سنة كاملة مرت على رحيل الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله. رجل فكّر ونظّر وربى نساء ورجالا في محضن جماعة تسمى "العدل والإحسان". شخصية الرجل رحمه الله طبعت مسيرة الجماعة، بل تركت بصمة بارزة على جسم أكبر تنظيم إسلامي، أصبحت اليوم مدرسة عالمية تنهل منها كل إرادات التغيير في مجال التربية والسياسة. بذلك تميز أداء الرجل والجماعة بوضوح النصيحة وقوة الأداء السياسي وشمولية الفعل المجتمعي، بعيدا عن العنف والعمل في دهاليز السرية التي تفصل المبتدأ عن الخبر... تميز وعطاء تميزت مسيرة الرجل ومسار الجماعة منذ أربعة عقود ب: • صحبة صادقة للشعب خصوصا وللأمة عموما، حيث اعتبر الرجل المؤسس لأكبر مشروع تغييري أن المنطلق هو الإنسان. لا يمكن لأي مجتمع أن تقوم له قائمة بدون لبنة قوية قابلة للتماسك والتراص في البناء المرصوص. من أجل ذلك حدد الأستاذ ياسين رحمه الله في ندوة رفع الحصار أن وظيفة الجماعة:" التربية ثم التربية ثم التربية، وأن السياسية بعض من شأننا..." • إصدار وثيقة مهمة، بمثابة بوصلة موجهة لحركة الجماعة، باعتبارها جسما ينمو ويكبر، لابد من إبداع الوسائل الضرورية لتحقيق وظائفها حسب متغيرات الزمان والمكان والأحوال. إنه "المنهاج النبوي" الذي هو اليوم بين أيدينا، ثمرة اجتهاد خرجت من رحم تجربة عقود كتبها الأستاذ عبد السلام ياسين، بل طورها من الاهتمام بتغيير الإنسان في كتاب "الإسلام بين الدعوة والدولة" إلى بناء المجتمع في كتاب "دولة القرآن". بني المنهاج النبوي على خصال عشر، ثلاث منها خصال أمهات:الصحبة والجماعة والذكر والصدق. تعتبر هذه الخصال الثلاث، ركائز وهيكل بناء الفرد في الجماعة حاملة مشروع بناء مجتمع العمران الأخوي، بينما الخصال السبع الأخرى(البذل والعلم والعمل والسمت والتؤدة والاقتصاد والجهاد)، فهي كسوة البناء وجسده. فالمنهاج النبوي وضع أولويات مشروع التغيير،ومنطلقات البناء السليم على قاعدة الصحبة لبلوغ مقاصد الجهاد بمستوياته الإحدى عشر. • وضوح الخطاب منذ رسالة "الإسلام أو الطوفان"- سنة 1974- المرسلة إلى الملك الحسن الثاني، مرورا برسالة" إلى من يهمه الأمر"- سنة 2000- المرسلة إلى الملك الشاب، ملك الفقراء غداة توليه الحكم والإرث الثقيل وانتهاء بالمشاركة في "الحراك السياسي" الذي عرفه المغرب مع حركة 20 فبراير. هل انكفأت فعلا الجماعة وهل خفت صوتها؟ سؤال يطرحه أكثر من مراقب وباحث وصديق ومناوئ. سؤال نجده على صفحات عديدة من المنابر الإعلامية، أما البحث عن معالم الجواب تختلف من فئة إلى أخرى: منهم من ذهب إلى أن الجماعة آلت إلى الضعف بعد سنة واحدة من وفاة مؤسسها، وبأن قادتها من الصف الأول يسيئون إلى الجماعة أكثر مما يحسنون، وبين من وجد أن الجماعة لم تتغير مواقفها السياسية في زمن الأمين العام الحالي، محمد العبادي، فيما اعتبر قياديون داخل الجماعة بأن"الجماعة تظل قوية وراسخة من خلال إيمانها بوعد الله بتمكينها في الأرض". لعل آخر ما كتب في الموضوع في فترة إحياء الذكرى الأولى لرحيل الأستاذ ياسين رحمة الله عليه، - والكل يترقب رسائل جماعة العدل والإحسان- أن هذه الأخيرة تمر بأزمات حقيقية انعكست سلبا على أدائها السياسي والتنظيمي، ومدى مساهمتها بمبادرات تتيح لها هوامش متعددة من المناورة، في خضم وضعيتها السياسية والقانونية الراهنة. وأن معالم أزمتها ثلاث مستويات: 1. الفشل في قراءة الوضع السياسي زمن الحراك. 2. مواجهة تحديات الجاذبية الانتخابية التي استأثر بها حزب العدالة والتنمية، وواقعية جوابه السياسي الذي قدمه تفاعلا مع الحراك المجتمعي بالبلاد. 