار والاندثار متعاضدة متعاونة بقصد أو من غفلة. إن الناظرَ إلى واقع اللغة العربية في العهود الحديثة يرى بكل وضوح التضييقَ عليها، ومحاولاتِ التشويشِ على صورتها؛ ويتبينُ الدعوات المغرضةَ للقضاء عليها، ومعاولَ الهدم من أجل استئصالها. وكلها ممارسات تُفَسَّرُ بكونها دعوات وأفعالا تضاف إلى المحاولات الاستعمارية الساعية إلى محو أهم خاصيات الأمة والتخطيط لإضعافها، بل ولِمَ مَحقِ وجودها إن وُجِدَ إلى ذلك سبيلٌ؟؟ وعلى الرغم من برامج التضييق ووسائل التشويش وتنوع معاول الهدم، ما تزال اللغة العربية تحيا عزيزةً محبوبةً مرغوبةً وإن لم يكن ذلك بالدرجة التي كانت عليها في ماضيها ولا بالقدر الذي يجب أن يكون عليه حاضرها. يقول أبو حاتم الرازي رحمه الله (ت 322ه) واصفا عز اللغة العربية ورغبة الأمم في الإقبال عليها: "لم يحرص الناس على تعلم شيء من اللغات في دهر من الدهور، ولا في وقت من الأوقات؛ كحرصهم على تعلم لغة العرب... ولا رغبوا في شيء من القرون والأزمنة رغبة هذه الأمة في لسان العرب من بين الألسنة، حتى إن جميع الأمم فيها راغبون، وعليها مقبلون، ولها بالفضل مقرون، وبفصاحتها معترفون... وأقبلت الأمم كلها إليها، يتعلمونها؛ رغبة فيها، وحرصا عليها، ومحبة لها". ومن جهة البحث العلمي والإنتاج والإبداع باللغة العربية فإننا نجد عددا كبيرا من أئمة الإسلام هم أعاجم برزوا في علوم عربية عدة، ومنها علوم العربية ذاتها من أمثال سيبويه الفارسي (ت180 ه)، وأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت223 ه)، وابن قتيبة الدينوري (ت276 ه)، وأبي إبراهيم إسحاق الفارابي (350 ه)، وأبي علي القالي الأرميني (356 ه)، وأبي سعيد السيرافي (368 ه)، وأبي منصور الأزهري الهروي (370 ه )، وأبي علي الفارسي (ت 377 ه)، وابن جني الرومي (392 ه)، وأبي نصر الجوهري الفارابي (ت 393 ه)، وابن فارس الرازي (ت 395 ه)، وأبي منصور الثعالبي النيسابوري (ت429ه)، وابن سيدة الأندلسي (458ه)، وعبد القاهر الجرجاني (ت471ه)، والراغب الأصفهاني (ت502ه)، والزمخشري (ت538ه)، والرضي الإسترابادي (ت686ه) وأبي حيان الأندلسي (ت745ه) والخطيب القزويني (ت739 ه) ومجد الدين الفيروزابادي الشيرازي (817ه) وغيرهم كثير. وعن هذا العز اللغوي للأمة العربية يقول أبو الحسن الندوي الهندي رحمه الله في كتابه ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين "خضعت للغتهم اللغات، ولثقافتهم الثقافات، ولحضارتهم الحضارات، فكانت لغتهم هي لغة العلم والتأليف في العالم المتمدن من أقصاه إلى أقصاه، وهي اللغة المقدسة الحبيبة التي يوثرها الناس على لغاتهم التي نشأوا عليها، ويؤلفون فيها أعظم مؤلفاتهم وأحب مؤلفاتهم، ويتقنونها كأبناء أهلها وأحسن، وينبغ فيها أدباء ومؤلفون يخضع لهم المثقفون في العالم العربي، ويقر بفضلهم وإمامتهم أدباءُ العرب ونقادُهم"( 7). ولم تكن العربية أداة العلوم اللغوية فحسب بل أَنْتَجَ بها علماءٌ كبار في عدد من التخصصات العلمية وأبدعوا بها وخلَّفوا مؤلفات شاهدةً على إنتاجاتهم وإبداعاتهم. وقد سجل كل من الدكتور محمد فارس في "موسوعة علماء العرب والمسلمين"( 8) أبرز هؤلاء العلماء وأرخ لأفكارهم ونظرياتهم في مختلف العلوم الرياضية والطبية والكيميائية والفلكية وصناعية الأدوية. والدكتور عبد السلام السيد في "موسوعة علماء العرب"(9 ) الذي أرخ لأشهر علماء العرب وإنتاجاتهم في الطب والصيدلة والرياضيات والفلك والتاريخ والجغرافيا والفيزياء والكمياء. ولازالت أسماؤهم مخلدة في ذاكرة الأمة بسبب إنتاجاتهم ومجهوداتهم في مختلف العلوم. فَمَنْ مِنَّا لا يذكر ابن سينا البخاري والبيروني والزهراوي الأندلسي وابن النفيس الدمشقي وأبو القاسم الأنطاكي وأبو الخير الإشبيلي الشجار وأبو بكر الرازي والشريف الإدريسي المراكشي والخوارزمي العراقي وابن الهيثم البصري؛ وقد صنفت فيهم المصنفات، وألفت بسببهم الموسوعات وأنجزت عنهم دراسات وأبحاث في الشرق والغرب. ولمعرفة دور اللغة العربية في تاريخ العلوم يمكن الرجوع إلى كتاب قيم بعنوان " اللغة العربية ودورها في التاريخ" المنشور سنة 1969 في جامعة منيسوتا: The Arabic Language, Its Role in History( 10). 2- أثر الاستعمار على تراجع اللغة العربية واندحار البحث العلمي المنتج بالعربية: لكن بدخول الاستعمار البلاد العربية والإسلامية تغيرت الصورة حيث لم يَكْتَفِ بتقويض المفهوم الجغرافي للأمة وإنما قَصَدَ تقويض أهمِّ مقومٍ من مقوماتها وهو اللغة انطلاقا من فرض لغاته على الدول التي استعمرها. ومن أهم مجالات التدخل العميق للمستعمر لحصر امتداد اللغة العربية والانتفاع بها، أن عمل على إقصائها من أنظمة التعليم في البلاد المستعمرة. ولننظر الصورة بكاملها في كل من بلاد الغرب الإسلامي وبلاد الشرق العربي والإسلامي؛ فقد فُرِضَتْ لغاتُ المستعمر في التعليم فرضا شَمَلَ جُلَّ التخصصات، وبخاصة ما يتعلق بعلوم الطبيعة والطب والهندسة والرياضيات والفيزياء والكيمياء والزراعة وصناعة الأدوية. ومن أجل ذلك سارعت السياسات الاستعمارية منذ البدايات إلى سياسة عَصْرَنة النظام التعليمي بإنشاء أنواع من المدارس تُؤْثِرُ لغاتِه على حساب اللغة الرسمية والأصلية لأبناء الشعوب. ومن طبيعة المدارس والمؤسسات التي أنشأها الاستعمار وكيفية عملها نلحظ التفريق الطبقي في النظام التعليمي عامة، وهو التفريق الذي عمق الهوة بين مكونات العنصر البشري للمجتمعات العربية؛ إذ أصبح في عدد من الدول لكل طبقة أو فئة مدارسها وبرامجها ونظامها التعليمي!؟( 11) صحيح أنَّ الوضع تغير بعد الاستقلال بدرجات متفاوتة من دولة إلى أخرى لكن تدريس العلوم والبحث العلمي بقي مرتبطا بلغات المستعمر إلى يومنا هذا. تُرِكتْ بعض المواد تدرَّس باللغة العربية مثل التربية الإسلامية، والأخلاقية، وقواعد اللغة العربية، وما يتصل بنصوص الأدب. وهو ما سيخلق لدى المتعلمين العرب إطارا مرجعيا، ينظرون من خلاله إلى كل لغة على حدة: لغة علوم وبحث ومستقبل، ولغة أدب وتربية وأخلاق. لغة تسمح باكتساب المعرفة الإنسانية العلمية، وتسمح بالانفتاح على العالم الخارجي، ولغة أخرى لا تسمح بالتعامل إلا مع الأدب والشعر والحكايات والأساطير. وهي النظرة ذاتها التي لا يزال ينظر بها كثير من الناس مسؤولين وغير مسؤولين لأنهم رُبُّوا عليها. ولم يتغير وضع اللغة العربية كثيرا في أنظمة التحديث المعاصرة رغم مرور ما يناهز السبعين سنة عن رحيل الاستعمار؛ لأن العجمة سبقت إلى ألسنة العرب "وإذا سبقت العجمة إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن اللسان العربي" (المقدمة ص.485). 3- اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي الجامعي: يمكن أن ننظر إلى اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي الجامعي في الوطن العربي من مستويات عدة: المستوى الأول: مستوى الدساتير على مستوى الدساتير المنظمة للبلدان العربية تعتبر اللغة العربية هي اللغة الرسمية. ولكن دستورية اللغة العربية غير محترمة في سائر هذه البلدان. وهنا المفارقة العجيبة بين دساتير البلاد وقوانين العباد إذ يُلْجأُ إلى عملية الغشاوة فيحتج لدى المحتجين بفصول الدستور المُسجِّلة لرسمية اللغة العربية محاباة وتملقا أو خوفا وتشدقا، ويفتح الباب على مصراعيه لممارسة اللغات الأجنبية وجوباً وضرورةً أو انسلاخاً ومسخاً. والجدير بالذكر أن مسألة الرسمية من جملة ما تعنيه أن تمارس العربية في كل المجالات، وأن يتم التعامل بها في التعليم والإعلام والإدارات والبحث العلمي، وأن تحترم البنود المرتبطة بدستورية اللغة العربية كما تحترم باقي مواد الدستور المنظم للبلاد. المستوى الثاني: مستوى الإعلام وهنا أيضا نجد التنصيص على أن اللغة العربية هي لغة الصحافة والإعلام المسموع والمرئي والمكتوب، لكن قُوِّضت هذه القاعدة المهمة بظهور توجهات وتيارات تدعو إلى استعمال العاميات والدوارج في الإنتاج الإعلامي المرئي والمكتوب، فظهرت بعض الصحف والأفلام والبرامج تعتمد الدوارج والعاميات بديلا عن الفصحى. والإشكال الذي يمكن أن نناقشه هنا - من جملة إشكالات عدة- هو مسألة القدرة على القراءة حيث يعتذر من يقدم هذه البرامج بحجة تفشي الأمية؛ لكن الذي لا يقرأ الفصحى لا يقرأ الدارجة، وبناء عليه ما الحاجة إلى لغة صحفية دارجة أو عامية إذا كان الأمر يتعلق فقط بالقدرة على فك رموز الكتابة؟ الحقيقة أن هذه التبريرات تعتبر مشوشات تغطي وتغيب مشوشات أخرى أكثر خطورة تتعلق بمستوى المضمون الفكري والمحتوى المعرفي الذي يقدمه هذا النمط من الصحف والبرامج المرئية والمسموعة التي يحق لنا نعتها بكونها "وسائل تلوث لغوي" الذي يعتبر من أسباب انعدام "الأمن اللغوي". وما من شك أن انعدام الأمن اللغوي له انعكاسات مؤلمة على الأمن الاجتماعي إن عاجلا أو آجلا، وللإعلام مسؤولية كبرى في انتشار التلوث اللغوي وفي التشويش على الأمن اللغوي في بلدان الوطن العربي عامة. المستوى الثالث: مستوى التعليم والتربية والتكوين فعلى الرغم من كون الأنظمة التعليمية العربية تحفظ للغة العربية مكانتها في حقل التعليم والتربية والتكوين بكافة فروعه فإننا نلحظ تدنيا مريبا على مستوى استعمال اللغة العربية في المؤسسات التعليمية وبيئات التربية والتكوين عموما. ولا يقتصر أمر الإهمال أو الإقصاء على العمل الإداري والتعامل اليومي داخل هذه المنشآت بل الأخطر من ذلك أنه تسرب إلى داخل صفوف الدراسة وأصبحت فئة من المدرسين غير قليلة تستعمل الدوارج والعاميات في تلقين العلوم والمعارف نسيانا للملكة، و"الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تُنوسِي الفعلُ تُنُوسِيت الملكة الناشئة عنه"(المقدمة ص.476). وشيء محزن ومضحك في آن أنَّ علوم العربية ذاتَها تلقنُ عند هذه الفئة بالدوارج والعاميات!! وبالموازاة مع هذا ترتفع دعوات المطالبة بالإصلاح! وإصلاح الإصلاح! وكيف يمكن للمفسد إصلاح ما يجهل؟! وأخطر ظاهرة مغرضة مُلْتَبِسة ومُتَلَبِّسة بدأنا نشاهدها اليوم خروج البعض من أبناء جلدتنا ممن ينتسبون إلى أمتنا ويتكلمون بألسنتنا عن صمته وإشهار خنجره في ظهر الأمة ومحاولة قطع حبل الوريد الرابط بين أطرافها والتَّعالُم على علمائها من خلال المطالبة بتدريج وتعمية التعليم في أطواره الأولى. وأي خطر أكبر على الأمة من هذا إذا لجأت بلدان الوطن العربي إلى تعليم لهجاتها ودوارجها وعامياتها وتركت اللغة العربية جانبا؟ أليس هذا قطع لحبل الوريد؟ أليس هذا اغتيال وجريمة في حق اللغة وحق الأمة وحق الحضارة؟ ألا يتطلب الأمر من العلماء رفع الصوت والجهر بمنع حدوث الجريمة، و"لن يرتفع صوت الباطل إلا إذا سكت أهل الحق". وتتحدث الدكتورة محيا زيتون عن إشكالية اللغة الأجنبية كوسيط للتدريس وتداعياتها باعتبارها "آلية يتم من خلالها تجزئة أنظمة التعليم العربية وخلق التباينات داخلها...لتتخذ شكل تمييز لصالح فئة من الخريجين تعلموا بغير لغتهم، وضد فئة أخرى تعلمت بلغتها الأم!". وفي إطار التنبيه على تداعيات الاعتماد على الوسيط اللغوي الأجنبي في مجال التعليم تحذر الدكتورة زيتون تكوين جيل لا يحترم ثقافته ويتنكر لهويته معللة ذلك بكوننا "وإذا علمنا أن اللغة الأم في أي مجتمع ليست مجرد أداة للتواصل، ولكنها ترمز إيضا إلى احترام الناس الذين يتحدثون بهذه اللغة، واحترام ثقافتهم وحقهم في الاندماج الكامل في المجتمع، فإن الفشل في جعل اللغة العربية لغة التدريس الأساسية في المدارس ومؤسسات التعليم العالي في بلدان الخليج والبلدان العربية بعامة، قد ينطوي على أن يفقد الشباب العربي هويته واحترامه للغته وثقافته"( 12). المستوى الرابع: مستوى البحث العلمي والإبداع والابتكار لا تستعمل اللغة العربية في مجال البحث العلمي إلا في إنجاز الأبحاث الخاصة بالعلوم الشرعية وبعض حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهي مغيبة عن مجالات البحث العلمي والتقني بكل فروعه. فلا حضور لها إلا في بعض شعب وأقسام كليات الآداب والعلوم الإنسانية والقانونية والاجتماعية، فهي حاضرة وإن بدرجات متفاوتة في شعب اللغة العربية والدراسات الإسلامية والشريعة وأصول الدين والاجتماع والقانون العام ومعاهد القضاء، وتستخدم بنسب متفاوتة أيضا في بعض أقسام الإعلام والاتصال ومعاهد الترجمة وتكوين الإداريين. أما باقي الكليات والمعاهد والمدارس العليا الجوية والبحرية والزراعية والهندسية والغابوية والطبية والصيدلية والطاقية والمعدنية والمقاولاتية والصناعية والسياحية والاقتصادية وحتى البيطرية والرياضية فهي كلها تعتمد اللغات الأجنبية لغة للتكوين وممارسةِ البحث العلمي والإنتاج الإبداعي والتقني. والعربية لا تكاد تذكر في جل هذه المؤسسات إلا باعتبارها لغة تكميلية ثانوية تدخل ضمن ما يسمى بالثقافة العامة أو الثقافة المجتمعية، ولا حضور لها البتة ضمن أوصاف دفاتر التحملات لمسالك التكوين ومشاريع البحث العلمي التي يتم اعتمادها من لدن الهيئات المختصة على صعيد الجامعات أو على صعيد الوزارات ذات الصلة. وإذا كانت المعرفة بالأسباب مجلية للنتائج ومحفزة لتجاوز العقبات وميسرة لصياغة السياسات اللغوية وتطوير نظم البحث العلمي وتطبيق مخرجاته وتوطين نتائجه وتمكين الباحثين من هذه النظم والتطبيقات والنتائج فإنني أود حصر أسباب تغييب اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي الجامعي في المحور الآتي: 4- أسباب تغييب اللغة العربية عن ممارسة البحث العلمي الجامعي في الوطن العربي نستطيع هنا تلخيص أهم أسباب غياب اللغة العربية في البحث العلمي بالوطن العربي على النحو الآتي: السبب الأول: ضعف القناعة والثقة في الباحثين ومؤسسات البحث العلمي الجامعي مع ضعف التخطيط والاستراتيجيات وقلة التنظيم وهزالة تمويل مشروعات البحث العلمي نلحظ تطورا مقبولا في عدد البحوث المنجزة في كل المجالات العلمية على صعيد الوطن العربي بدرجات متفاوتة من بلد لآخر، وزيادةً لابأس بها في عدد طلاب الدراسات العليا. وهي معطيات ناتجة عما بدأت به بعض الحكومات من توفير لدعم مقبول لبعض مؤسسات البحث العلمي الجامعي تشجيعا للباحثين وتحفيزا لهم معنويا وماديا. ويجب أن نعترف أنَّ مؤشراتٍ واضحةً، هنا وهناك، تبين توجه السياسات التعليمية في الوطن العربي لتطوير البحث العلمي الجامعي ومحاولة إيجاد بيئة مناسبة للبحث والإنتاج من خلال سعي كثير من الدول العربية إلى توفير فرص لتمويل البحث العلمي وتعزيز دور الجامعات في التنمية المجتمعية. وفي المقابل فإن الحاجة لازالت ملحة لاستراتيجيات التخطيط والتنظيم؛ وأقصد بذلك تنظيم هياكل ومختبرات ومحاضن البحث العلمي الجامعي في الوطن العربي. فغياب التخطيط لمشروعات البحث العلمي وانعدام التنظيم لمراكزه ومعاهده ومنشآته له انعكاسات سلبية على الإنتاجية والجودة. وتواجهنا هنا معضلة لا تكاد ترتفع ألا وهي مدى الاهتمام باستخدام اللغة العربية في المختبرات ومحاضن البحث العلمي وإنتاجات الباحثين والدارسين في الجامعات العربية؟ وهي معضلة مرتبطة بالسبب الذي قدمنا والمتمثل في ضعف القناعة بكفاءة اللغة العربية في التعبير من جهة، وفي ضعف الثقة في مؤسسات البحث العلمي بجامعات الوطن العربي مما كان له الأثر السيء على المنتوج العلمي للباحثين في هذه الجامعات. وكما يعرف الجميع فإن هذا السبب واهٍ تابع للسبب الذي فرضه التاريخ الاستعماري. ولتجاوزه تتوزع المسؤوليات بين الباحثين وأصحاب القرار والمؤسسات الاقتصادية بحيث يعمل كل طرف على تجاوز هذا العائق من خلال: 1- اعتراف أصحاب القرار بقيمة البحث العلمي الذي ينتج في الجامعات العربية عموما، والاعتراف على وجه الخصوص بالبحث العلمي المنتج باللغة العربية لما له من أثر بالغ في تقوية مكانة اللغة العربية عند أهلها أولا وتوسيع دائرة استخدامها في المحافل الدولية ذات الصلة بالبحث العلمي ثانيا. 2- إقناع مؤسسات البحث العلمي الجامعي للقيام بأبحاث علمية باللغة العربية لربط رسالة الجامعات في الوطن العربي البحثية والعلمية بالمتطلبات الاقتصادية والاجتماعية وإسهامها العميق والمؤثر في التنمية البشرية وبناء الحضارة. 3- نشر ثقافة البحث العلمي باللغة العربية في الأوساط العلمية الجامعية لما في ذلك من تنشيط لحركة البحث العلمي، وتداول نتائج الأبحاث بين الباحثين الشباب، ونشر مخرجاته باللغة العربية بين الأوساط الاجتماعية المثقفة والمشتغلة بمجالات البحث العلمي المتنوعة. 4- استعادة ثقة المؤسسات الاقتصادية المنتجة في الباحث الجامعي، وفي قيمة نتائج الأبحاث التي ينجزها باللغة العربية، ومن ثم ثقتها في اللغة العربية وكفاءتها في البحث والتطوير والابتكار، ودورها في تحسين المستوى الاقتصادي للمجتمع العربي والرفع من جودته. السبب الثاني: عدم وفرة المصطلح العلمي العربي وقلة المراجع العلمية المكتوبة بالعربية على الرغم من وجود مكتب لتنسيق التعريب بالرباط يقوم بتوحيد المصطلحات العلمية المعربة على مستوى الوطن العربي فإنه لمَّا يتوصل إلى ترسيخ المصطلحات العلمية العربية وممارستها وتوظيفها في الأبحاث والدراسات وفَرْضِ اعتمادها في نتائج الأعمال البحثية المتطورة. والبحث العلمي والإنتاج والإبداع بأدوات لغوية عربية، مفاهيم ومصطلحات، له أثر بالغ في تقوية مكانة اللغة عند أهلها وعند غيرهم، وبذلك تصبح منزلتها صورة لمنزلتهم. وغياب المصطلح العلمي العربي يحول دون الباحثين الشباب والمختبرات البحثية لإنتاج أعمالهم باللغة العربية ناهيك عن ندرة المراجع العلمية المكتوبة باللغة العربية، وعليه فلن تكون طريق الدلالة على المعاني ولا وعاء للفكر لدى الفئة القليلة المنشغلة بالبحث العلمي؛ لأنها ليست ملكة مقررة في ألسنتهم. كما أن جل الأعمال العلمية التي ينتجها باحثون عرب بلغات أخرى موضوعة في رفوف مكتبات أجنبية أو وطنية لم تستطع أن تجد سبيلها إلى الباحثين الشباب في الجامعات العربية؛ نظرا لغياب استراتيجية عربية لتوطين المصطلح العلمي العربي من جهة، ولغياب التنسيق ومد الجسور بين جامعات الوطن العربي. وأعتقد أن الاشتغال على توفير المصطلحات والمراجع العلمية العربية من الأولويات التي يجب أن يتنبه إليها المهتمون وفي مقدمتهم الباحثون الجامعيون في الوطن العربي خصوصا وأن مسألة التنسيق قد أصبحت متيسرة بفعل تسهيل التكنولوجيا الحديثة الربط والاتصال ومد جسور التواصل. السبب الثالث: انعدام بيئة البحث العلمي يؤدي إلى اغتراب العلماء والباحثين العرب السببان السابقان كفيلان بجعل بيئة البحث العلمي الجامعي في الوطن العربي غير محفزة ولربما تضايق أصحاب الهمم ففضل كثير منهم الاغتراب بحثا عن "بيئات علمية" تضع العلم والبحث العلمي ضمن القيم وفي سلم الأولويات مما يضمن سيادة التفكير العلمي ويغري بالإنتاج والإبداع. وما من أحد يستطيع نكران الخسارة الكبيرة للوطن العربي جراء اغتراب العلماء والباحثين إلا أولئك الذين يستفيدون من العيش بهناء بين العامة الضعفاء -مع تقديري للعامة الضعفاء- المستغَلَّين من قبل فئة لا ترغب في نور العلماء، وتخاف من طلوع شمس المعرفة. وهنا ندعو إلى ضرورة تطوير سياسة مجتمعية توطينا للعلم والمعرفة التقنية وتشجيعا للإبداع وتحقيقا للأمن القومي وتطويرا لبيئات علمية مجتمعية متنوعة وهو ما لا يمكن أن يتم إلا بتنظيم الإطار المؤسسي للباحثين (مثل أكاديميات العلوم على مستوى الوطن العربي) لتمكين الباحثين الوطنيين من الإسهام في صياغة المشروع النهضوي للأمة وإعطاء الفرصة "للمجتمع العلمي" من تصويب السياسات العامة للبحث العلمي من أجل استنبات مجتمع علمي وبناء حضارة قائمة على العلم والمعرفية. 5- ما العمل إذن؟ بعد ذكر أهم أسباب ضمور البحث العلمي في الوطن العربي واندحار اللغة العربية في الإنتاج العلمي الجامعي ثمة عدة أسئلة تطرح إزاء هذا الوضع وهي: 1- هل يحق لنا أن نتحدث عن حماية اللغة العربية والدفاع عنها لاستعمالها في الحياة والإدارات والمعاملات وهي مغيبة بشكل شبه تام في التعليم الجامعي في الوطن العربي، ولم تعد أداة تواصلية واصفة، واستغني عنها بغيرها من أجل الأداء الاجتماعي العام، وأصبحت اللغات الأجنبية، عوضاً عن اللغة العربية، منظمةً عرفيةً بها يُرْمز إلى نشاط أبناء مجتمعاتنا؟ 2- هل يحق لنا وللمسؤولين ولأولياء الأمور أن نستهجن التدني اللغوي لدى المتعلمين بعد أن لم تعد اللغة العربية لسان أقوامنا الذي به يتعارفون ويتواصلون؟ 3- هل يحق لنا أن نمتعض من سيادة العي اللغوي لدى الخريجين، ونستنكر تراجع المستوى اللغوي في الأبحاث والدراسات التي تقدم لنيل الشهادات العليا بعد أن لم تعد العربية العبارةَ المفضلةَ عن مقاصدهم، وبعد أن صارت تلك العبارةُ أفعالَ ألسنةٍ غير ألسنتهم، وبعد أن تغير القصد في إقامة كلامهم، ولم تترسخ ملكةً مقررةً في لسانهم، بل وقد تعجَّمت اصطلاحاتهم وتغرَّبت مفاهيمهم. 4- هل يحق لنا أن ندافع عنها ضد معاول الهدم وضد مخططات الاجتثاث، المعلنة منها والخفية، الساعية إلى تغييبها عن حقل البحث العلمي والمعرفي بعد أن تراجعت قوة اللغة في مثقفي أمتنا، وبعد أن تسرب إلى عقول مفكرينا أن غلبة اللغات الوافدة بغلبة أهلها، ومنزلة لغتنا صورة لمنزلة دولنا بين الأمم؟ إن دعوات الحماية للغة العربية وقوى الدفاع عنها ومخططات العناية بها وتوطينها بين أهلها أولا ثم تقديمها للغير ثانيا يجب أن تضع ضمن برامجها ركائز التوطين وأسس التمكين الآتية: الأساس الأول: الأخذ في الاعتبار أن اللغة أداة تواصلية واصفة وملكة مقررة في اللسان ومعناه أن تصبح اللغة العربية لسان أقوامها في الحياة العامة وفي جل أنشطتهم المجتمعية مؤسسات وإدارات ومعاملات تنظيراً وتعليماً وإعلاما وبحثا وإبداعا واستخداما وتوثيقا. ولن تكون كذلك إلا بجهد جماعي منظم يفضي إلى تركيزها لدى الأجيال انطلاقا من البيوت إلى مؤسسات التربية والتعليم والتكوين للتمكن منها وتوظيفها في مجالات الإنتاج الإعلامي وممارستها في الحياة الثقافية والإبداعية. ذلك أن حركة التفكير لدى الإنسان ترتبط أشد الارتباط باللغة الوظيفية تفاعلا وتوظيفا حيث ترمز مفرداتها ومصطلحاتها إلى فكر محدد والمصطلح العلمي يتضمن الفكرة المنعكسة في الذهن أي أنها عبارة عن صورة ذهنية تتحول إلى فعل إنجازي عبر الوسيط المصطلحي. تتفاعل هذه التمثلات والصور الذهنية في داخل الباحث فتولد لديه أفكارا تتحول إلى أفعال تنعكس في محتلف تجاربه في