1. بذرة المنهاج النبوي فاتح شعبان 1401 ه الموافق ل يونيو1981م،بدأ الأستاذ عبد السلام ياسين حفظه الله،بنشر مضامين المنهاج النبوي ،وانتهى بنشره في فاتح شعبان 1403ه الموافق ل ماي 1983م على صفحات مجلة الجماعة (من العدد الثامن إلى العدد الحادي عشر). سنتان لنشر مضامين المنهاج النبوي على صفحات مشرقة من مجلة الجماعة،في ظروف صعبة في الطبع والتوزيع... قام بها جنود خفاء منهم من انتقل إلى الرفيق الأعلى ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.سنتان متتاليتان، فترة خروج فكر الرجل إلى الناس. قضاها في الدعاء والتضرع إلى الله تعالى ليرى المنهاج النبوي النور موازاة مع بناء الجماعة حاملة المشروع، بذلك وصف الأستاذ عبد السلام ياسين المنهاج النبوي بأنه منهاج عمل،حيث يقول: "إن وضوح المنهاج لدينا وتعديله وإغناءه ضرورة عملية لكيلا نسير بالارتجال وفي الغموض." أذكر بالمناسبة حوارا حضرته حينئذ – وأنا ابن السادسة عشرة - للأستاذ عبد السلام ياسين حفظه الله مع الوالد أحمد الملاخ رحمه الله ، حول المنهاج النبوي ورغبته بأن يخرج المكتوب للناس من أهل العلم والفكر ورجال الدعوة من أجل المدارسة والأخذ والرد، فدعا دعاء طويلا بمراكش.. شهدت اليوم،بعد ثلاثين سنة استجابة الله لهذا الدعاء المبارك بإستامبول، حيث حج علماء وأكاديميون وباحثون من كل فج عميق لمدارسة المنهاج النبوي على أرض الخلافة في شهر محرم الحرام 1434...وبدأت أفهم القطف 12 من قطوف المرشد حفظه الله: اِخْضَلَّ رَوْضِي وشَعَّ النور من بَصَرِي - وانْجَابَ عني قَتَامُ البؤس والغِيَرِ وخاطبتني المعالي واستَوَتْ هِمَمِي - بِجانب الشمس قُرْبَ الأَنْجُمِ الزُّهُرِ نَضَوْتُ عني ثيابَ الوَهْنِ وانطلقت - عزائِمي مُمْضِيَاتٍ سَطْوَةَ القَدَرِ ذاقَ العِدا مُرَّ بطْشِي واحتمت أمم - مستضعفون براياتي وفي وَزَرِي أحييتُ مِلَّةَ من سَنَّ الجهادَ لنا - دينا قويما وصحَّى غافِيَ الفِطَر محمد، بِيَدي أخرجتُ سيرتَه - لواقع الخُبْرِ من مستودع الخَبَرِ صلى عليه إلهي ما غَدَا فرحاً - في جنة الخُلد حيٌّ زُفَّ للسُّرُرِ 2. إرادة صاحب المنهاج النبوي: يقول الأستاذ المرشد حفظه الله في الدباجة التعريفية للمنهاج النبوي: • نريد أن نعرف نحن إلى أين نسير وما هي العقبات وكيف نسير. • نريد أن يفهم الناس جميعا أهدافنا وأساليبنا وأخلاقنا سيما والحرب الإعلامية علينا تبرر الاضطهاد الموجه إلينا. • نريد أن يعلم الخاص والعام أم مطالبنا وعزمنا وأهدافنا وما نريد لهذه الأمة المعذبة من خير وما نحمله من رسالة للإنسانية وما نضمره من جهاد لإعلاء كلمة الله في الأرض أمور واضحة في تصورنا حية في ضميرنا وضمير كل مسلم ومسلمة مخلصين لله معتمدين على الله سائلين في سبيل الله. 3. عقبات في طريق المنهاج النبوي: خرج المنهاج، وانتظر الرجل من يناقش المكتوب ويفتل في خيط بناء جماعة المسلمين وتقوية رابطتها. لكن... صدق من قال:"القرب يعمي و القرب حجاب". تنكر القريب قبل البعيد من بعض أهل المغرب للأستاذ عبد السلام ياسين حفظه الله، منذ عقود،حينما عرض تجربته الشخصية في مجال التربية،كما فر منه الصديق وخافه المناوئ حين نصح الحاكم ونبه العلماء وذكر النخب بواجب الإصلاح والتغيير في رسالة"الإسلام أو الطوفان". فكانت محنة الاعتقال والحصار الذي استمر لأكثر من ثلاثة عقود.