مقدمة إن الفصل الدراماتيكي الأخير من الصدام بين المجلس الأعلى للحسابات والبرلمان على خلفية قرار للمجلس الدستوري فهم منه الأول أنه يمنع رئيسه من عرض مشروع ميزانيته أمام اللجنة البرلمانية المختصة يشكل خطوة مؤسفة إلى الوراء تتناقض مع روح الدستور ونصه ومع المعايير والممارسات الفضلى في الحكامة الديموقراطية الرشيدة والتعاون والتفاعل الإيجابي بين المؤسسات ولا سيما بين البرلمانات والأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة، وبدل صب الزيت على النار من الأفضل البحث عن التسوية فكانت الأفكار المعروضة فيما يلي ، بهدف فك الاشتباك بين البرلمان من جهة أولى، وكل من المجلس الأعلى للحسابات والمجلس الدستوري من جهة ثانية ، وقد يستفاد منها بالنسبة لباقي مؤسسات الحكامة من جهة ثالثة، وهذه الأفكار تفترض حسن نية جميع هذه المؤسسات وسلامة طوية مسؤوليها وأعضائها في التنزيل السليم والبناء لمقتضيات الدستور والدخول الآمن والصحيح في العهد الدستوري والسياسي الجديد طبقا لمحددات ومعايير تنسجم مع الخصوصية القانونية والسياسية المغربية من جهة ولا تتصادم مع القواعد والممارسات الفضلى الدولية من جهة أخرى، ولذلك لن أقول أن أحدا من هذه المؤسسات هو على حق أو على باطل ولن ادخل في أية إيحاءات سياسية ، بل سأكتفي بطرح هذه الأفكار السريعة (المقام لا يسمع بالتوسع والتعميق) والمنطلقة من خبرة علمية وميدانية، لعلها تساهم في إنارة الطريق قدما نحو فك الاشتباك وتعبيد طريق المصالحة والوئام المؤسساتي بعيدا عن المزايدات والمناقصات بمختلف خلفياتها : 1- النزاع الأخير الذي عرف تصعيدا دراماتيكيا بين البرلمان من جهة والمجلس الأعلى للحسابات والمجلس الدستوري من جهة أخرى، مفاده أن هذا الأخير أصدر قرارا لا معقب عليه، يقول أن المجلس الأعلى للحسابات هو هيئة مستقلة طبقا للدستور ، ويكتسي صبغة قضائية ، استنادا إلى أنه يصدر مقررات قضائية طبقا للدستور ، وعلى هذا الأساس إن كان" لا شيء في الدستور يمنع اللجنة البرلمانية المختصة من النظر في ميزانيته، فإن ذلك لا يعني مثول الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات شخصيا أمام اللجنة المذكورة" ثم يضيف قرار المجلس الدستوري مستدركا : " مع أن للبرلمان أن يطلب من المجلس الأعلى للحسابات إيضاحات بواسطة الأسئلة والاستشارات التي يوجهها له والخاصة بوظائف البرلمان التشريعية والرقابية والتقييمية ذات العلاقة بالمالية العامة" وذلك طبقا لمنطوق النص الدستوري. إذن كانت هذه هي خلاصة قرار المجلس الدستوري بتصرف طفيف جدا. والذي كان الشرارة التي أطلقت فتيل التصعيد المؤسف والدراماتيكي الأخير بين البرلمان والرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات. 2- يتضح بشكل لا لبس فيه أن النزاع الأخير ليس من عنديات الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، وليس تطوعا منه أو حبا منه لهواية مشاكسة البرلمان أو رغبة في التحقير المؤسساتي كما ذهبت إلى ذلك بعض المنابر الصحفية التي تعشق الإثارة والركوب على النزاعات لتصعيدها؛ فلقد استند الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات ، الذي أشادت بدماثته نفس اللجنة عند حضوره لتقديم مشروع ميزانية المجلس الأعلى للحسابات، في بداية السنة بخصوص ميزانية 2013 ، وعبر الجميع عن بداية أجواء ودية جديدة تقطع مع التشنجات التي طبعت العلاقة بين المجلس الأعلى للحسابات والبرلمان على عهد رئيسه السابق، استند لمنطوق قرار المجلس الدستوري ولدلالة عبارة " لا يعني