-1- يعتبر البحث العلمي من أهم المعايير المستخدمة في مختلف الأزمنة والأمكنة لقياس مدى تقدم الشعوب وحضارتها ونمائها، نظرا لمساهمته الفعلية في بلورة وتطوير الصناعات والإبداعات والمعارف والثقافات، وفي الدفع بالنهضة الاجتماعية والثقافية والعلمية للأمم والشعوب، لتحتل مكانها في الحضارة الإنسانية. كما يعتبر البحث العلمي مركزا أساسيا لأي تنمية اقتصادية، اجتماعية، بشرية، تكنولوجية، مالية، يستند إلى تطوير السياسات العامة. إنه مجموعة من النشاطات والتقنيات والأدوات التي تبحث في الظواهر المحيطة بكل السياسات الإنمائية، والتي تهدف إلى زيادة المعرفة وتسخيرها في عمليات التنمية لمختلف جوانب الحياة. ومن أجل أن يكون للبحث العلمي موقعه الايجابي في المنظومة التعليمية، في كل الأنظمة والسياسات، لا بد من إبلاء التعليم الأساسي عناية فائقة، عبر زرع روح المبادرة والثقة في نفوس الطلاب، إلى جانب إيجاد إستراتيجية واضحة بخصوص منظومة البحث العلمي، إضافة إلى تحفيز الباحثين والعلماء في هذا المجال. ومن الأسئلة التي تفرض نفسها بقوة اليوم على العالم العربي، الذي يغرق في صراعاته وتخلفه: ما موقع البحث العلمي في سياساته التعليمية والتربوية؟ ولماذا يعاني في زمن الألفية الثالثة من إهمال الأنظمة الحاكمة، ومغيب عن سياساتها؟. -2- قبل الإجابة عن هذا السؤالين الواسعين والشاسعين، لا بد من الإشارة إلى أن الجامعات ومنظوماتها الفكرية والعلمية والتربوية والثقافية تلعب دورا مهما وأساسيا في التنمية والإبداع. كما تلعب مؤسسات البحث العلمي بها دورا مركزيا في تنمية الاقتصاديات الوطنية وتطوير الصناعات وابتكار التقنيات والاختراعات التي تعطي للتنمية الوطنية موقعها على الأرض وتلبي متطلباتها الفكرية والصناعية والتكنولوجية. طبعا، لا يمكن تحقيق ذلك، إلا من خلال بلورة إستراتيجية واضحة ومتكاملة لسياسة التعليم العالي في مختلف تخصصاته، وتجعل البحث العلمي في موقع الصدارة، يحظى بالدعم المادي الواسع، وبالعناية الفائقة من لدن إدارة الدولة، كما من لدن الأساتذة والباحثين والمهتمين ومن مراكز ومؤسسات القطاع الخاص. ونظرا للدور الريادي الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الجامعية ومؤسسات البحث العلمي من خلالها في التنمية، طالب العديد من الباحثين والمفكرين العرب خلال القرن الماضي وحتى الآن بضرورة النهوض بالتعليم العالي / الجامعي ومؤسساته المختلفة وإدماج نتائج البحث العلمي في خطط التنمية، وفي السياسات الاقتصادية من أجل بلورتها على أرض الواقع. في هذا الموضوع، طالب تقرير لمنظمة اليونسكو في مطلع الألفية الثالثة الدول العربية بضرورة العمل على ضمان التوازن بين البحث العلمي الأساسي الموجه إلى استغلال العلم والثقافة، والبحث العلمي الموجه صوب مشكلات التنمية، نظرا إلى ضآلة نسب الإمكانات المادية المتاحة له، ومن ضمنه مؤسسات البحث العلمي؛ وهو ما يتطلب من الدول العربية في الزمن الراهن ضمان برامج وسياسات لبلورته، لسنوات عديدة وبعيدة. لا بأس من الإشارة هنا إلى أن التعليم العالي في البلاد العربية قد حقق نموا كبيرا في العقدين الأخيرين، إذ بلغ عدد الجامعات 395 جامعة في سنة 2008، في حين كان عددها قبل أربعين سنة لا يتعدى 30 جامعة، وبلغ عدد الملتحقين بالتعليم العالي سنة 2006 أكثر من سبعة ملايين طالب عربي، أي بزيادة أكثر من 36% على عدد الملتحقين سنة 2000. وحسب تقارير منظمة اليونسكو، أن هذه الأرقام لا تؤكد إيجابية سياسات التعليم العالي في البلاد العربية؛ فكل المؤشرات تدل على استمرار ضعف منظومة الجامعات والبحث العلمي في العالم العربي، ووجود مشكلات حقيقية تعيق تطورها وإنتاجهما المعرفي والعلمي، ومساهمتهما الضرورية في التنمية والإبداع. يفيد تقرير لليونسكو لسنة 2015 بأن نسبة الإنفاق المحلي الإجمالي للدول العربية كلها على البحث العلمي بالجامعات العربية، بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لا تزال واهية جداً؛ فعام 2013 لم تبلغ هذه النسبة واحداً في المائة من الإنفاق المحلي الإجمالي العالمي إلا بعد جهد بالغ، أي ما مجموعه 15 مليار دولار من أصل إنفاق عالمي بلغ 1477 مليار دولار. وعلى الرغم من أن عدد الباحثين في البلدان العربية كلها قد شهد ارتفاعاً من 122900 باحث عام 2007 إلى 149500 باحث عام 2013، فإن نسبتهم من عدد الباحثين في العالم بقيت نفسها أي 1.9%. بينما بلغ عدد السكان العرب 358 مليون نسمة في السنة نفسها، أي نحو خمسة في المائة من سكان العالم. أما نصيب العالم العربي من المنشورات العلمية فقد بلغ 29944 بحثاً منشوراً في عام 2014، لكن هذه النسبة لم تتجاوز 2.45% عالمياً. كما بلغ عدد المنشورات العلمية نسبة إلى كل مليون نسمة 82 بحثاً عام 2013، لكنه بقي أقل من نصف المعدل العالمي البالغ 176 بحثاً منشوراً لكل مليون نسمة. وعلى الرغم من أن عدد براءات الاختراع العربية المسجلة قد شهدت قفزة مهمة بين عامي 2008 و2013 من 99 إلى 492 براءة اختراع، فإن ذلك لا يشكل سوى 0.2% على المستوى العالمي؛ فماليزيا وحدها سجّلت 566 براءة اختراع. وحيث إن عدد سكان العالم العربي يبلغ نحو 330 مليون نسمة وعدد سكان ماليزيا نحو 26 مليون نسمة، فذلك يعني أن معدل الإبداع في ماليزيا يزيد 15 ضعفاً على معدل الإبداع في الدول العربية مجتمعة. -3- في بحث حول واقع البحث العلمي عربيا، يتوقف الأستاذ حواس محمد (البحث العلمي في العالم العربي، التعريف، الواقع، الإنفاق، آراء حول الخليج / العدد 131) طويلا عند مشكلات ومعوقات البحث العلمي في العالم العربي، مؤكدا أن هذه المشكلات لا تنحصر في الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية التي يواجهها المجتمع العربي بشكل عام، ولكنها تتجاوز ذلك إلى : • تدني مستوى الإنفاق على البحث العلمي، الذي يتطلب إنفاقا ماليا على المنشآت والمباني والمختبرات والمكتبات ودور النشر والمجلات العلمية والدوريات، إضافة إلى تعويضات العاملين في هذا المجال، • نقص الموارد المخصصة للتجهيزات العلمية والتقنية. • نقص الفنيين والمتخصصين في التقنيات الحديثة. • غياب المؤلفات والمراجع الضرورية لعمل البحث العلمي. • انعدام أجواء البحث العلمي (أي تجمعات العلماء والباحثين والتي تتجسد في الجمعيات العلمية العامة والمتخصصة والنوادي العلمية والفكرية التي يتم تبادل الأفكار والآراء بها). • الظروف المادية والمعنوية لعمل ومكانة العلماء والباحثين التي لا تتناسب في العالم العربي مع ظروف البحث العلمي في الدول المتقدمة. يعني ذلك بوضوح أن الحاجة في العالم العربي تبدو أكثر إلحاحا لتطوير التعليم العالي والبحث العلمي في ظل الحاجات المتزايدة للتنمية في عصر المعلوماتية والاتصالات. في العالم العربي اليوم، الذي يزداد اتساعا ونموا ديمغرافيا، والذي يواجه العديد من الصراعات والإحباطات السياسية، إضافة إلى موجات الفساد المتعدد الصفات والأهداف التي تغرقه في بحور التخلف، لم يأخذ التعليم العالي ومؤسسات "البحث العلمي" دورهما حتى الآن في معالجة المشكلات العالقة المرتبطة بتحديات الألفية الثالثة، إذ ما زالت المؤسسات البحثية والجامعية تواجه الكثير من المعوقات والتحديات؛ منها انخفاض مستويات التمويل، وتدني إسهام القطاع الخاص في شؤون التعليم العالي والبحث العلمي. -4- في زمن الألفية الثالثة، أصبح البحث العلمي، الذي يشمل كل جوانب الحياة الاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية في العالم المتحضر/ في أوروبا وأمريكا وآسيا، يشكل عاملا مهما وضروريا للتنمية والتقدم، نظرا لارتباطه بعلوم التكنولوجيا وبالثورة الثالثة، وأيضا بكل علوم المعرفة والإبداع التي تطبع الزمن الراهن؛ وهو ما يحتم على المجتمع المعاصر اعتماده الكلي على نتائجه، وتقديم المزيد من الدعم للعلماء والباحثين والمهتمين للوصول إلى نتائج مهمة تخدم قضايا هذا المجتمع. جاء في تقرير لليونسكو عن البحث العلمي في العالم العربي في الزمن الراهن أن إنتاجية عشرة باحثين عرب توازي إنتاجية باحث واحد في المتوسط الدولي. في العالم العربي، تقول المؤشرات إن هناك 380 باحثا لكل مليون شخص عربي (وهذا على اعتبار أن حاملي شهادات الدكتوراه والمدرسين في الجامعات محسوبين كباحثين) بينما تبلغ النسبة حوالي 4000 باحث لكل مليون إنسان في الولاياتالمتحدةالأمريكية / 3598 باحثا لكل مليون شخص في الدول المتقدمة، ومن ضمنها إسرائيل التي تجاورنا في الخريطة العربية؛ وهو ما يعني بوضوح أن نسبة عدد الباحثين في العالم العربي هي الأدنى عالميا وإنسانيا. والسؤال الملح والخطير هو: إلى متى سيظل العالم العربي مغمض العينين عن مفتاح التنمية والتطور / البحث العلمي؟ متى سيحول أمواله العابثة إلى هذا المجال من أجل الخروج من القوقعة ومن الصراعات الفاشلة، والحروب التي تغرق الإنسان العربي في بؤر التخلف والتهميش؟