رغم ذلك استمر الرجل في جهاد البناء والدعوة والكلمة الصادقة، كل ذلك مسطور في أكثر من ثلاثين مؤلفا على قاعدة المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا. قليل من أهلنا في المغرب من اطلع على مصنفات الأستاذ عبد السلام ياسين، لأن مغنية الحي لا تطرب،إلى أن جاءنا أهل المشرق العربي والشمال الأوربي والأمريكي مطالبين بالتعريف بالرجل وضرورة إخراج فكره للعالم، فالأستاذ عبد السلام ياسين ملك الأمة كلها. من أجل ذلك تم تنظيم مؤتمر "مركزية القرآن الكريم في نظرية المنهاج النبوي للأستاذ عبد السلام ياسين" بإستامبول، أيام 17 و18 محرم 1434 الموافق ل 2 و3 دجنبر 2012. 4. خصائص المنهاج النبوي: هذا المؤتمر كان مناسبة لكل مشارك من أبناء مدرسة العدل والإحسان أن يؤكد عقله ما تتذوقه حواسه في مجالس جماعة العدل والإحسان،كما أنه كان مناسبة للباحثين لإبراز خصائص المنهاج النبوي،التي أجملها المشاركون في أشغال هذه المحطة التاريخية على أرض تركيا،في ما يلي: الربانية،مركزيةالوحي،الجمع،الكونية،الأصالة،القصد،التوازن،الإيجابية،العلمية،العلاجية. _ الربانية: المنهاج النبوي تشخيص لواقع الأمة واقتراح لآليات البناء،بعد تثبت واستبانة،لا رص لما يتبادر ويعثر عليه،وصفا واضح أن الهم فيه ليس مجاملة أحد أو مراعاة جهة.إنما الهم هو أداء أمانة والقيام بشهادة والإدلاء بنصيحة.وقد جاء المنهاج النبوي مستدرجا بين أسطره للخصال العشر لشعب الإيمان- البضع والسبعين- بحيث أنها نظمت نظما متناسقا ومتكاملا. _ مركزية الوحي: المنهاج النبوي ليس كتابا في السياسة ولا في الحضارة ولا في الاجتماع فقط،وإنما هو تسليط أنوار الوحي على كل هذه القضايا،وموضعة لها في سياق الرؤية الإسلامية الشاملة المستمدة من القرآن الكريم. المنهاج النبوي جهد حثيث لواضعه يبرز أن آليات استنباط الهداية والأحكام والمواقف من الوحي تتجاوز قوقعة الأدوات والوسائل الاجتهادية، إلى ضرورة إعمال إرادة وقوة الاقتحام. _ الجمع: يسود اليوم منطلقان رئيسيان في معالجة قضايا الإنسان والمجتمع،وما يتصل بهما ويحوم حولهما،لكل مآلاته ونتائجه: المنطلق الأول: يعتبر أن الإنسان في قلب الأكوان،فهو يخضع لها حين اضطرابه في جنباتها،ويتقبل أحداثها أو يسهم في صنعها،وهو منطلق يعطي للتناولات الصادرة عنه نكهتها وصبغتها.إنه المنطلق الأغلب والسائد في حركية المجتمعات. المنطلق الثاني:يعتبر الأكوان في قلب الإنسان،فهو المسؤول- وليس القادر فحسب- عن الفعل فيها وهي في وجودها العيني المشخص تتشكل بحسب قلب الإنسان المتقلب فيها.وهذا المنطلق كسابقه تصدر عنه تناولات لها نكهتها وصبغتها ومآلاتها،وهو منطلق يعز حضوره في أغلب ما يروج من الأطروحات والمعالجات. المقاربة المنهاجية تعتمد المنطلق الثاني بقوة،سواء في التناول أم في الاستخلاص،أو في طرح الموضوع والاتصال به ابتداء أو في ختمه والانفصال منه بنتائج انتهاء.وهذا ما يمكن أن نصطلح على تسميته بالجمع في مقابل التفرقة أو "الأمر الفرط". - الكونية: المنهاج النبوي حمل نفسا تعارفيا قويا ناجما من رؤية إنسانية كونية لا تحجر واسعا.