خلصت في مقال " لماذا أرى أن الصراع والتنافس بين القطبين الصيني – الأمريكي، سينتهي بعقد اتفاق جديد مشابه لما حصل بعد الحرب العالمية الثانية.." أرى أنه من الخطأ التفاؤل و الرهان على الصراع بين الصين و أمريكا خاصة بالنسبة للعالم العربي و الإسلامي، لأن التغيير في النظام الدولي و الحد من هيمنة الولاياتالمتحدة مرتبطة بمدى قدرة الصين على المخاطرة و تحمل أعباء التغيير، و من يدرك عقلية القيادة الصينية و التحديات التي تواجهها- و قد بينا ذلك في أكثر من مقال و محاضرة و مداخلة تلفزيونية- سيدرك جيدا بأن الصين ستدعم استمرار النظام الدولي القائم و الترتيبات الأمنية المعمول بها منذ إنهيار المعسكر الشرقي، و أننا سوف نشهد تحالف بين الصين و أمريكا في عهد "جوبايدن" أو على الأقل تهدئة الأوضاع بينها و التوصل لنوع من الهدنة، وجلوس الطرفان على طاولة المفاوضات، فالحروب و الأزمات تنتهي باتفاقيات، كما الحربين العالميتين الأولى والثانية، وسينتج عن ذلك نظام عالمي جديد تماما مختلف عن النظام الحالي….خاصة في القضايا الخلافية التي لها تأثير على استقرار النظام الدولي بشقيه السياسي و الاقتصادي-المالي ، و ليس ذلك بفعل قوة أمريكا، وإنما نتيجة لخوف و تردد القيادة الصينية، فأمريكا تراهن على أن الانهيار إذا ما وقع –و هو واقع لا محالة- سوف تتضرر منه جميع البلدان و على رأس المتضررين الصين.. ومن خلال تحليل مخرجات انخراط أغلب البلدان العربية خطة "الطريق والحزام" الصينية، يظهر أن البلدان العربية لم تجني من هذه الخطة إلا القشور، وبشكل غير مؤثر تنموياً، على تطوير صناعات وطنية عربية، تستخدم المواد الخام العربية والتكنولوجيا الصينية الحديثة، بحيث تكون رافداً مهماً للاقتصادات العربية، والصين لا تساعد الدول الأخرى، ما لم تفكر تلك الدول في مساعدة أنفسها، عبر استثمار الحاجات الصينية السياسية والتجارية… لذلك، سيحاول المقال تحليل أبعاد التعاون التجاري الصيني العربي، و يحلل بنية هذا التعاون، وهل يصب في المدى المتوسط و البعيد في صالح نهضة عربية، بخصائص إسلامية، على غرار نهضة الصين وفق ما أصبح يعرف بالاشتراكية بخصائص صينية و إقتصاد السوق بخصائص صينية؟ ولماذا على العرب أن يتعاملوا بحذر مع التغلغل الإقتصادي الصيني بالبلاد العربية، و التحفظ في المراهنة على الشريك الصيني و اعتباره أداة "خيرة" يمكن من خلالها مواجهة "شرور" الغرب المتكبر و العنجهي؟ وهل سينطبق علينا ذلك المثل العربي الشائع: " المستجير بعمرو عند كربته، كالمستجير من الرمضاء بالنار"، فهل التاريخ سيكرر نفس السيناريو مع العرب و باقي القوى الصاعدة من عصر الهيمنة الأوروبية إلى عصر الهيمنة الأمريكية ، فهل سيتم استبدال "الأمركة" ب"الأصينة"؟ دائما ما أكرر على مسامع القراء و المشاهدين هذه العبارة الشائعة التي تقول "أن الصين تفكر من محفظتها" ، و هذه العبارة خير اختزال لسياسات الصين التجارية و الدبلوماسية، وحتى مواقفها تجاه القضايا الإقليمية او الدولية نابعة من مراعاة المصالح الاقتصادية و التجارية، فهناك تغليب ظاهر للمصالح على الأيديولوجيا، لكن ينبغي التعامل مع ذلك بقدر كبير من التريث، فالصين قبل 1989 دخلت في أكثر من نزاع مسلح مع بلدان الجوار ، و اتهمت من قبل هذه الدول بالتدخل و محاولة فرض سيطرتها على آسيا، و هذا الاتهام يصعب تفنيذه، فصحيح أن الصين بعد 1989 ابتعدت عن منطق القوة الصلبة في فض المنازعات و اعتمدت سياسة سلمية تقوم على التعاون و التنمية، إلا أنها بذات الوقت تبنت منهجا سياسيا يقوم على تعزيز قوتها الناعمة، و من ذلك تنصيب نفسها كقائدة للحضارة و الثقافة الكنفوشيوسية، و تعزيز