3. وفاة مرشد الجماعة الذي كان يقوم بالدور المركزي في الحفاظ على التوازنات داخل الجماعة، وإنتاج خطاب قادر على امتصاص الرجات داخل التنظيم. في البحث عن جواب.. كثير من الناس يستعجلون ويصدرون الأحكام المسبقة... كثير من الباحثين يصطادون في الماء العكر فتخرج عليهم من مستنقعاتهم وبركهم عفاريت وتماسيح وأشباح دونكيشوت... كثير من المناوئين يتمنون موتا للجماعة بعد رحيل مرشدها، لأنها رفضت الدخول في لعبة المتاجرة في الذمم والقيم باسم الديمقراطية... قليل منهم من يجمع عناصر المعادلة للإنصاف في الحكم والتقييم الموضوعي للأداء السياسي والإعلامي. أقول ذلك، إيمانا مني بأن الأداء السياسي أو الإعلامي الذي يكون موسوما بالارتجال والاضطراب، يجعل صاحبه قزما تابعا، يجرفه التيار بفعل قوته وتوجهه الرياح في كل منحى وطريق. هذه الأزمات الثلاث حسب وصف باحثنا المحترم، هي في الحقيقة نقط قوة تميز مسيرة الجماعة: 1. لعل أول من قدم قراءة واضحة للوضع السياسي زمن الحراك، هي جماعة العدل والإحسان، بل اعتبرت أن المواطن المغربي ضحية للعبة سياسية هزلية في مشهد سياسي لزج، أبطاله أحزاب ضعيفة بحثت عن تحالفات تحكمها المصالح السياسوية الضيقة يمنحها المخزن كرسي تسيير الشأن العام مقابل ترويض حراك شعبي فتي تمثل في حركة 20 فبراير والتي كانت جماعة العدل والإحسان أحد المكونات الداعمة لها. نجح المخزن بشكل أو بآخر في تقويض أداء حراك شعبي يفتقد لرؤية استراتيجية وتلاحم الأطراف الداعمة له. من أجل ذلك فالجماعة غير مستعدة نهائيا للدخول في نسق سياسي مغشوش وعبثي كالذي يعرفه المغرب حاليا ويتحكم فيه المخزن كما يريد ويتلاعب بالأحزاب وبالإرادة الشعبية. وهو اختيار يقود إلى النفق المسدود. 2. أي جاذبية سياسية استأثرت بها هيئة دون أخرى في تفاعلها مع الحراك المجتمعي بالمغرب، اللهم إلا السطو على مطالبه الاجتماعية !! الكل أصبح يعلم الثمن الذي أداه حزب العدالة والتنمية مقابل تسييره لدواليب الحكم باسم "الحكومة الملتحية"، ولو اقتضى الأمر استعمال لغة القمع المباشر وحرب الإشاعات الكاذبة لإبعاد القاعدة الشعبية عن الحركات الاجتماعية وتخويفه من جماعة العدل والإحسان، تارة باستعمال الخطاب الديني الذي يعتمد على "الفقه المنحبس"، وتارة باستعمال الخطاب السياسي الذي يعتمد على الاستئصال والوصاية. إن جاذبية الجماعة تكمن في دعوتها الصريحة إلى ميثاق يضم المكونات الفاعلة في البلد بغض النظر عن التوجهات السياسية ويتوافق على إقرار مجتمع مستقل أخوي وديمقراطي تسود فيه الحريات العامة والاختيارات الحرة. فالجماعة مع كل حلف يناهض الاستبداد ويعمل على إقرار الديمقراطية والجماعة مع القيم الإسلامية الايجابية المصرة على انتزاع الحقوق وإثبات العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة. 3. لا ينكر أحد أن للمرشد عبد السلام ياسين مكانة كبيرة عند أعضاء الجماعة. كيف لا وهو رحمه الله العلاّمة المربي المحبوب عند الناس بقيادته الحانية وبأخلاقه العالية وبعطائه المستمر. وهذه الأمور وغيرها من الصفات الإيجابية جعلت له تقديرا داخل الجماعة وخارجها. وهذا التقدير ما أخرجه يوما عن بشريته ولا جعله فوق التداول الشوري الديمقراطي عند اتخاذ القرار داخل الجماعة. لكن مع الأسف، إن الارتباط بالقيادة في عصرنا على أسس الأخوة الإيمانية والمحبة والتقدير والاحترام أصبح غير مفهوم في بعض الأحيان واختلط عند البعض بطقوس الخضوع الأعمى والخوف من البشر، وربما التملق والزبونية وتوظيف الدين في التسلط على رقاب الناس. هذا ما أكد عليه المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله في توجيهاته لأعضاء الجماعة ومؤسساتها، في كلمه ووصيته، حتى لا تقع الجماعة في مزالق إسلام الانزواء الذي يعيش أصحابه في عالم الأحوال والأذواق أو إسلام الفقه المنحبس الذي يكبح أصحابه الاجتهاد أو إسلام الحركة الجوفاء التي تجعل المرء يتبع السراب ويعيش وهم الديمقراطية ويظن أن فقعاته في فضاء السياسة والإعلام فعلا فاعلا...