مثولComparution الرئيس الأول أمام اللجنة" كما فهمها أو كما أشير عليه بفهمها، على أنها منع صريح له من الحضورالشخصي لأشغال اللجنة لتقديم مشروع الميزانية، على اعتبار " أن المجلس الدستوري يمنع مساءلة البرلمان لرؤساء هيئات الحكامة والرقابة، وأن قرار المجلس الدستوري الأخير يمنعه من الحضور الشخصي لتقديم مشروع الميزانية. ولا شيء في الدستور يلزمه بالحضور الشخصي" حسب ما نقل عنه رئيس اللجنة البرلمانية المختصة الأستاذ محمد حنين المنتمي لحزب التجمع الوطني للأحرار. وعليه فإن احترام الشرعية الدستورية التي يعتبر المجلس الدستوري أول حارس لها يفرض عليه الامتثال لقرار المجلس المذكور الذي كما هو معروف لا معقب لرأيه. 3- إن النزاع بين البرلمان والمجلس الأعلى للحسابات ليس وليد اليوم بل هو ابن ربيع 2011 ، أي زمن بدايات الربيع العربي؟ ياللمصادفة ، عندما طلبت نفس لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان التي كانت برئاسة الأستاذ المصطصفى الرميد وزير العدل حاليا زيارة استطلاعية، أكرراستطلاعية، للمجلس الأعلى للحسابات من أجل التعرف على طريقة تدبيره الإداري والمهني بخصوص صلاحياته غير القضائية، ولا سيما موضوع التصريح بالممتلكات. وبقطع النظر عن الحجة الفاصلة عن حق بين ما هو قضائي وغير قضائي في صلاحيات المجلس الأعلى للحسابات والتي سبق للأستاذ الرميد أن أثارها نيابة عن نفس اللجنة البرلمانية عندما قررت اللجنة القيام بزيارة استطلاعية للمجلس فرفضها الرئيس السابق بطريقة لا تخلو من فظاظة، علق عليها وزير العدل الحالي آنذاك بأنها تعبير عن " التكلس المؤسساتي".كما هو واضح فمهمة الاستطلاع ليست هي مهمة التحقيق أو الاستماع.. 4- يبدو المجلس الدستوري على حق في دفاعه عن دستورية استقلال هيئات الحكامة والرقابة الدستورية، وهو على حق في مضمون قراره الشهير الصادر في شهر فبراير 2012 بخصوص فحص دستورية مواد النظام الداخلي لمجلس النواب عندما صرح بأن مبدأ الاستقلال يمنع من مثول رؤساء هيئات الحكامة أمام لجان تقصي الحقائق من أجل الاستماع إليهم والتحقيق معهم، على اعتبار أن لا شيء في الدستور يجعل هذه المقتضيات استثناء على مقتضى الاستقلال؛ وهذا المقتضى هو الذي استندت إليه الهيئة الوطنية للنزاهة في رفض مقترح منظمة الشفافية القاضي بجواز تقديم رئيس الهيئة لتقريره السنوي أمام البرلمان ورفعه للملك. وهو الرفض الذي أثار ضجة في الصحافة ولما سألتني أخبار اليوم عن رأيي ، قلت أن موقف الهيئة هو عبارة عن تأويل خاص لقرار المجلس الدستوري الذي يمنع مثول الرئيس للاستماع امام اللجنة البرلمانية ، ولا يفهم منه المنع من حضور présence الرئيس لتقديم عرض أمام البرلمان حول التقرير السنوي على غرار ما هو منصوص عليه بالنسبة للمجلس الأعلى للحسابات (الفصل 148). إذن الدرس المستخلص هنا هو أن قرار المجلس الدستوري بحاجة لمزيد من التوضيح، وهو عرضة للتأويل مادام كذلك، والحقيقة الساطعة أن عدم مثول رئيس الهيئة للتحقيق والاستماع أمام اللجنة ، لا يمنع من حضوره لتقديم تقريره السنوي ، أو لعرض مشروع ميزانيته في نطاق الولاية المطلقة للبرلمان فيما يخص مناقشة الميزانية العامة للدولة بمختلف قطاعاتها وهيئاتها. 5- الحضورإذن لا يعني المثول، ومناقشة الميزانية لا يعني المساءلة الشخصية أو ترتيب المسؤولية السياسية أو الإدارية، فرؤساء هيئات الحكامة يبقون مسؤولين أمام جهة التعيين، لكن روح الدستور والقيم العليا الحاكمة لمضامينه تنحو نحو تقوية البرلمان وتقريب المسافة بينه وبين هيئات الحكامة والرقابة، تنزيلا لمفهوم المراقبة الديموقراطية للحكامة، وهذا يستشف من التنصيص الصريح على تقديم تقارير سنوية من تلك الهيئات للبرلمان وما الفائدة من تقديم تلك التقارير إن لم يكن مد جسور التعاون والتفاعل الإيجابي البناء بين تلك الهيئات والبرلمان... 