الحياة. وهكذا فاللغة لا تقوم بالوصف فحسب بل تصبح قدرة تفكيرية وملكة تعبيرية وفعلا إنجازيا وإنتاجيا. ومن طبيعة الأدوات والملكات والقدرات أن تطور وتنمى بفعل الإعمال وتفادي الإهمال يقول ابن خلدون "اللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من المعاني، يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة وبالمناظرة والتعليم وممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكاتها بطول المران على ذلك"(المقدمة ص485). الأساس الثاني: الإيمان بأن قوة اللغة من قوة أهلها ومنزلتها صورة لمنزلتهم: إذا أخذنا في الاعتبار أن اللغة أداة للفكر ووعاء له، وأنها مكنز الألفاظ الموضوعة للمعاني يصطلح بها عليها، فعلينا أن ندرك مدى خطورة اتساع الفجوة التي تفصل حاليا بين لغتنا العربية وممارستها في مجالات البحث العلمي وقطاعات الإنتاج الحضاري. ولهذه الفجوة جملة أسباب يأتي في مقدمتها تدني الإحساس بالانتماء وقلة الشعور بالهوية ثم تنامي ضعف الثقة بكفاية اللغة العربية الفصحى في التعبير العلمي والبحث والإبداع. وأنا لا أتحدث هنا عن التوجهات المغرضة ولا أهتم بمعاول الهدم وفلول الاستشراق والتضليل، بقدر ما أتحدث عن أهل اللغة ذاتهم من باحثين ومثقفين وعلماء ومؤسسات مجتمعية مواطنة وفاعلة وجمعيات مدافعة وحامية. والحديث عن قوة اللغة من قوة أهلها ومنزلتها صورة لمنزلة أهلها يقودنا إلى الدعوة بإلحاح للتفكير بجدية في مشروع نهضوي لغوي عربي مدروس ومنظم يحفظ رسالة الجامعة في اشتغالها بالعلم والبحث إلى جانب واجبها التعليمي؛ وأن تصبح الجامعات في الوطن العربي فضاء حقيقيا لإنتاج البحث العلمي باللغة العربية وصناعة المعرفة اعتمادا عليها. ومن أولويات هذا المشروع النهضوي اللغوي المواءمة بين البحث النظري الأساسي والبحث التطبيقي العملي مما من شأنه تقوية العلاقة بين العلم والتنمية؛ وهو المشروع الذي يمكن أن يقنع علماءنا بعدم الاغتراب ويرشد متعلمينا وباحثينا إلى إنجاز أبحاث علمية في بيئة عربية وبلغة عربية -تجنبا لغلبة الغالب، وتلافيا للمشاركة في الاغتيال- وقد وضح ابن خلدون في الفصل الثالث و العشرين أن المغلوب مولع أبدا ً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته و سائر أحواله و عوائده. وتؤكد محيا زيتون بخصوص هذه النقطة على ضرورة "استعادة دور اللغة العربية كعامل محفز على التعاون العربي" حيث تدعو إلى "تصحيح الأوضاع" من خلال وضع "خطط للتعليم في الأقطار العربية تضع كأولوية متقدمة التمكن من إجادة اللغة العربية، ... وأن تكون هي الوسيط الرئيسي للتدريس في المدارس ومؤسسات التعليم العالي"( 13). الأساس الثالث: تفادي وقوع الجريمة الحضارية المتمثلة في اغتيال اللغة العربية وأعتقد أنه يمكن تفادي حدوث هذه الجريمة وعدم المشاركة في الاغتيال من خلال المبادرة إلى إنجاز مشروع عربي لغوي علمي يوطن للغة العربية في مجال البحث العلمي. والمشروع الذي نتحدث عنه هنا يروم أولا وضع خطة استراتيجية للربط بين جامعات العالم العربي والباحثين العرب وتقوية الروابط العلمية من خلال تحفيز البحث العلمي باللغة العربية وإنشاء مكنز لغوي مصطلحي يجمع جهود العلماء في العالم العربي وتفعيل دور ومهام مكتب تنسيق التعريب أو تطويره ليصبح مؤسسة علمية عربية مشتركة تركز على إنتاج البحث العلمي باللغة العربية، وتوضع استراتيجية علمية تروم احتضان العلماء والأكاديميين من أجل إنتاج العلم والمعرفة باللغة العربية. ويضاف إلى هذا المجامع العلمية العربية. فهي أيضا مدعوة لإعادة النظر في مهامها ووظائفها وأصل وجودها. فالغرض الأساس هو التعاون وبذل الجهد الحقيقي والفعال لخدمة اللغة العربية عن طريق البحث فيها وبها. وفي هذا أحسن سبيل لبناء الأمة العالمة وتأسيس المجتمع العلمي العربي. إن الأمة العالمة أو المجتمع العلمي هو من يجب أن يتولى عملية التنوير والاستبصار وتوحيد الرؤية من خلال توطين العقل والبصر والبصيرة في الخطاب العربي( 14). وهذا معناه أن المجتمعات العربية مدعوة إلى وعي الدور الهام للغة في مجال العلم والبحث من أجل الإنتاج الاقتصادي المعرفي كما أن العلماء والباحثين مدعوون هم أيضا إلى توضيح كيفية تفاعل العلم والبحث وأثرهما في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتأكيد على أهمية اللغة العربية لتطوير الوطن العربي والحفاظ على أمنه اللغوي والثقافي. الأساس الرابع: الحاجة إلى أئمة الأمة في العلم والمعرفة وأمتنا اليوم تحتاج إلى أئمة في العلم والمعرفة. ولا يخفى ما لأئمة العلم والمعرفة من أثر بارز في قوة الأمة ونهضتها وازدهارها. والمشروع النهضوي للغة العربية والبحث العلمي الجامعي في الوطن العربي هو سبيل من أجل النهوض بالعلم وإحياء الأمة العالمة اكتفاء بالذات واستغناء عن الآخرين. وإذا كانت الإمامة في العلم تأتي من تكوين أئمة في العلم فإن موطن التكوين والإنتاج يجب أن يبدأ من البيت العربي، وذلك بتهيئة البيئة المناسبة للبحث العلمي على صعيد الجامعات العربية سعيا لإنتاج أئمة العلم والمعرفة. يجب دفع ومحاربة موانع حصول الأمة على أئمة العلم والمعرفة؛ لأن الإمامة في العلم تنشئة تظهر آثارها في الرفاه والازدهار والقوة والغلبة. ولعل من أهم أسس إيجاد أئمة العلمي في الوطن العربي البدء بغرس الثقافة العلمية باللغة العربية في المجتمع إبعادا للأمية العلمية وتحسينا للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين. يعلق شوقي جلال عن التنشئة الثقافية للعلم حيث يقول "حري بنا أن ندرك أن ثقافة العلم لا تنشأ ولا تسود لتمثل مناخا عاما إلا في مجتمع منتج للعلم، هو وطن العلم، ومن ثم تكون ثقافة العلم عامل دعم وحفز نحو المزيد، .... المزيد من الإنجاز والمزيد من الاستمتاع بالحياة من حيث الفهم لظواهر الحياة والفهم لقواعد إدارة الحياة"( 15). إن تفادي حدوث الجريمة في اغتيال اللغة العربية وفتح الأبواب أمام البحث العلمي الجامعي في الوطن العربي يعيد للأمة قوتها ويجعلها تعيش معنى وجودها. ومراكز ومحاضن البحث العلمي بالجامعات هي رافعة التنمية المجتمعية إذا وظفت رسالتها التوظيف الجيد والمنظم. يعلق الأستاذان زرزار العياشي وبوعطيط سفيان من جامعة سكيكدةبالجزائر على غياب البعد الاستراتيجي للبحث العلمي الجامعي في الوطن العربي قائلا "على الرغم من اقتناع الجامعات بأهمية نتائج البحث العلمي المنجز في مراكز البحث في المختبرات الجامعية، ودور ذلك في الابتكارات التكنولوجية، فإنه ليس هناك استراتيجيا فاعلة للبحث العلمي، أو سياسة بحثية لربط جهود الجامعات في مجال البحث العلمي بالمتطلبات الاقتصادية والاجتماعية"( 16). والأخذ بهذه الأسس العملية من شأنه أن يمنع حدوث الجريمة أولا، وأن يغير من واقع البحث العلمي الجامعي في الوطن العربي ثانيا وأن يساعد في استئصال التخلف من خلال تكوين نواة للتنمية المؤسسة على اللغة العربية وعلى إنتاجات أئمة العلم والمعرفة(17 ) من أجل إيجاد قوة علمية معرفية تثبت جودة البحث في خدمة المجتمع وتعيد الثقة في العلاقة بين محاضن البحث العلمي الجامعي والمؤسسات الاقتصادية أخذا في الاعتبار الأهداف والتوجهات الراهنة والمستقبلية لبناء المجتمعات العربية وتطويرها. *أستاذ اللسانيات التطبيقية وعضو هيئة التدريس بالمعهد (نص محاضرة نظمها معهد اللغة العربية للناطقين بغيرها بجامعة الملك عبد العزيز) المراجع - أبو الفتح ، عثمان بن جني الخصائص طبعة 2006 عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع. - الأسنوي، جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن "منهاج الأصول" انظر المجلد الأول "في اللغات" ص12، شرحه القاضي البيضاوي تحت عنوان "نهاية السؤل في شرح منهاج الأصول". - ابن الحاجب، جمال الدين عثمان بن عمر بن أبي بكر مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل، دراسة وتحقيق وتعليق نذير حمادو جامعة سطيفالجزائر، دار ابن حزم 2006، فصل مبادئ اللغة، ص220 - ابن خلدون، عبد الرحمان محمد " كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر: المعروف بالمقدمة. - تريفيل، جيمس (2008)Why Science? ترجمة شوقي جلال "لماذا العلم؟" (2010) عالم المعرفة ع. 372. - الجرجاني عبد القاهر دلائل الإعجاز تحقيق وتعليق محمود محمد شاكر انظر الصفحات 44-48 - الحارثي، فهد العرابي (2010 - 1431) المعرفة قوة.. والحرية أيضا! الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروتلبنان. - الربان، موزة بنت محمد (2013) البحوث العلمية العربية في النصف الأول من 2013، منظمة المجتمع العلمي العربي. - رشدي راشد (1998) موسوعة تاريخ العلوم العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ترجمه من الإنجليزية فريق الدراسة والبحث في التراث العلمي العربي. - زحلان أنطوان (2012) العلم والسيادة: التوقعات والإمكانات في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، مجلة المستقبل العربي ع.402 انظر الفصل التاسع عن "الفكر العلمي". - زيتون، محيا (2013) التجارة بالتعليم في الوطن العربي: الإشكاليات والمخاطر والرؤية المستقبلية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان. - الفاسي الفهري، عبد القادر (2013) "السياسة اللغوية في البلاد العربية: بحثا عن بيئة طبيعية، عادلة، ديموقراطية، وناجعة" دار الكتاب الجديد المتحدةببيروت - أبو الحسن الندوي ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ طبعة دار الإيمان المنصورة، اطلعت على نسخة إلكترونية في - النادي الأدبي الثقافي بجدة ( 2011-1433) اللغة والإنسان، أبحاث ملتقى قراءة النص، ع. 161. - نبيل علي (2001) الثقافة العربية وعصر المعلومات، رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، عالم المعرفة ع.265 - الودغيري، عبد العالي (2013) لغة الأُمّة ولغة الأمّ: عن واقع اللغة العربية في بيئتها الاجتماعية والثقافية، دار الكتب العلمية بلبنانبيروت. - Anwar G. Chejne The Arabic Language: Its Role in History (1969), . Minnesota University Press and Oxford University Press, Lomdon الهوامش: 1- مختصر ابن الحاجب. انظر فصل "مبادئ اللغة " ص22 2 - منهاج الأصول للأسنوي 3 - الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني. (عالم الكتب-بيروت) تحقيق محمد علي النجار. 4 - انظر د. إبراهيم عبد الله رفيدة (2005)، بحوث في اللغة والفكر، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، أشار إليه نور الدين شريف أويس (2012) في مقاله "العلاقة بين اللغة والفكر من منظور القدامي والمحدثين" الشبكة العربية العالمية www.Globalarabnetwork 5- انظر دلائل الإعجاز ص. 42-44، ذكره مراد عبد الرحمان مبروك في مقال له بعنوان: اللسانية المعيارية وتشكيل المصطلح النقدي "الشعرية" أنموذجا، صدر ضمن أبحاث ملتقى قراءة النص (اللغة والإنسان) 2011-1433، منشورات النادي الأدبي الثقافي جدة، ع. 161، ص.48. 6 - لحميداني، حميد (2011) اللغة والثقافة: المستويات والأبعاد، منشور ضمن أبحاث ملتقى قراءة النص : اللغة والإنسان، ع. 161 ، ص.20 7 - أبو الحسن الندوي ، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، طبعة دار الإيمان، المنصورة، طبعة منقحة ومحققة ومزيدة ، ص 255 8 - محمد فارس (1993) موسوعة علماء العرب والمسلمين، عمان، الأردن. 9 - عبد السلام السيد (2005) موسوعة علماء العرب، الأهلية للنشر، عمان، الأردن. 10 - The Arabic Language, its Role in History was first published in 1969. Minnesota Archive Editions uses digital technology to make long-unavailable books once again accessible, and are published unaltered from the original University of Minnesota Press editions. 11 - نود التنبيه هنا على ما يمكن أن يفهم على غير وجه صحيح، وهو الموقف من اللغات الأخرى. فنقول: إن الاهتمام بدراسة اللغات الأخرى والعناية بها أمر لا يجادل فيه إلا معاند، ولا يجب أن يصرفنا عن جوهر الموضوع الذي نحن بصدده. فالتواصل مع شعوب الأرض، والإفادة مما عند الآخر، والتقارب الحضاري وإزاحة الحواجز فيما بين شعوب الأرض مطالب علمية وسائطها المعرفة باللغات. ونحن نعترف بأهمية إتقان اللغات الأجنبية التي تمكننا من التفاعل مع الجامعات والأكاديميين وتسعفنا في توسيع آفاقنا المعرفية والفكرية. وإنما أردت بهذا التنبيه منع الخلط ودفع التغليط. 12 - زيتون، محيا (2013) التجارة بالتعليم في الوطن العربي: الإشكاليات والمخاطر والرؤية المستقبلية، مركز دراسات الوحدة العربية، ص.250-251. 13 - زيتون، محيا (2013) التجارة بالتعليم في الوطن العربي/ مرجع سابق ص.287-288. 14 - انظر عودة الجيوسي (2013) المجتمع العلمي والتحولات المجتمعية في الوطن العربي ، منشور في موقع منظمة المجتمع العربي العلمي arsco.org 15 - شوقي جلال (2010) غربة العلم والمستقبل في حياتنا، ص 11-12 من مقدمة لكتاب لماذا العلم؟ لصاحبه جيمس تريفل ترجمة شوقي جلال عالم المعرفة ع.372. 16 - زرزار، العياشي و بوعطيط ، سفيان (2012) الجامعة والبحث العلمي من أجل التنمية، إشارة إلى الحالة الجزائرية. منظمة المجتمع العلمي العربي ص. 110-111. 17 - انظر فهد العرابي الحارثي (2010-1431) المعرفة قوة .. والحرية أيضا، الفصل الحادي عشر الصفحات 505-532.