Public school reform or scientific research reform: where to start?!!! لا شك أن للبحث العلمي سواء في المغرب أو غيره من البلدان أهمية قصوى نظراً لارتباطه الوثيق بمفهوم الرقي والتقدم وكونه معياراً في حد ذاته لقياس التقدم، لذلك نجده غاية سامية وهدف منشود لدى الدول المتقدمة والساعية للتطور. ومن جهة أخرى، فهو قد ظل – ومنذ أمد بعيد- الطريقة المثلى وربما الوحيدة (بهذا الشكل) التي تربط بين الدول وذلك من خلال الاكتشافات المعرفية وبشكل مذهل حول العالم. ويمكن القول أيضاً بأن البحث العلمي هو المنقذ (بعد الله) للبشرية، إذ بدونه لم تكن البشرية (على سبيل المثال لا الحصر) لتصل إلى إيجاد أدوية وحلول طبية لأمراض ظلت منذ عقود مستعصية وغيرها وحتى البسيطة منها، وهو أيضاً القاعدة الأساس لبنية الاقتصاد القائمة على المعرفة وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة والوصول إلى تغذية مجتمع المعرفة الذي غالباً ما تشغله تحديات المستقبل ومتطلبات العهد الجديد. أهمية البحث العلمي: وتبعاً لما ذكرنا آنفاً، نرى تلك الأهمية التي تليها بلدان كثيرة إلى قضية البحث العلمي وكيف تَدرس بدقة الميزانية والأموال التي يجب أن تُرصد لهذا المجال الحيوي، فتجدها ترفع نسبة ما تنفقه على البحث والتطوير من القطاعين العام والخاص إلى ناتجها المحلي الإجمالي وتزيد من تلك الميزانية كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وتبعاً لذلك، أصبح ذلك التوجه مبتغى دولا نامية عديدة سواء في شرق وجنوب شرق آسيا على سبيل المثال لا الحصر، وكذلك في أوروبا وأمريكا، بل وحتى في بعض البلدان النامية التي ضاعفت ما تنفقه على منظومة العلم والتقنية والابتكار، وخصصت مبالغ وجوائز لا يستهان بها للمخترعين في السنوات الأخيرة. وكي لا نذهب بعيداً، دعونا نأخذ مثالاً بسيطاً من آسيا مثلاً حيث يتنبأ العديد من الباحثين اكتساح الصين لمعظم الأسواق والتجارة العالمية. ومن هذا المنطلق فقد أظهرت إحصائيات السابقة مؤخرا، على سبيل المثال، أن الصين لم تتوانى في رفع ميزانية الإنفاق على مجال البحث العلمي، بل بالنظر إلى الأرقام، يمكن القول بأن الصين حققت قفزات هائلة في مجال الإنفاق على الأبحاث والتطوير والاختراعات الصناعية والعلمية والتكنولوجية، بل حتى في المجال العسكري والفضاء، إذ زادت بنحو 20% خلال الأعوام الماضية، حيث تنفق الصين حاليا 300 مليار دولار سنويا على الأبحاث والتطوير مقارنة ب450 مليار دولار لأمريكا التي لها باع طويل في هذا المجال، وكان ينظر إليها بالأمس القريب على من أول بلدان العالم توسعا وسعة في هذا المجال. ويرى المراقبون بأنه من المتوقع جدا أن يتجاوز إنفاق الصين في مجال البحث العلمي أوروبا بحلول عام 2018 وأمريكا بحلول عام 2022 مما سيجعلها لا محالة رائدة وجد متقدمة في هذا المجال. أسس البحث العلمي ومتطلباته: أين موقعه في مشروع الإصلاح؟: يعتبر البحث العلمي منظومة في حد ذاته تحكمها قوانين وإجراءات، وبما أنها كذلك فهي تتطلب موارد مادية وبشرية ذات رصيد معرفي هائل وخبرة وكذلك قدرة على إنجاز مهامها. وللبحث العلمي أسس ومتطلبات كي يكون مشروعاً ناجحاً يحقق أهدافاً ونتائج، ومن أهم تلك الأسس: الإرادة القوية لدى الحكومة والمجتمع؛ وجود بنية تحتية ومناخ ومرجعية يلجأ إليها الباحثون؛ وجود موارد مادية وأخرى بشرية تتبنى وتدعم مشروع البحث؛ وجود تغطية إعلامية وقنوات تواصل تسوق نتائج المشروع. ومن أجل إنجاح عملية البحث، لابد من وجود مقاربة تشاركية جديدة تخفف الحمل على وزارة التربية والتعليم، بل قبل كل هذا، لابد من نشر ثقافة البحث العلمي ومدى أهميته في المجتمع. فلهذا لابد من وجود قناعة ويقين بأن أهمية البحث العلمي تكمن في كونه المدخل الصحيح والسليم إلى الإصلاح الحقيقي المنشود لمنظومة التربية والتعليم بعد إصلاح جذري للمدرسة العمومية وتحديث جميع مناهجها ومقرراتها الدراسية ومرافقها وفضائها الداخلي والخارجي، كما يعتبر البحث العلمي الغاية القصوى للإنتاج الفكري الذي تتجه إليه أنظار مؤسسات التعليم العالي والجامعات كونه القاطرة الفعلية للتنمية الاقتصادية والصناعية والاجتماعية والثقافية للمجتمع. وفي هذا الصدد يرى الباحث أمجد قاسم نقلا عن "مجلة الفيصل العلمية"، على سبيل المثال، بأن البحث العلمي يعد "المحرك الفاعل والأساسي للتقدم والتطور في كل المجتمعات ولجميع قطاعات الدولة (الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والاجتماعية، والتربوية، والثقافية)، ولا يمكن أن تزدهر العلوم والتقنية في أي مجتمع من دون بناء قاعدة أساسية وفاعلة لأنشطة البحث العلمي الهادف لدفع عجلة التنمية والتطور". وبما أن الأمر كذلك، فيمكن القول بأن البحث العلمي يعتبر المعيار الحقيقي أو الفيصل بين الدول المتقدمة والدول النامية والدول المتخلفة، إذ يمكن اعتباره أيضاً الفارق الجوهري بين الدول التي أخذت البادرة وهيأت نفسها لولوج القرن الحادي والعشرين ودول أخرى ما زالت على أعتاب القرن التاسع عشر أو حتى ما قبله. وقبل الخوض في موضوع مستقبل البحث العلمي في بلدنا الحبيب، لابد من أن نتساءل عن أسس البحث العلمي وعن متطلباته ومكانته فيما يخص مشروع إصلاح منظومة التربية والتعليم. إصلاح المدرسة العمومية أولاً، أم إصلاح البحث العلمي؟: لعل هنالك أسئلة أخرى تجرنا إلى التساؤل عن جدوى البحث العلمي وما هي النتائج التي حققناها مقابل ما أنفقته الدولة على ذلك!!! وهنالك سؤال آخر جوهري أيضاً وكما ذكرنا، أي: ما الذي يجب إصلاحه أولاً؟ أهي المدرسة أم مجال البحث العلمي؟ ولعل الكثير سيتفق معنا بأن المنطق يستوجب إصلاح المدرسة أولا، فلماذا إذاً؟ أليس البحث العلمي هو نتاج المدرسة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمكن لمدرسة متخبطة في مشاكل لا تحصى ولا تعد أن تًخرِّج عقولا وأدمغة قادرة على السير قدماً نحو البحث العلمي والمعرفي, بل يمكن القول بأن المجتمع هو مرآة المدرسة، فهو الذي يعكس رغبة المدرسة في ترسيخ مفهوم البحث العلمي بين أفراده، ومن المفترض أن المدرسة هي التي تزرع تلك الرغبة في نفوس الأشخاص ومنذ الصغر. ولذلك يرى علماء التربية بأن أحسن وأنجع استثمار هو الاستثمار في التعليم الابتدائي أو الأساسي، وهناك العديد من الأمثلة عن البلدان التي سلكت ذلك النهج. ومن ثمة، علينا نحن كبلدان نامية أن نركز أولاَ على إصلاح المدرسة العمومية لأنها هي القاعدة الأساسية لأي مشروع يتعلق بالبحث العلمي. إن تسابق الأمم في ميادين المعرفة، واستثمارها الأموال الطائلة وتسخيرها في بناء منظومتها الخاصة من المعرفة والتقنية، والتنافس والتباري في الإنجازات العلمية الحديثة وخلق جوائز محلية وعالمية للمتفوقين في ذلك، لخير دليل على إدراك معظم الأمم للحقيقة الدامغة ألا وهي أنه لا سبيل للتقدم والنمو والازدهار إلا من خلال بوابة التقدم في البحث العلمي وتيسير طريقه للأجيال الحالية والقادمة. وهكذا بدأت الأمم تدرك بأن تفاخرها بثرواتها الطبيعية ما هو إلا شيء عارض وأن الاستمرارية والبقاء للأقوى، أي للمتقدم في ميادين العلم والمعرفة والتقنية. ومع كامل الأسف يلاحظ بأننا– نحن العرب – لازلنا نقف عاجزين عن المشاركة الفاعلة في تلك الإنجازات المعرفية والتقنية بعدما كنا في زمن مضى نحن السباقين في العلوم التجريبية وترجمنا عن الفلاسفة اليونانيين وغيرهم كل دروب الفلسفة والفكر واستطعنا إيصالها إلى غيرنا من الأمم، غير أننا شغلتنا الحروب والطائفية والفتن ما ظهر منها وما بطن، فوقفنا مندهشين لسرعة التقدم التقني والعلمي الحاصل في الغرب، والذي تحقق بسرعة فائقة خلال العقود القليلة الماضية، بيد أننا نحن مازلنا مكتفين باستهلاك ما تنتجه المكينة والعقول الغربية وما يقدَّم إلينا من منجزات علمية ومعرفية، بعد أن أفل نجم علمائنا ومخترعينا الأجلاء وولّت حقبة زمنية زاهرة من تاريخنا لازالت بعض الأمم الغربية تستشهد بها، بينما تحاول أمم أخرى كتمانها أو طمسها بالمرة، بينما اكتفينا نحن فقط بالبكاء على الأطلال وبالتغني بها وبأمجادها. أما التاريخ فلا زال لحسن الحظ منصفاً ويشهد على عظمة أولئك العلماء والمخترعين العرب والمسلمين وعن إنجازاتهم الكبيرة في ميادين العلوم والمعرفة والتي، على سبيل المثال، دونت جزءاً منها المستشرقة الألمانية سيغريد هونكه (Sigrid Hunke) بكل أمانة وعنونتها في كتابها ب"شمس العرب تسطع على الغرب". ولذلك نعود ونقول بأن التركيز في الإصلاح ينبغي أن يبدأ بتدرج من المدرسة العمومية أولاً إذا كنا نطمح فعلاَ بأن تكون لنا منظومة بحث علمي مًحكمة. فإصلاح وتنميق واجهة البيت مثلاً لا تكفي بينما داخله لا يعلمه إلا الله!!!. واقع وتطلعات البحث العلمي في المغرب: حرص المغرب منذ مطلع القرن الماضي على أن تكون له سياسة وطنية للنهوض بالعلم والتقنية من خلال منظومة التربية والتعليم، وقد سنّت الجهات المختصة في هذا البلد مجموعة كبيرة من الإجراءات التشريعية والتنفيذية بهدف تنشيط الطاقات العلمية الوطنية وتعبئتها لتحقيق خطط التنمية الإستراتيجية في ربوع المغرب وكل أقاليمه بدون استثناء، ومن أجل ذلك رصدت الأموال الطائلة لتحقيق هذا الهدف، ولازال المغرب يواكب مجموعة من الإصلاحات والورش الكبرى بكل قوة مما جعل بلداناً كثيرة تتطلع إلى نموذجه السياسي والاقتصادي. كما يتطلع المغرب بأن تكون مخرجات المدرسة