نفوذها عبر توظيف صيني ما وراء البحار خاصة وأن هؤلاء لهم نفود اقتصادي و تجاري بالغ الأهمية في العديد من بلدان آسيا، والتخوف الذي أبداه" محمد مهاتير" ينبغي التعامل معه بجدية، إذ قام الرجل بمجرد عودته للسلطة عام 2018 بإلغاء ثلاث مشروعات إقتصادية عملاقة كانت ستمولها الصين، في إطار مبادرة "طريق الحرير و منطقة الحزام"، وتم تبرير القرار بالتكلفة العالية التي قد ترهق البلاد فيما بعد في سلسلة من الديون التي لا يمكن تحملها، وتتمثل المشروعات الملغاة في مشروع خط سكك حديدية بقيمة 20 مليار دولار أمريكي إضافة إلى مشروعي طاقة بقيمة 2.3 مليار دولار. وقد أوضح " محمد مهاتير" أن بلاده لا تحتاج لهذه المشروعات في الوقت الراهن، واعتبر أن الحكومة السابقة وافقت على دفع مبالغ أكثر مما تستحق تلك المشاريع، و هو ما فسر على أنه انتقاد للصين و سياساتها التجارية عندما حذر مما سماه " نسخة جديدة من الاستعمار".. ولا يعني هذا دعوة إلى عدم المشاركة في المبادرة، فالموقع الجغرافي للعالم العربي و الإسلامي يجعل منه في قلب المبادرة، فهو يوجد في ملتقى الطرق و أداة الربط بين أسيا وإفريقيا و أروبا، لذا فالدول العربية شريك طبيعي للحزام والطريق، و إحياء مجد طريق الحرير القديم ليس مسؤولية الصين و حدها، بل مسؤولية العالم العربي و الإسلامي أيضا ، و طريق الحرير القديم هو ممر لتبادل السلع، شأنه شأن مبادرة الحزام والطريق التي تهدف أولاً وقبل كل شيء، إلى تسهيل التبادل التجاري.. لكن على البلدان العربية و الإسلامية، التعامل مع المبادرة، بقدر كبير من البرغماتية، و عدم الانصياع الأعمى لبعض الطموحات التي لا تستند لأساس واقعي، فالتوجه شرقا لا يقل خطورة عن التوجه سابقا غربا ، والأهم من ذلك هو أن تكون هذه الشراكة في صالح كلا الطرفين وفق منطق "رابح- رابح".. والواقع أني أجد نفسي مضطرا إلى إعادة التأكيد على أن الصين "تفكر من محفظتها " فالسياسة الصينية بعد سياسة الإنفتاح و التحرير توجهت بالتدريج نحو تغليب المصالح التجارية على المواقف الأيديولوجية، فمن من غير المهم أن يكون " القط أبيض أو أسود المهم أنه يصطاد الفأر" و هذه العبارة قالها مؤسس نهضة الصين و مهندس سياسة الانفتاح بعد 1978′′ دينغ شياوبينج"، في أعقاب جولة قام بها إلى اليابان و كوريا الجنوبية وسنغافورة.. صحيح أن التوجه الرسمي الصيني هو توجه ينبذ سياسة القوة و التدخل في شؤون الغير، فالكتاب الأبيض للسياسة الخارجية، يغلب منطق التعاون على الصراع و الغاية القصوى للدبلوماسية الصينية هو التأمين السلس لتدفق المواد الأولية و الطاقية للاقتصاد الصيني، و تأمين ولوج السلع و الاستثمارات الصينية للأسواق الأجنبية.. لكن السياسة التجارية للصين ينبغي الحذر منها، فالصين تتبع سياسة تجارية ماركنتيلية، قائمة على تحقيق فائض مطلق في الميزان التجاري، فالصين تحقق فائضا تجاريا ضخما مع مختلف بلدان العالم، و هي بذلك تعمق عجز الميزان التجاري لباقي الدول، و دعامتها في ذلك تبني سياسة نقدية تقوم على خفض قيمة العملة و وضع قيود على سعر صرف عملتها مع توسيع إحتياطي البلاد من العملة الصعبة ، و توظيفه في تعميق مديونية شركاءها عبر منح القروض او الاستثمار في سندات الدين العمومي في البلدان المختلفة و إضعاف موقفها التفاوضي، أو توظيف القروض و المساعدات و حتى الاستثمارات للهيمنة على الموارد الأولية في البلدان النامية ، ومن ذلك البلدان العربية و الإسلامية.. وإذا نظرنا إلى حجم المبادلات التجارية بين العالم العربي و الصين سوف نلاحظ أن الصين تحقق فائضا مطلقا في ميزانها التجاري فحجم هذه المبادلات في عام 2017 بلغ أزيد من 200 