يوظف مكتسبات العقل البشري في العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة،ويعطي للإنسان مفتاح قلبه حتى لا تضطرب جوارحه،وليخرج العقل من سيطرة الهوى إلى سيادة الوحي. - الأصالة: المنهاج النبوي:عودة إلى الذات،إلى العجنة الفطرية،التي خلق عليها الإنسان،وتحذير من الانسلاخ تحت دعوى الواقعية أو الانفتاح،ومن النقض والنكث والانسياح بدعوى الصلح والحوار والتوافق. فالمنهاج يتجانف عن هذه الأرضية المريجة نحو أرض الإسلام والشرعية الركينة،بحسب مقتضى الوحي. - القصد: المنهاج النبوي بصيرة مكونة من مجموعة بصائر،قد يخال المرء عند اكتشاف مفاهيمه لأول وهلة،أنها قابلة للترتيب والتركيب على شاكلة أخرى.لكنه بعد قراءة آخر كلمة منه وإعادة النظر كرة أخرى،يرى عدم سوغان ذلك،لأن البصيرة الكلية التي يتغيى المنهاج إبلاغها ستندثر كما يندثر مفعول الدواء ذي التركيبة الدقيقة المحددة. - التوازن: المنهاج النبوي يتأبى على التجزيئية التي يفرضها التناول المتداول عند أغلب المنظرين،حيث الإصرار على النظر إلى القضايا والأحوال باعتبارها كينونات لها ذاتياتها المنفصلة، ولو افتراضا منهجيا من أجل سبر الغور- بحسب الزعم- افتراض يكون له أثره السلبي البارز في مرحلة الاستنتاجات. فالمنهاج النبوي ينظر إلى القضايا والأحوال،ماضيها وحاضرها ومستقبلها،وإلى الحياة والأحياء واضطرابهم في جنبات الكوكب وأرجاء الكون ينظر إلى كل ذلك باعتباره نسيجا متفاضيا لا يمكن تفهمه إلا بالنظرة المتكاملة المشبعة بالروح الميزانية التي ترمق بمقلتين: شرعية أمرية و قدرية كونية دنيوية واقعية و أخروية همية مشخصة تاريخية و استشرافية مستقبلية - الإيجابية: المنهاج النبوي يجعل من همه إيقاف تداعي التردي واليأس، ورفع هامة الهمة،وزرع روح الإيجابية والمبادرة المستهدية بهدايات الرؤية الكلية الشمولية المنضبطة بالضوابط المنهاجية كما بينها الأستاذ عبد السلام ياسين حفظه الله في مؤلفات له أخرى. _ العملية: المنهاج النبوي طرح يدعو بوضوح إلى مزاوجة تناول القضايا وبحثها بإعداد الناس وعيا ووجدانا،وتبصرتهم بأدوارهم ومسؤولياتهم تجاهها.ومن ثم نفهم وظيفة المنهاج تربية وتنظيما وزحفا على شكل برنامج عمل واضح المعالم ومحدد الأهداف. _ العلاجية: المنهاج النبوي وصفة نبوية لتطبيب الأمة من أدواء الأمم بوصف الأدوية من خزان الشفاء والرحمة- الوحي- مؤداه تجديد الإيمان الذي يخلق في القلوب،ويصبح القلب والعقل في نسق مندمج تتولد عنه إرادة وقوة الاقتحام من أجل البناء. عشر خصائص استخلصها المؤتمرون في مؤتمر"مركزية القرآن الكريم في نظرية المنهاج النبوي"،وكانت فرصة سانحة كريم سخية لصحبة رجل وفقه الله- ولا نزكي على الله أحدا- لأن يصعد فوق صرح جهاده ودأبه وصبره وحرصه على الخير،اقتحاما للعقبة وسعيا نحو الأفق المبين،والإطلال معه على قضية من القضايا ملحاحية على الخلق وأزا لهم،قضية أم القضايا:علاقة العدل بالإحسان. 6. ثمرة من ثمار المنهاج النبوي مؤتمر كان حقا مناسبة لإعادة اكتشاف علم المنهاج النبوي، حيث استمعنا لشهادات غيرنا من خبراء التربية ورجال الدعوة ومنظري الفكر والبحث العلمي...الذين أجمعوا على أن: الأستاذ عبد السلام ياسين وفقه الله تعالى لتحديد وجهة بوصلة المسلمين أفرادا وجماعات نحو قبلة القرآن الكريم .