العمومية والجامعات والمدارس العليا في المستوى المطلوب وأن تتقوى بمخططاتها الإستراتيجية فيما يخص البحث العلمي، لأن هذا الأخير يعتبر في المقام الأول استثمار وخيار اقتصادي ناجح، يعبّر عن رؤية مستقبلية اقتصادية واعية وواعدة. ومن ناحية أخرى، فإن البحث العلمي جزء لا يتجزأ من الأمن العام للبلد، والأمن، كما يقول أحد الباحثين في هذا الميدان، كلٌّ لا يتجزأ، فالأمن العسكري، والأمن السياسي، والأمن الغذائي، والأمن الثقافي، والأمن المائي، وغيرها من نواحي الأمن، ما هي إلا حلقات لسلسلة مترابطة بعضها مع بعض، وأن قوة أي سلسلة تحددها الحلقة الأضعف. هذه الرؤية الشاملة هي التي يسعى المغرب لتحقيقها من خلال مشاريع الإصلاح التي تبناها مؤخرا والتي بوأته الصدارة في أخذ المبادرة في ميادين وقطاعات مختلفة. غير أن الركن الأصعب في تلك الورش الإصلاحية هو إصلاح منظومة التربية والتعليم والتي يعتبر البحث العلمي جزءاَ أساسياً منها. وفي هذا الإطار لابد من أخذ النقاط التالية في عين الاعتبار ما دامت هنالك فرص لنقل الخبرة المغربية إلى القارة السمراء، ولما لا نشاطر تلك البلدان تجربتنا في ميدان البحث العلمي بعد تطويره وإصلاح منظومته على النحو التالي: - وضع خطط إستراتيجية خاصة بالبحث العلمي ذات بعد وطني وإقليمي ودولي. - إعادة النظر في جميع القوانين والإجراءات المتعلقة بهذا الميدان. - ربط البحث العلمي بشكل وثيق بالخطط الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتعليمية والثقافية للبلد. - الحد من تأثير سيطرة الشركات العابرة للقارات، وسطوة مراكز الأبحاث العالمية على المنتوج العلمي المحلي. - الحد من هجرة العقول والأدمغة الوطنية وتصديرها إلى الخارج وذلك بوضع آلية تحفيز ومكافأة عالية وترقى إلى مستوى الباحثين والمستوى الدولي. - ضرورة الإيمان والاقتناع بفكرة أنه لا يمكن أن يتم النهوض بقطاع البحث العلمي بمعزل عن بقية قطاعات الدولة. - وضع آلية للتحفيز ومكافأة الأطر الإدارية المساندة للباحثين وإعطاء كل ذي حق حقه. - احترام الملكية الفكرية وبراءة الاختراع. - تشجيع البحث العلمي منذ المراحل الأولى للتعليم وبشكل مبسط كي يتعود الطلاب على ذلك. - الرفع من مستوى البحث العلمي باتخاذ مقاربة تشاركية تساهم في تمويلها شركات كبرى وجهات مختلفة. - تخصيص كراسي علمية تموّلها الشركات الكبرى والمحسنين وكل من يريد الخير لهذا البلد. - القيام بتغطية إعلامية وندوات وورش عمل مجدية تعرف بالأبحاث الهامة. - مساعدة الباحثين ماديا ومعنوياً. - خلق مسابقات تنافسية محلية مشجعة للنهوض بقيمة البحث العلمي. - تسهيل عملية البحث من خلال إحداث كراسي للبحث في الجامعات والمعاهد والمدارس العليا وتحديث المختبرات والمكتبات. - تسهيل عملية الحصول على وظيفة للباحثين. - تشجيع عملية البحث العلمي بين أطر التدريس وكوادر الجامعات وغيرهم وعدم التوقف عن البحث حتى بعد سن التقاعد. - تعزيز مكانة اللغات وإتقانها بما في ذلك اللغة العربية والفرنسية والانجليزية وغيرها. - تكتيف الجهود لتعلم اللغة الانجليزية كونها لغة البحث في الوقت الحالي. - ربط نظام الترقية بالإنتاج العلمي والفكري والمساهمة في ورش التدريب والمؤتمرات العلمية وغيرها. - جلب العقول المهاجرة من مغاربة العالم من المفكرين والباحثين في جميع المجالات وإدماجهم في الناتج الفكري المحلي. وهكذا نلاحظ بأنه في عقد السبعينيات من القرن الماضي، بدأ العمل العربي المشترك للنهوض بالسياسة العلمية العربية، وعُقدت عدة مؤتمرات في جهات مختلفة وعلى الرغم من تلك الجهود الرامية إلى بلورة سياسات ووضع خطط إستراتيجية وأخرى تعزز أواصر التعاون بين البلدان العربية وتهدف إلى رفع شأن البحث العلمي في بلادنا العربية والاعتماد عليه كرافعة للاقتصاد والنمو في تلك البلدان، إلا أن تلك السياسات أدّت غالبا إلى نشوء وظائف هامشية لا تغطي متطلبات سوق العمل ولا تلبّي الأهداف المنشودة ولا تحققها، ولمعالجة ذلك يتم عقد مزيد من الاجتماعات والمؤتمرات، كمؤتمر الوزراء العرب المسئولين عن البحث العلمي ورؤساء المجالس العلمية العربية الذي انعقد في بغداد عام 1974م ، و مؤتمر الوزراء العرب المسئولين عن تطوير العلم والتقنية في الرباط عام 1976م، وقد دعا الحاضرون في كلا المؤتمرين إلى ضرورة العمل العربي المشترك، وإنشاء مراكز نوعية متخصصة على مستوى الوطن العربي، كما أسفرت تلك التجمعات عن جملة من التوصيات الموجهة إلى الحكومات العربية، وتوصيات أخرى للمنظمات العربية المعنية بدعم الثقافة والعلوم. وعلى الرغم من كل تلك التجمعات الأولية والأخرى التي تلتها عبر العقود الأخيرة ورغم تلك الجهود الرامية إلى وحدة الصف وتعزيز التعاون وبلورة سياسات تهدف إلى رفع شأن البحث العلمي في بلادنا العربية إلا أن تلك السياسات أدّت غالبا إلى نشوء وظائف هامشية لا ترقى إلى طموحات الشعوب العربية بل ولا تلبّي الأهداف المنشودة والمنصوص عليها في تلك المؤتمرات والتوصيات ولا تحققها. والغريب في الأمر أن تلك الدول لم تتعظ ولم تستفد من ذلك الفشل والتعثر المتكرر ولم تستوعب الدرس لمعالجة تلك الهفوات. ويلاحظ أن أموالاً طائلة صرفت في دراسات وأدت إلى مزيد من الاجتماعات الإضافية المكلفة أدت إلى تكدس نتائج وآراء وأكوام من الأوراق والوثائق والمستندات لم تتم الاستفادة منها بالشكل الصحيح والسليم مما يؤدي إلى ضياع الجهد والمال والوقت ليظل البحث العلمي يُنظر إليه من زاوية ضيقة لا تفي حصيلته بالغرض. ووفقا للبيانات الصادرة عن البنك الدولي حول مؤشرات التنمية في عام 2003م، على سبيل المثال، وحسب ما ذكره الباحث أمجد قاسم، فإن "مجمل ما تنفقه الدول العربية على دعم البحث العلمي لا يكاد يذكر، فقد بلغت حصة الإنفاق على البحث والتطوير من الناتج القومي الإجمالي في كل من الكويت والأردن ومصر وسورية والإمارات العربية المتحدة على الترتيب النحو الآتي: 0,3% ، 0,26 % ، 0,2% ، 0,18% ، 0,45% ، بينما أنفقت السويد 3,02% من ناتجها القومي، واليابان 2,84% ، وسويسرا 2,68% ، وكوريا الجنوبية 2,47% ، والولايات المتحدةالأمريكية 2,8% ، وفرنسا 2,34%" (نفس المرجع). وحسب ما ورد عن نفس الباحث فإن تلك الفجوة الكبيرة، كما يقول، التي يعانيها