مليار دولار من ضمنها حوالي 130 مليار صادرات صينية و الباقي صادرات عربية و معظمها من البترول الخام... وإذا نظرنا إلى بنية الواردات العربية من الصين سنلاحظ في الغالب أنها سلع استهلاكية عادية و بعضها هامشي كلعب الأطفال مثلا، وهذه السلع يمكن تصنيعها محليا و توفير فرص عمل و الحد من العجز المزمن في الميزان التجاري مع الصين، فالصادرات الصينية تنافس المنتج المحلي ، و تتبنى أسلوب إغراق يصعب ضبطه ، فحتى منظمة التجارة العالمية عاجزة عن إثبات وجود إغراق، لأن الصين تعتمد أساليب نقدية وتجارية لغزو الأسواق بالسلع الصينية و حتى بالباعة المتجولين و تجار التجزئة من الصينيين..وذلك فيه خطورة على التنمية و إضرار بالصناعات المحلية، و لا تنمية ولا شغل بدون توفر حماية للصناعات المحلية ، ووضع ضوابط لحمايتها من المنافسة الشرسة للصادرات الصينية... ومهما يكن إعجابنا بالتجربة التنموية الصينية، إلا أننا و من دون تردد نغلب مصالح بلداننا العربية والإسلامية، و ضمان حقها في التنمية والنهوض الإقتصادي ، و بنظري أن أفضل خيار لمواجهة الغزو التجاري الصيني هو تقوية التعاون والتكامل الاقتصادي و السياسي بين البلدان العربية و الإسلامية، ووضع سياسة موحدة للتعامل مع الصين و غيرها من القوى الدولية… فالصين تسعى إلى الحصول على أكبر مكاسب تجارية ممكنة في العالم، من دون الظهور بمظهر من يسعى إلى تغيير موازين القوى، خصوصاً في البؤر المتوترة و المناطق التي لها جاذبية دولية كمنطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا، وتضع في اعتبارها أن إنجاز أهدافها الاستراتيجية سيكون أكثر سهولةً من دون إثارة حفيظة الولاياتالمتحدة وباقي القوى الكبرى المؤثرة على المسرح الدولي… بل يمكن القول ان إصرار الصين على التركيز على البعد التجاري الحكومي في علاقتها مع الدول العربية يقود إلى تعزيز المخاوف بالاتجاه تقليد التجربة الصينية في الحكم، و قد رأينا ان العديد من البلدان العربية أصبحت معجبة بالتجربة الصينية خاصة بعد تفشي جائحة كورونا، فالجهود تتجه نحو تقليد "الديكتاتورية " الصينية، و الواقع أني ضد "الديكتاتورية" بشكل عام غربية أو شرقية ، و إن كنت أفضل عمليا تبني مصطلح علمي محايد نسبيا، فلا أحد يستطيع إنكار أهمية "البيروقراطية الصينية" في تحقيق المعجزة التنموية الصينية، لك علينا كذلك الانتباه إلى أن نظام الحكم في الصين ينسجم مع طبيعة و سيكولوجية الشعب الصيني و لايمكن بأي حال من الأحوال نقل هذه التجربة لشعوب أخرى…نعم ممكن الاستفادة من فعالية هذه البيروقراطية و قدرتها على تحقيق إنجازات عملية و إصلاحات هيكلية في ظرف قياسي…لكن الحرص على نقل تجربتها في تقيد الحريات المدنية و السياسية لا يفيد بلداننا العربية، لأن هذا الجانب يعد نقطة ضعف التجربة التنموية الصينية … في الفترة الأخيرة الصين تدرك جيدا ان شعبيتها في البلدان العربية و الإسلامية تضررت كثيرا بفعل عاملين أولهما : الممارسات الصينية القمعية و المنتهكة لحقوق الانسان في حق مسلمي الإيغور في إقليم شينجيانغ، فما يحدث هو اضطهاد عرقي تجاه الإيغور، و من المؤكد أن أغلبية الشعوب العربية و الإسلامية تعاطفت مع الإيغور ، خاصة و أن الدعاية الغربية نجحت في نقل حجم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان بمعسكرات الاعتقال الجماعي ، أو مراكز إعادة التأهيل وفق الرواية الرسمية… و هذا ما أدى إلى انتشار نظرة سلبية تجاه الصين بين الشعوب العربية و الإسلامية ، قادت بالنهاية إلى تراجع حاد في القوة الناعمة التي عملت الصين على تعزيزها منذ عقود…أما العامل الثاني هو انتشار فيروس كورونا و الذي كان