6- قرار المجلس الدستوري إذن صحيح لكنه غير واضح تمام الوضوح، وغير مترابط مع فقرات أخرى من نفس الفصلين التين استند إليهما ولا سيما الفصل 148، فهذا الفصل ينص صراحة في الفقرة الأخيرة أن الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات ، حرفيا وصراحة وشخصيا يقدم عرضا أمام البرلمان حول تقريره السنوي، ولا اجتهاد مع النص ، فهذا دليل قوي ماحق على أن الدستور لا يغلق باب البرلمان في وجه رؤساء هيئات الحكامة والرقابة، ولا سيما رئيس المجلس الأعلى للحسابات. فيما يخص حصيلة أعمالهم، والحصيلة في المفهوم العصري للتدبير العمومي لم تعد عبارة عن أرقام صماء بل هي استعراض لبرنامج معزز بمؤشرات الإنجاز لكي يتمكن المطلعون على التقرير من محاسبته معنويا على الأقل من خلال كشف أوجه القصور على الملإ، وممارسة الرقابة المجتمعية. 7- رئيس مجلس النواب سبق له أن صرح أمام الملا في ندوة صحافية احتضنها مقر مجلس النواب بمناسبة اختتام دورة أكتوبر من السنة التشريعية 2012-2013، عن مخطط لمراقبة الأموال التي تصرفها الحكومة عبر إحداث لجنة افتحاص النفقات العمومية بتنسيق مع المجلس الأعلى للحسابات، وما يهمنا هنا أنه قال أنه لا يمانع من مراقبة المجلس الحسابات لمالية البرلمان، فهل يجوز على الأقل من باب التوازن، وهو المبدإ الرديف لمبدإ الفصل بين السلط أن يتكرم البرلمان بالسماح لمجلس الحسابات بمراقبة ماليته ولا يتكرم مجلس الحسابات بالسماح للشعب ممثلا بالبرلمان بمراقبة ماليته، ولقد سبق لي ان اقترحت رقابة مالية مشتركة ومتبادلة بين البرلمان والمجلس وربما كانت هذه فرصة لإعادة طرح هذا الاقتراح الذي يحترم مبدأ الفصل ومبدأ التوازن ومبدأ التعاون فضلا عن مبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي يعتبر من النظام العام ، فلا يحق لأي مؤسسة أن تحصن نفسها منه ، بل على العكس على مؤسسات الرقابة والحكامة بدون استثناء وعلى رأسها البرلمان، أن تعطي القدوة والمثال في تمثل مفاهيم الحكامة وتقديم الحساب والشفافية والمسؤولية. هذا كان عن مراقبة مالية المجلس مراقبة دائمة.. 8- لكن نتحدث في الحادثة المأساوية الأخيرة، عن سلطة البرلمان في مناقشة والتصويت على ميزانية الدولة ومنها ميزانية مجلس الحسابات واستتباعا ميزانيات هيئات الحكامة، ومادامت ميزانية هذه الأخيرة تندرج في الميزانية العامة للدولة فإنها تخضع للرقابة البرلمانية على ميزانية الدولة وهي هنا مراقبة قبلية، ولا يجوز من باب اللياقة الأخلاقية ، فضلا عن الأعراف الملزمة مناقشة ميزانية هيئة عمومية أمام رئيس وأعضاء اللجنة البرلمانية المختصة إلا مع الآمر بصرفها الذي هو هنا الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، أما رئيس الغرفة فلا يملك حتى التفويض المالي لصرف جزء منها ( يملكه الكاتب العام بتفويض من الرئيس الأول طبقا لمقتضيات مدونة المحاكم المالية) ،وبالتالي فرئيس الغرفة وإن كان ينوب عن الرئيس الأول فإنه لا صلاحيات مالية له . 9- على المجلس الدستوري أن يتابع جيدا الممارسات الدولية ولا سيما في مجال التدبير الجديد للمالية العامة والتحولات المقبلة في القانون التنظيمي للمالية والتي نحن قاب قوسين أو أدنى من بداية تجريبها، والتي تتجه نحو التخلي عن التصويت لأبواب الميزانية إلى التصويت على برامج ومهام القطاعات العمومية وهذا هو المنطلق نحو مفهوم تقييم البرامج والمهام والسياسات العمومية ، إذ سيقترن التصويت على أي مصروف مالي بناء على ما تحقق من أهداف ونتائج للبرامج والمهام، ومن هنا مفهوم التقرير السنوي حول أداء المرافق العمومية، وبالتالي فالرقابة على الميزانية ستتحول بالتعريف في ظل القانون الجديد التنظيمي للمالية إلى رقابة على الأداء ، فإلى أين المفر؟ 10- المجلس الدستوري يبدو منشغلا بالمواقف الرافضة أكثر من البحث عن بدائل إيجابية، ويبدومن التجربة أنه يصدر صياغات جدالية لا تخلو من غموض فيأتي المسؤولون العموميون ليعطوها تأويلا تطبيقيا مغرقا في المحافظة والتراجعية ، (نموذج تأويل قرار المجلس الدستوري من طرف هيئة النزاهة على أنه منع لرئيسها من دخول البرلمان).ويبدو كذلك أن المجلس الدستوري بحاجة لخبرات في مجال الحكامة والمالية العامة وقضايا حسن التدبير على غرار نظيره الفرنسي فالتطورات الدستورية والممارسات الدولية تقطع مع القراءات الكلاسيكسية المغرقة في النصوص الحرفية، وقد استدمجت التجارب المقارنة مفاهيم الحكامة وحسن التدبير ضمن الاجتهادات القارة من قبيل مفاهيم الفعالية والنجاعة والمحاسبة والتعاون بين المؤسسات ... ومن هنا فتعبير المجلس الدستوري أن نظر البرلمان في ميزانية المجلس لا يعني المثول الشخصي لرئيسه أمام اللجنة ، يمكن تجاوزه دون التصادم معه، من خلال تعبير أن حضور المجلس لعرض مشروع ميزانيته لا يعني المثول امام اللجنة للمساءلة والتحقيق معه. وحضوره تقتضيه المعايير الاخلاقية والقواعد العرفية والنجاعة العملانية باعتباره الآمر بالصرف للميزانية المذكورة، وليس فيه أي مساس باستقلاله أو تبخيس لوضعيته الاعتبارية.. كما أن هذا الحضور فيه انسجام وثيق مع القراءة المترابطة لمجموع فقرات الفصل 148 من الدستور ولاسيما الفقرة الأخيرة التي تلزم الرئيس الأول بالحضور من أجل تقديم عرض حول التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات. العرض الذي تتلوه بنص الدستور مناقشة عامة. هذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ، ولا يحتاج لجدال عقيم. خلاصة القول بإمكان الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات الحضور وليس المثول أمام اللجنة البرلمانية المختصة من أجل تنويرها حول وجهات المخصصات المالية وتبريراتها وعرض رؤيته حول طرق ممارسة المجلس لاختصاصاته دون أن يعني ذلك الاستماع له في نطاق التحقيق والمساءلة ، وهذا المعنى الأخير هو مناط قرار المجلس الدستوري ولا يجوز التوسع فيه حتى لا تتحول العلاقة بين المجلس والبرلمان إلى علاقة حذر وتحفظ متبادل ، وليس هذا هو روح ونص دستور 2011 ، ولحل مشكلة من سيملك جرأة النزول من فوق الشجرة، سيكون المجلس الدستوري مشكورا لو تكرم بتقديم رأي توضيحي من تلقاء نفسه أو بطلب من البرلمان أو المجلس الأعلى للحسابات أو منهما معا ، وقد يكون هذا الرأي التوضيحي هو بداية الحل لهذا النزاع المؤسف الذي نرجو أن ينتهي ليتفرغ الجميع لما هو أهم وهو الإسراع في تنزيل الدستور وتحضير الأطر القانونية والمؤسساتية المنسجمة مع روحه ونصه في نطاق الحكامة الديموقراطية الرشيدة التي تعلي من شأن الشفافية والمحاسبة وسيادة القانون بدون انتقاء أو استثناء. والله أعلم. *دكتور دولة في الحقوق رئيس مركز الأبحاث والدراسات حول الرقابة والمحاسبة ومكافحة الفساد محاضر في المالية العامة والقضاء المالي والقانون الدستوري بكليات الحقوق عضو شرفي بنادي القضاة