وطننا العربي على مستوى إنتاج أبحاث علمية وتقنية عالمية، وقلة عدد العلماء والباحثين في العالم العربي، تدل على وجود خلل واضح في السياسات التعليمية والتنموية في بلادنا، وقصور مريع في مؤسسات البحث العلمي العربي، وافتقارها إلى الحسابات الدقيقة لعوائد بعض الأنشطة العلمية التي يتم تنفيذها في مؤسساتهم. ويمكن ملاحظة ذلك القصور من خلال لمحة سريعة على ما تنفقه الدول العربية من عائدها الوطني على البحث العلمي: فعلى سبيل المثال هنالك دول تنفق أقل من 0,3% من ناتجها القومي على البحث والتطوير، وتشمل هذه المجموعة: جميع الدول العربية وأمريكا الجنوبية. خلاصة: وكخلاصة لهذا الموضوع يمكن القول بأن على الحكومة الجديدة إعادة النظر في مفهوم وإجراءات البحث العلمي باعتباره قاطرة للنمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كما يجب مراجعة قوانين وإجراءات أنشطة البحث والتطوير التي يتم إنشاؤها وتنظيمها تحت مظلة أجهزة ومؤسسات صناعية وتسوغ لها سياسات العلوم والتكنولوجيا، لأن ذلك يقلص حجم تلك الأنشطة ويجعل دورها محدودا للغاية، ونتيجة لذلك لا يتم إعطاء الاهتمام الكافي بمخرجات ونتائج البحث العلمي والتطوير في المؤسسات التعليمية العليا. كما يجب البحث عن سياسات وقوانين تضبط كل ما يتعلق بالبحث العلمي والموارد المادية الداعمة وتحفيز كل الساهرين على البحث العلمي وفق المقاييس والمعايير الدولية. وعلى المسئولين عن مشروع إصلاح منظومة التربية والتعليم أن يركزوا أولاَ وقبل كل شيء على إصلاح المدرسة العمومية لأنها وكما قلنا سابقاً هي القاعدة والأساس الذي تُبنى عليها كل المعارف لاحقاً، وأن يأخذوا موضوع البحث العلمي بكل جدية كونه المدخل الرئيسي للتقدم والنمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وعلينا أن نتذكر بأن التجربة العلمية في الدول المتقدمة صناعيا تنظر إلى البحث العلمي والتطوير على أنه سلسلة متصلة ومستمرة من العمليات التي تتراوح بين مراقبة الجودة الشاملة بكل أبعادها والخدمات العامة على أدنى حد إلى الدراسات والأبحاث الاستكشافية بالحد الأعلى. وقد حان الوقت بأن نأخذ موضوع البحث العلمي بكل جدية كي نكون في مستوى نقل تلك الخبرات إلى تلك الدول مثلما نجحنا في نقل خبراتنا في قطاعات أخرى إلى إخواننا وأخواتنا بالقارة الإفريقية، ولا يمكننا أن ننجح في ذلك إلا إذا توفرت لدينا منظومة تربية وتعليم نزيهة وحديثة وقادرة على مسايرة العصر ومحافظة في آن واحد. وحتى لا ينطبق علينا المثل الشعبي القائل: :" آ لمزوق من برا، آش خبارك من لداخل؟"، فلا بد إذاً من وجود مدرسة عمومية قوية وذات مناهج ومقررات دراسية قوية ومُحكمة، وبنية تحتية متكاملة ومرافق حديثة وفضاء داخلي وخارجي نظيف وجذاب وخالي من جميع الشوائب والموبقات، فضاء يجلب التلاميذ والطلاب وينمي فيهم روح المثابرة والتنافس الشريف والنزيه والمحبة، ويعزز فيهم روح الانتماء والافتخار بالهوية والمواطنة ومحبة فعل الخيرات والإحسان. "أكعاون ربي" والله ولي التوفيق،،، *خبير دولي في مجال التربية والتعليم، مستشار [email protected]