فلا العقل يتيه في متاهات علوم الأكاديميين،ولا القلب يؤسر بأحوال زوايا المريدين. المنهاج النبوي حل أزمة العقل والنقل والإرادة،كما حذر من إسلام الزهادة والهروب من المجتمع،والإسلام الفكري،والحركية على حساب التقوى:ثلاثة مزالق وقع فيها المسلمون بعد الخلافة الراشدة أفرزت انحرافات جعلت أهل الدعوة تحت إمرة أهل السلطان. المنهاج النبوي تشخيص لأمراض الفرد والمجتمع، وفي نفس الوقت علاج لها- تربية وتنظيما وزحفا-. علم المنهاج النبوي يضع من يغوص في أغواره أمام قضايا متنوعة ومتداخلة: كالتربية والتغيير والتعليم والإعلام ونظام الحكم...موضوعات مختلفة، لكن قطب رحاها الإنسان- الصندوق الذي استعصى على علماء النفس والاجتماع والسياسة والبيولوجية أن يجدوا له مفتاحا يفتح مغالقه ليفهموا حقيقته ويلبوا رغباته ويهذبوا نزواته. علم المنهاج النبوي يسبر أغوار الإنسان،لبنة الأمة ليأهل لقيادتها قيادة رشيدة.سبر رفيق وخطاب رحيم يميز المنهاج النبوي ببلاغة الكاتب وقوة اختيار المفاهيم المنهاجية وربطه بالواقع المعيش والمستقبل الموعود. وبعد القراءة تحدث المعاناة التي تجعل المرء يبحث عن أجوبة لأسئلة لتنتهي بقناعة من القناعات...لكن المنهاج النبوي مرآة لكل من يقرأه ليعرف مبتدأه وليصل إلى خبره.وخبر الإنسان مصيره عند الله يوم العرض عليه. قراءتي للمنهاج النبوي، قراءة نص محكوم بسلطة الكلمة البليغة والبيان الواضح والأسلوب الأخاذ،فهي إذ تأخذ الفؤاد وتستحوذ على الفكر تفتح المجال على آفاق فتحتها مؤلفات أخرى وتداولتها مصنفات المرشد حفظه الله. فلا التناص أقصد بالإشارة إلى المؤلفات ولا التناول الموضوعاتي في الآن والتطور التاريخي في الزمان،إنما أنطلق من مفاهيم حددت من قبل وطبعتها التجربة الشخصية للأستاذ المرشد لمن أراد أن يسلك طريق الهداية وإقامة الوجه لله،ثم تبعها تأسيس جماعة متعاونة على البر والتقوى وبانية لرجال متحابين مجاهدين لإقامة الدين في المجتمع. تتميز تجربة الأستاذ عبد السلام ياسين بكشف تجربته الشخصية وعرضها على الناس، كل الناس،من أجل بناء دولة القرآن ومجتمع الإخاء بالخروج من بوثقة -الأنا- التي تسقط صاحبها في فخاخ المهالك من استعلاء على الخلق وإعجاب بالعقل وفتنة المال وجبروت السلطة... إلى فسحة الإيمان ونكران الذات بصحبة جند الله. يقول الأستاذ المرشد حفظه الله:"جماعة لا مجتمع" أي جماعة مربية ناشرة للرحمة داعية إلى الخير، لا مجتمع تكاثر وتنافر وكراهية. جماعة محورية تجمع الإرادات القوية والنيات الصادقة. جماعة داعية تنصح الحاكم والمحكوم والمناصر والمخالف. جماعة تدعو إلى نبذ التنابز بالألقاب والصبر على الآخر حتى يفهم ويتأكد من سلامة الطوية ووضوح الرؤيا لإنقاذ الأمة من ظلم الدولة وإنقاذ الدولة من انتقام الأمة،وذلك بالتربية ونشر العدل وتفعيل الإحسان في أعماق الأفراد وتسهيل التفاعل بين الأفراد بالإخاء والمحبة وسن سبل إنجاح المشروع المجتمعي بالجهاد الذي يبتدئ بمجاهدة النفس ثم ينتقل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لذلك فالأمة تحتاج إلى إمامة أي قبلة تسير نحوها، وإلا وقع الاضطراب والتيه وعدم القصد...وهذا واقع الأمة اليوم. إمامة الأمة في طريقها إلى الله عز وجل تحتاج إلى بوصلة موجهة.والبوصلة الموجهة هي المنهاج المخلص.