منشأه من الصين ، فلأول مرة في التاريخ يتم فرض حجر على كل شعوب العالم ، و ثانيهما نسبة ظهور فيروس كوفيد 19 وانتشاره إلى الصين… و هذا التراجع يمكن استغلاله ببرغماتية لتحقيق مكاسب تنموية لبلداننا العربية، مكاسب من قبيل فتح السوق الصيني في وجه الصادرات العربية من غير المواد الطاقية، التركيز على قضايا التكنولوجيا و البنية التحتية الصناعية لإقامة مشاريع إنتاجية محلية، بدلا من اعتماد سياسة استيراد كل احتياجاتنا من الصين أو غيرها…تشجيع رؤوس الأموال الصينية على تنفيذ استثمارات بالبلدان العربية تكون موجهة للتصدير مع تشغيل اليد العاملة المحلي… فقبل تفشي فيروس كورونا كان من المتوقع ، أن ينتقل الاقتصاد الصيني من المرتبة الثانية ب13.4 تريليون دولار إلى الاقتصاد الأول عالمياً ب25 تريليون دولار بحلول العام 2023 وليس 2049 كما كان مخططاً له، و هذا الأمر أصبح مستبعدا على الأقل في المدى المنظور، فالاقتصاد الصيني سجل أدنى معدل نمو منذ إنطلاق إصلاحات 1978،مع العلم أن تباطؤ النمو بدأ منذ نحو 4 سنوات و تعمق مع إنطلاق الحرب التجارية بين الصين و أمريكا، كما أن الرواية الأمريكية حول تورط الصين في تصدير الفيروس أو عدم الشفافية بدأت تلقى رواجاً في دول كثيرة، وهذا الأمر يمكن أن يترتب عليه نتائج إقتصادية وسياسية وخيمة، فقوة الاقتصاد الصيني نابعة من التصدير و من نجاحه في إستقطاب الاستثمارات الأجنبية، و علينا و نحن نحلل أن ننظر إلى أهمية الخارج بالنسبة للإستراتيجية التنموية في الصين ، وخاصة الدور الأمريكي الذي كان حاسما في إنجاح إصلاحات ما بعد 1978.. و خروج الصين من مصيدة كورونا و الاتهامات الغربية ، لا يتحقق بالنفي أو بالتنديد، و إنما يتحتم على الصين القبول بتحقيق دولي حول منشأ الفيروس إذا أرادت أن تنجو من هذه الاتهامات، خاصة و أن هذا العداء مدعوم بترسانة إعلامية غربية قوية، تحاول "شيطنة" الصين، و دعم الكراهية ضد كل ماهو صيني، وهو ما يعني بالتبعية ضعف الطلب على السلع و البضائع الصينية، فالصين مطالبة بالقيام بحملة دولية لحشد التأييد و تحسين صورتها في العالم لمواجهة "حلف كورونا" الذي تتزعمه أمريكا، و هذه الحملة ستكلف الصين أكثر مما جنت من بيع المواد الصحية و الكمامات.. الاثار السلبية شملت مشروع طريق الحرير الجديد و الذي أطلقه الرئيس "شي جين بينغ" الصيني في 2013، و يهدف إلى بناء طريق نقل من آسيا إلى أوروبا، تصل لنحو 10 آلاف كيلومتر من الطرق، وخط سكة حديد لنقل البضائع وطريق بحري ينطلق من غرب الصين عبر كازاخستان والأورال وموسكو وصولا إلى أوروبا، وقد أصبحت مبادرة إعادة طريق الحرير من الجديد لربط قارات العالم تجاريا المحرك الرئيس للسياسة الصينية داخليا وللدبلوماسية الصينية خارجيا.. فمن المؤكد، أن هذا المشروع تأثر سلبا بأزمة كورونا، و سيشهد تصدعا في المدى المنظور، بفعل ضعف حماس بعض البلدان المشاركة ، نتيجة لقناعة ذاتية بخطورة التمدد الصيني كما حصل في ماليزيا مع عودة "محمد مهاتير" للسلطة، أو بفعل الخضوع للضغوط الأمريكية لأن "حلف كورونا" الذي تتزعمه أمريكا سيحاول الضغط على البلدان المشاركة في هذا المشروع للإنسحاب منه، عملا بمبدأ بوش الابن " من ليس معنا فإنه ضدنا" ، كما أن حالة الانكماش في الاقتصاد الصيني و العالمي، ستدفع بإتجاه تأجيل عدد كبير من مشاريع طريق الحرير، بل إن أولويات الصين سوف تتغير و تتحول نحو التركيز على الداخل الصيني..و هو ما سنحاول توضيحه بتفصيل في مقال موالي عن شاء الله تعالى … و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون… أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة ..