تأكد عمليا، في عالم اليوم، أن الدبلوماسية أفضل بكثير من الحرب، كما تأكد بالملموس أن الخضوع ل"القوة الناعمة" أسوأ من الخضوع للاستعمار، لأن الأخير يحرك "المقاومة"، بينما تساهم "ألعاب القوى الناعمة" في تفكيك المجتمعات، عن طريق تكريس "الخيانة الناعمة" كسلوك لدى الجماعات والأفراد. في هذا العالم يجب على كل دولة أن تحمي نفسها، من خلال التفاعل مع القوى العالمية السائدة في الاتجاه الصحيح، لأن توقف اللعب يعني الدخول في الحرب.. و"الفاهم يفهم". وقد امتلك المغرب شجاعة كبيرة في السنوات الأخيرة، أهلته للتوقيع على مبادرة "الحزام والطريق" دون مشاكل تذكر، بعد معركة دبلوماسية حاسمة مع عدة دول أوروبية، جرت في الخفاء، ومنها ما جرى في العلن، وشهدت عليه كبريات وكالات الأنباء العالمية. بالنسبة للدول الأوروبية قد تبدو العلاقة مفهومة، طالما أن المملكة لم تعد تقبل "الدلع" بدون مقابل، لكن انضمام المغرب إلى مبادرة "الحزام والطريق" قبل أيام من خلال توقيع وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة، و"ونينغ جي تشه"، نائب رئيس لجنة التنمية والإصلاح في جمهورية الصين الشعبية، على خطة تنفيذ المبادرة، عن بعد، يعني أن المملكة مرت إلى السرعة القصوى في ما يتعلق بسياسيتها الخارجية؛ فاختيار التعامل مع الصين كفيل بإغضاب عدة مراكز للنفوذ العالمي، سواء تلك الموجودة في أوروبا أو أمريكا. ولمعرفة حجم وعمق المبادرة، تكفي فقط إطلالة على التاريخ، ذلك أن مبادرة الرئيس الصيني، التي تحمل عنوان "الحزام والطريق"، ما هي إلا إحياء لأعظم الطرق في التاريخ، وهي "طريق الحرير"، تلك الطريق العابرة للقارات، عبر البر والبحر، انطلاقا من الصين وكازاخستان وأوزبكستان، مرورا بعدة بلدان؛ بل إنها تلك الطريق التاريخية التي غدت عدة حضارات كبرى، كالحضارة الصينية والمصرية والهندية والرومانية. ولأن الصينيين لا يلعبون فقد خصصت الصين ملايير الدولارات كاعتمادات لإنجاح "نسخة متحورة" من هذا المشروع، وأقنعت ما يزيد عن 123 دولة بجدوى الانخراط فيه. والمفاجأة هي أن الصين تقدم في بعض الحالات قروضا بالمجان، ودعما لإنجاز بنية تحتية عملاقة، لم يكن يحلم بها بعض الشركاء، بما يشمل تلك الدول التي تدعي القوة في مواجهة المغرب. وقد أحسنت المملكة فعلا بالتحاقها بهذه المبادرة، لأن طريق المستقبل هو "طريق الحرير"، أما الحروب والنزاعات الصغيرة فلا مستقبل لها، مثلها مثل الكيانات الوهمية، حيث لا مجال للحياة في عالم الغد إلا أمام الكبار؛ أما الذين سيخطئون الاختيار فسيتحولون إلى مجرد "قرابين" في السوق الدولية، ولن يبكي عليهم أحد، لأن الوقت لا يسمح. يبقى التأكيد واجبا على أن طريق الحرير ليست طريقا ناعمة دائما، كما أنها ليست مخصصة حتما لتجارة مادة الحرير وحدها، فهذه البنى التحية الموعودة تفوق الخيال، ويكفي في هذا الصدد قراءة التقارير الأمريكية التي تتحدث عن فشل أمريكا في تطويق مبادرة "الحزام والطريق"، بسبب ضعف قدرتها الاستثمارية، بينما الصين تعد اليوم القبلة الأولى للاستثمارات العالمية باعتراف تقارير منظمة الأممالمتحدة. كما أن وجود المغرب ضمن شركاء الصين، رغم أنها تبدو مثل شراكة بين الفيل والنملة، يجعل الأمل يكبر في أن تلتحق بيكين بنادي المعترفين بمغربية الصحراء؛ وعندها سنكون على الطريق الصحيح مائة بالمائة.